سيرة الرجل الذي نسي كيف يقرأ
تورنتو ـ جاكلين سلام
لم أشعر بالدهشة حين قال شخص التقيته، إنه لا يحب القراءة، وإنّ آخر قصة قرأها كانت قصة ليلى والذئب، وقصة ساندريلا والأمير، ومن الشعر يحفظ فقط مقاطع من قصيدة استظهرها حين كان طالباً في الإعدادية. هذا الرجل يبدو سعيدا، تزوج وأنجب أطفالاً ويرى «الحياة ممتعة». لكن ما الذي قد يفعله رجل قضى عمره في تأليف الكتب والقراءة، حين يجد نفسه فجأة غير قادر على قراءة كلمة واحدة؟ ماذا يفعل كاتب وضع مخطوط كتابه على الطاولة مساء، وحين استيقظ في الصباح رأى الأحرف غريبة مستعصية، واللغة لم تعد تجد طريقها إلى رأسه وعينيه وقلبه؟!
هذا ما حصل مع الكاتب الكندي «هاورد مانغل» الذي كتب 12 رواية بوليسية حققت أعلى المبيعات، وترجمت إلى لغات عدة، وبعض رواياته تم إخراجها سينمائياً. الكاتب مانغل كان متفرغاً للكتابة ومنها مصدر عيشه، متعته ومعنى وجوده، حين ألمّت به هذا المحنة الكبيرة الشاقة لتقلب حياته رأساً على عقب. في هذا الكتاب، السيرة الذاتية التي عنوانها «الرجل الذي نسي كيف يقرأ» صدر عام 2007 باللغة الإنجليزية، نعايش مع الكاتب تفاصيل هذه الرحلة الصدمة، والدهشة، والضياع والذهول مع فقدان المقدرة على القراءة، في حين بقي الكاتب قادراً على الكتابة. يستطيع أن يكتب، ولا يستطيع أن يقرأ ما كتبه بعد دقائق.
نطالع في سيرته أنه في الصباح استيقظ بشكل طبيعي وتناول صحيفة اليوم، لكن الأحرف كانت تهرب من أمامه، فراح يتخيل أن أصدقاءه قد لعبوا معه لعبة لئيمة ساخرة، وقاموا بتخريب الصفحة الأولى من الصحيفة واستبدال الحروف الإنجليزية بحروف لغة أخرى، وراح يفكر كيف سيرد عليهم «المقلب» حين يلتقي بهم، ولكن سرعان ما ازداد قلقه، حين ترك الصحيفة وذهب ليجرب القراءة في كتاب من مكتبته، فواجهته المشكلة ذاتها.
الكاتب لم يعد قادراً على فك الحرف. يخفي قلقه ويتجمل بالهدوء الحكيم، يذهب ليوقظ ابنه جاك (10 سنوات) ليذهبا معاً إلى المستشفى. يطلب سيارة أجرة، وفي طريقه يراقب الشوارع التي يعرفها جيداً، ويرى الحياة تسير طبيعية كما في كل يوم. حين يصل إلى قسم الطوارئ يلتقي بصديق قديم، يعرف وجهه جيداً لكن الذاكرة لا تسعفه بالاسم بالسرعة العادية. بعد الفحص والتحاليل الدقيقة الكثيفة، يتبين أنه قد أصيب بجلطة دماغية أثناء النوم، أثرت على نقاط معينة في الدماغ، وخربت منطقة الأعصاب المسؤولة عن القراءة، دون أن تتأثر نقطة المقدرة على الكتابة. وهذه الحالة النادرة الحدوث تدعى باللاتينية Alexia sine Agraphia. يبقى الكاتب في المشفى عدة أسابيع لا يكاد يتعرف خلالها على أسماء ووجوه الأصدقاء الذين يزورونه، ولا يكاد يعرف ابنه، وأحياناً يفقد المقدرة على تذكر اسمه الشخصي. كل شيء في ذهنه، وعلى طرف لسانه، لكنه غير قادر على التواصل بشكل طبيعي. ويسأل نفسه بين ساعة وأخرى: وماذا الآن، ماذا سأعمل، كيف سأعيش دون قراءة وكتابة!. من سيدفع فواتير ومصاريف معيشته ومعيشة ابنه الذي يقيم في حضانته. لا يجد أجوبة على هذه الأسئلة، ولكنه يعرف أن ابنه ذهب ليقيم مع عائلة صديقة، وهناك الابن الأكبر الذي قدم ليساعدهم في هذا المأزق. الأصدقاء لا ينقطعون عن تقديم الخدمات ودفع فواتير العلاج والأدوية.
لا يستسلم «هاورد مانغل» لقدره، بل يحاول أن يحتفظ بدفتر مذكرات، يكتب فيه مواعيد الأدوية والعلاجات، وأسماء الممرضات والأطباء، وشيئاً عن مشاعره. يكتب ولا يستطيع أن يقرأ لنفسه. يكتب لكن خط يده يبدو مختلفاً في كل صفحة. بعد المعالجة الأولية والاطمئنان على سلامة حياته ودماغه وذاكرته التي لم تتعرض للتلف الكلي، يخضع لمعالجة دقيقة بإشراف أساتذة مختصين، لمساعدته على إيجاد أفضل الطرق للقراءة ولتطويرها من جديد. يتقدم المريض تدريجياً، ويبدأ بمزاولة رياضة بدنية، يبدأ بالتعرف على المرضى في نفس الجناح ويقضي معهم أوقاتاً ظريفة، يتبادلون خلالها أحاديث عن حياتهم وأسفارهم، والبلاد التي زاروها. كان مانغل يصمت أحياناً خشية أن يفقد المقدرة على تجميع جمل وكلمات مفيدة ومترابطة. ومع الوقت يسمح له بالخروج من المستشفى ليجرب إن كان يتذكر كيف يسير في الشوارع والحارة التي عاش فيها سنوات طويلة. ويرى أن تلك تجربة لا تخلو من الصعوبة. لكنه دائماً كان يجد طريقة لكتابة رموز وإشارات في دفتر يومياته تساعده على التذكر والقيام بالمتطلبات اليومية. بعد فترة من البقاء في المشفى يجد الأطباء أنه يستطيع أن يعود إلى بيته. وهناك تبدأ مرحلة أخرى من التحديات والقلق بشأن القراءة والكتابة والطبخ وتدبير شؤون البيت. فلا يستغرب هو أو ابنه حين يجد علبة أقلام في الثلاجة، أو يجد علب المأكولات الجاهزة في الغسالة. لم يعد يجرؤ على لمس الصحيفة والأوراق المتراكمة التي تصل عبر البريد. كما أنه بقي خائفاً من صديقه «الكمبيوتر» ولم يعد يعرف كيف يبدأ العمل عليه. بعد تجارب كثيرة ومساعدة من ابنه، وكتابة الكثير من الملاحظات، استطاع أن يبدأ علاقة شائكة مؤلمة مع الكمبيوتر والكتابة من جديد. هذا التطور التدريجي لم يكن سيحصل لولا مساعدات خاصة من مشرفين وأساتذة مختصين بدراسة هذا المرض، ومن أصدقاء تبرعوا ببعض الوقت ليساعدوه على إعادة ترتيب حياته. دفتر اليوميات الذي احتفظ به منذ دخوله إلى المشفى ساعده كثيراً على اجتياز المحنة وتحقيق تقدم ملموس، جزء منه نابع من تصميمه الشخصي على التمسك بالكتابة والقراءة التي تغدو حياته بدونها فارغة من كل معنى وقيمة. ولكن بقي سؤاله شائكاً، وقد يستطيع أن يقرأ ويكتب في الحد الأدنى، ولكن هل سيستطيع العودة إلى كتابة الرواية التي تحتاج إلى ترابط أحداث وابتكار شخوص وتحريك الحدث بطريقة مثيرة؟ وهل سيستطيع العودة إلى رواية التحري والكتابة البوليسية تحديداً، وماذا سيفعل مع الناشر الذي كان متعاقداً معه على إنجاز رواية جديدة؟
لم يفقد الحيلة والحظ أيضاً، إذ تعاطف معه جميع أصحاب الشأن وساعدوه على إنجاز عمله. كان يجد من يقرأ له فصولاً مما كتب، ليكتشف نقاط الضعف واللاترابط، ويسجل أثناء القراءة ملاحظاته ليصححها فيما بعد. وبصعوبة ينهي المسودة الأولى من كتابه، الذي يخضع للتنقيح. التصميم على الشفاء دفعه إلى البحث عن كل سبل المعالجة والتقدم. سافر إلى أكثر من طبيب إخصائي في أميركا وكندا، وتبادل معهم نتائج الأبحاث وتكلم عن حالته، وحقق صداقة طيبة مع أحد الإخصائيين، كلّفه فيما بعد بكتابة مقدمة لهذا الكتاب.
يقول في مقدمة السيرة: «اسمي هاورد مانغل، أكتب قصصا بوليسية. هذا ما كنت أجيب به الناس حين يسألونني ماذا أعمل. كنت أستطيع أن أقول إنني روائي أو كاتب، لكن ذلك يخلق صدى مخادعاً في ذهني، وأكون أكثر سعادة بالتصريح بأن كتاباتي بوليسية. وقبل أن أبدأ الكتابة، كنت قارئا. كنت قارئاً شرها…» ثم ينتقل في المقدمة للحديث عن هذا الكتاب تحديداً فيقول: «هذا كتاب حول الدروب التي قطعتها. حول كيف تعافيت، حول الناس الذين ساعدوني، وحول اكتشافي أشياء غريبة عن أسرار وآلية القراءة والكتابة. هذه قصة نجاح، لأنني في نهاية المطاف، أجدني هنا وقد أنجزت هذا الكتاب، بل ونشرتُ أيضاً كتابا بوليسيا جديدا. قد تبدو هذه القصة نوعاً من الدعاية والترويج لكن هذا ليس السبب الذي من أجله كتبت سيرتي. بالنسبة لي من المهم جداً أن أتذكر الخطوات التي ساعدتني على أن أكون ما أنا الآن. وكي أتذكر الجيش الصغير من الناس الذي ساعدوني على ارتقاء هذا الدرب بكل خطواته». ويتابع السرد بلغة جذابة لا تخلو من السخرية والفكاهة والهدوء والحكمة.
يتحدث «مانغل» عن تجربته مع الكمبيوتر والعودة إلى الكتابة بعد مرحلة من التدريب الشاق فيقول:
كل شيء يساعد على البداية الجيدة. ولكن هل سأستطيع أن أكمل جملة بالإنجليزية؟ هل سأستطيع أن أكتب فقرة، مقطعاً؟ هل بمقدوري كتابة صفحة كاملة؟ هل أستطيع أن أبقي على خيط يربط بين الفقرات والجمل؟ هل يجب أن أتوقف عن كتابة الرواية، وأنصرف لكتابة شعر الهايكو؟… لقد كتبت أكثر من اثنتي عشرة رواية، فماذا أريد أن أثبت من جديد؟ ليس هناك من حاجة أن أضع ثانية أصابعي على الكي بورد. ولكن، الكتابة كانت مهنتي. كنت مدمنا على الكلمات. ولم أكن متأكدا بعد إن كنت ما أزال قادراً على كتابة أدب الجريمة من جديد… لكنني أستطيع أن أبدأ رفقة جديدة مع الكلمات رغم الإعاقة التي أنا فيها.».. ص 108