الشريك الفريد
صبحي حديدي
يندر أن يفوز كاتب من أمريكا اللاتينية بجائزة نوبل للآداب دون أن يكون وراء الفوز عامل حاسم بالغ الأهمية، يختفي في إهاب جندي مجهول غالباً، هو غريغوري راباسا، المترجم الذي نقل سلسلة أعمال كبرى خالدة من اللغتين الإسبانية والبرتغالية إلى الإنكليزية. هذه هي حال غابرييل غارسيا ماركيز بصفة خاصة، لأنّ ثمة درجة عالية من الإجماع على أنّ الترجمة الإنكليزية لروايته ‘مئة عام من العزلة’ هي التي جلبت له جائزة نوبل للآداب سنة 1982.
وحين صدرت الرواية بالإسبانية للمرّة الأولى، سنة 1967، تلقى ماركيز النصيحة الثمينة التالية من صديقه الروائي الأرجنتيني الكبير خوليو كورتازار: إعملْ على أن يترجمها غريغوري راباسّا، ولا تدعْ أحداً سواه يقترب منها، واصبرْ عليه حتى يقتنع بها، وانتظره حتى يشاء الله! ذلك لأنّ كورتازار كان يعرف ما يقول، حقّ المعرفة: لقد ترجم له راباسّا أصعب رواياته على الإطلاق، ولعلها بين الروايات القليلة الأشدّ استعصاءً على الترجمة في تاريخ النوع الأدبي بأسره. تلك الرواية، وعنوانها Rayuela بالإسبانية و Hopscotch بالإنكليزية، و’لعبة الحَجْلة’ حسب قاموس منير البعلبكي، أو ‘الخَطّة’ كما نقول في بلاد الشام، هي العمل الروائي الوحيد (في حدود ما أعلم) الذي يمنحك، رسمياً وعلانية، قراءتين مختلفتين! القراءة الأولى ‘تقليدية’، إذا جاز القول، تبدأ من الفصل الأول وتنتهي في ختام الفصل 56، حيث يعلمك كورتازار أنك تستطيع التوقف عن القراءة هنا، بضمير غير قلق أبداً، إذْ أنّ الفصول الـ 99 الباقية يمكن الاستغناء عنها! القراءة الثانية ‘تركيبية’، يقترح كورتازار ترتيب فصولها هكذا: 73 ـ 1 ـ 2 ـ 116 ـ 3 ـ 84 ـ 4 ـ 71 الخ…
أعود إلى راباسّا، إذاً، والشراكة السعيدة التي قادته إلى ترجمة معظم أعمال ماركيز بعد ‘مائة عام من العزلة’: ‘خريف البطريرك’، ‘وقائع موت معلن’، ‘عاصفة الورق’، ‘لا أحد يكاتب العقيد’، ‘في ساعة شرّ’، وسواها. ولم تكن جائزة نوبل هي التتويج الأعلى لتلك الشراكة، لأنّ ذيوع صيت غارسيا ماركيز بدأ في الواقع من ذيوع صيت تلك الترجمة الفريدة، لرواية فريدة، في الأساس، بالطبع. وقراءة غارسيا ماركيز بترجمة راباسا لا تعادل قراءته في أية ترجمة إنكليزية أخرى، بل إنّ المقارنة غير واردة أصلاً، وغير عادلة. وهكذا يمكن القول، دون مبالغة، إنّ الروائي الكولومبي الكبير يدين لمترجمه العظيم بقدر من الفضل لا يقلّ كثيراً عن فضل الأعمال ذاتها.
كذلك يمكن القول إنّ ‘الغزو’ الحقيقي، الذي يمكن أن يُوصف به انتشار أدب أمريكا اللاتينية، وخصوصاً ما يُسمّى بـ ‘الواقعية السحرية’، في الغرب والعالم إجمالاً، لا يدين للكتّاب بفضل أقلّ من فضل راباسا نفسه. لقد كان وراء ترجمة أكثر من 30 عملاً، لكبار كتّاب أمريكا اللاتينية، من أمثال ميغيل أنخيل أستورياس، أوكتافيو باث، ماريا فارغاس يوسّا (حَمَلة نوبل الآداب)؛ وخورخي أمادو، يواكيم ماشادو دو أسيس، خوان غويتيسولو، بالإضافة طبعاً إلى كورتازار وغارسيا ماركيز. وهذا الأخير كان يحلو له وصف راباسّا كما يلي: ‘إنه أعظم كاتب أمريكي ـ لاتيني في اللغة الإنكليزية’. باث اعتبره ‘أعظم مترجمي القرن العشرين’، وكورتازار قال ‘إنه أكثر من مترجم: هو معلّم’. أستورياس، من جانبه، لم يكن يتخيّل كيف كان يمكن لروايته ‘قبطان الرمال’ أن تصل إلى القارىء الغربي، لولا ترجمة راباسّا.
المصادفة وحدها كانت قد قادته إلى الترجمة من الإسبانية، وهو من أب كوبي وأمّ أمريكية، حين عمل مترجماً في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية. إنه اليوم في الثامنة والثمانين، ولكنه يواصل تدريس الأدب الإسباني في جامعة نيويورك، وكان قد أصدر كتاباً بديعاً في لغته ومنطلقاته ونطاق موضوعاته، أسماه ‘إذا كانت هذه خيانة: الترجمة ومظانّها’، اعتبره ‘رحلات متعددة في غوامض حيوات وأزمنة كبار مؤلّفي أمريكا اللاتينية’. عنوان الكتاب يلمّح، بالطبع، إلى المثل الإيطالي العتيق الشائع الذي يقول: ‘المترجم خائن’ Traduttore, traditore، وكأنه من جانب آخر يحثّنا على النظر إليه كواحد من كبار هؤلاء الخونة، وأكثرهم تفانياً وعشقاً لتلك الخيانة!
يعود اسم راباسا إلى الذاكرة كلما فاز أديب أمريكي ـ لاتيني بجائزة نوبل، إذاً، ولم يشذّ فوز البيروفي يوسّا عن هذه القاعدة، هذه السنة، بالرغم من أنّ المترجم المخضرم المتمرّس لا يبدو سعيداً تماماً بالمآلات الفكرية والسياسية التي استقرّ عليها يوسّا في السنوات الأخيرة. ذلك لا يمسّ قيمة النصّ الأدبي ذاته، يقول راباسا، ولكنه قد يثبط عزيمة المترجم بعض الشيء، أو حتى يحبط حماسه، إزاء هذا العمل أو ذاك، كما حين لا يخفي راباسا انحيازه إلى غارسيا ماركيز في سجاله مع يوسّا، حول شؤون شتى.
‘حين تترجم أعمال الأدباء فإنك تترجم نفوسهم وأذهانهم، قبل كلماتهم وجُمَلهم، ولا بدّ لك من أن تُظهر روح النصّ الذي تترجمه، وتبيّن أصالته في اللغة المضيفة’، يقول راباسّا، مشدّداً على انحيازات الأدب الأخرى الضرورية، التي تتجاوز اعتبارات الفنّ وعلم الجمال وحدها، فتشمل أيضاً وظائف المعنى والدلالة والتلقّي، وعلم اجتماع القراءة إجمالاً. فأيّ ‘خائن’ ذاك الذي يرتكب هذه ‘الخيانة’!