صفحات ثقافية

الحصاد الثقافي عام 2010

null
سينما العالم.. أبرز محطات 2010
اللحظة السينمائية الفاصلة للعام 2010 كانت بلا شك فوز أبيتشاتبونغ ويراسيتاكول بالسعفة الذهب من مهرجان كان السينمائي عن فيلمه “العم بونمي الذي يستطيع تذكّر حيواته السابقة” (Uncle Boonmee Who Can Recall His Past Lives). شرّع ذلك الفوز غير التقليدي لفيلم ينتمي إلى التجريب وسينما المؤلف ومن مهرجان هو المنصة السينمائية الأعلى شأناً في العالم اليوم، شرّع الأبواب أمام احتضان سينما مختلفة وحدا بالكثيرين إلى الإطمئنان إلى حال سينما المؤلّف في العالم. من جهة ثانية، جاء الإجماع غير المسبوق على شريط دايفيد فينشر “الشبكة الإجتماعية” (The Social Network) في خواتيم العام 2010 مثالاً على سينما باتت شبه منقرضة: سينما مؤلّف ذات تأثير جماهيري كبير. هاتان اللحظتان موّهتا الحدود للوهلة الأولى بين سينما غير تجارية عموماً مازالت ترى إلى الفن السينمائي عالماً خاصاً مواتياً للبوح الذاتي كما لمناقشة عناوين كبرى من زوايا غير مطروقة وأخرى أميركية هوليوودية، تحرّك الجماهير وترفّه عنهم وتمنحهم مادة للإستهلاك السهل. عدا ذلك، لا نعثر في قوائم النقّاد السينمائيين التي تحاول اختزال العام السينمائي بخمسة أو عشرة أفلام على أفلام جماهيرية، أي أميركية بالدرجة الأولى. حتى الأفلام الأميركية الأكثر استقلالية تكاد لا تشكّل حضوراً يُذكر بين نظيراتها من سينما أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وشرق آسيا. الإستثناءات بهذا المعنى قليلة تنحصر بحفنة قليلة مثل: “عظم الشتاء” (Winters Bone) لديبرا غرانيك، “الطريق” (The Road) لجون هيلكوت، “قطع الوديع” (Meeks Cutoff) لكيلي ريتشارد، المخرج فريديريك وايزمن بفيلميه “الرقص: باليه باريس الأوبرالية” (La Danse: The Paris Opera Ballet) و”نادي الملاكمة” (Boxing Gym)، “غرينبرغ” (Greenberg) لنواه بومباخ، “البجعة السوداء” (The Black Swan) لدارن أرونوفسكي…
“الشبكة الإجتماعية”: مثل “المواطن كاين” والجزءان الأولان من “العرّاب”، يدين هذا الفيلم بجزء كبير من عبقريته إلى قدرته على تصوير الفساد المحتّم في عالم الأعمال والمال الكبير. خلا أن فيلم فينشر-سوركن يختلف عنهما بحس كوميدي معاصر، بينما يتواصل مع أعمال مخرجه السابقة لاسيما “زودياك” من خلال عودته إلى شخصية المنبوذ الإجتماعي الغامض الذي يعيد تشكيل العالم وفقاً لرغباته وتصوّراته، تاركاً من حوله تائهين في محاولات فهم اللغز ولملمة الفوضى.
“العم بونمي الذي يستطيع تذكّر حيواته السابقة”: حقّق خرقاً حقيقياً في مهرجان كان السينمائي بلغته السينمائية المبتكرة وسرده المتقشّف الذي يمنح المشاهد ثقة كبرى لملء الثغرات الكثيرة. إنه تأمل فلسفي في معنى الموت من خلال “العم بونمي” الذي يعيش أيامه الأخيرة مستعيداً ماضيه برفقة شبح زوجته المتوفاة وابنه العائد في هيئة غير مؤنسنة.
“سنة أخرى” (Another Year): فيلم مايك لي عن زوجين في خريف العمر تأمل في السعادة أو الأحرى في غيابها، يقلب مفاهيم التعاطف والشفقة والإعجاب. إليه، شهد العام 2010 حضور أفلام بريطانية شجاعة مثل “شجرة” (Arbor) لكليو بارنارد الهاربة من سينما الواقعية الإجتماعية- على الرغم من موضوع الفيلم الواقعي والإجتماعي بامتياز- إلى مزيج من التوثيق والدراما لاستعادة سيرة الكاتبة المسرحية أندريا دنبار التي رحلت عن 29 عاماً بسبب إدمانها الكحول.
“كارلوس”: شريط أوليفييه أساياس هو المشروع السينمائي الأكثر طموحاً وضخامة خلال العام 2010. فمن فيلم تلفزيوني يربو على الخمس ساعات ونصف الساعة- عرض في مهرجان كان وسط جدل حامي الوطيس حول اجتياح التفزيون للسينما والحدود بينهما- إلى نسخة سينمائية من ثلاث ساعات، برهن أن موضوع الإرهاب مازال جذاباً بالنسبة إلى المخرجين ووعاءً لفيلم تشويقي غير مهتم بسيكولوجيا الإرهابي. ولكن “كارلوس” لم يكن المشروع التلفزيوني الأوحد الذي تبنى السينما خلال العام المنصرم إذ يتجاور مع شريط المخرج البرتغالي الأصل راوول رويز “أسرار لشبونة” (Mysteries of Lisbon المقتبس عن رواية تدور أحداثها في القرن التاسع عشر) والحبل على الجرّار مع مشروع الأميركي تود هينز المقبل “ميلدرد بيرس”.
“عظم الشتاء”: أحد الأفلام الأميركية المستقلة التي استطاعت حفر طريقها إلى النور. يدور فيلم ديبرا غرانيك القاسي حول رحلة مراهقة لاكتشاف مصير أبيها المختفي في الوقت الذي يتوجب عليها فيه الاهتمام بأخويها وأمها العاجزة.
“أنا الحب”( I am Love): يعيد شريط لوكا غوادانينو أمجاد السينما الإيطالية من خلال حكاية تدور أحداثها بين أفراد الأرستقراطية المترهّلة مع تيلدا سوينتن في الدور الرئيسي ودور المنتجة المشاركة ايضاً التي رافقت المشروع مع مخرجه على مدى 11 عاماً.
“سيرة نيكولاي تشاوشسكو الذاتية” (The Autobiography of Nicolae Ceausescu): واحد من ثلاثة أفلام رومانية برزت خلال العام، يعيد شريط أندريه يوجيكا بناء الأرشيف الرسمي للديكتاتور الروماني مستعيناً بمحاكمته ومونولوغه للتعليق عليها. بمحاذاته، برز شريط كريستي بيو “أورورا” الذي يدور حول رجل يرتكب فعل القتل مراراً وتكراراً مدفوعاً بالكبت الذي يعانيه بسبب زوجته وأهلها. الفيلم الروماني الثالث الذي يستكمل صعود هذه السينما الشابة هو “إذا أردت أن أصفر سأصفر” لفلورن سربان.
“حنين إلى الضوء” (Nostalgia for the Light): شريط وثائقي بتوقيع التشيلي باتريسيو غوزمن أذهل العالم بمقاربته لموضوع المفقودين خلال حكم الديكتاتور بينوشيه. في صحراء أتاكاما التي تشكّل سماؤها الملاذ الأنقى لعلماء الفلك، ثمة ماضٍ مدفون في رمالها يشكّل الحاضر.
“شعر” (Poetry): شريط درامي للمخرج لي تشانغ دونغ يدور حول امرأة ستينية تظهر اهتماماً مفاجئاً بكتابة الشعر بينما تصارع مرض “الزهايمر” ومشكلات حفيدها. حاز الفيلم جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان 2010.
“فيلم اشتراكية” (Film Socialisme): تاثير جان-لو غودار المستمر لا خلاص منه. مرة جديدة يترك هذا السينمائي المتفرّد أثراً سينمائياً يحتاج إلى دهر لفك رموزه، بينما يمارس تلاعبه بالصوت والصورة تاثيره الفوري على مشاهده.
“نسخة مصدّقة” (Certified Copy): النتيجة الحتمية التي كان يتوجب على السينمائي الإيراني عباس كياروستامي الوصول إليها مع الإنغلاق الممنهج لأفق التعبير في بلده الأم. ولكن تجربة كياروستامي أبعد من مجرد حاجة إلى الخروج إذ تناوش مفاهيم العلاقات والزواج والحب والواقع والفرضية كلها من خلال سؤال شَرطي بسيط: “ماذا لو؟”
“رجال وآلهة” (Of Gods and Men): سرد كلاسيكي باهر من المخرج الفرنسي كزافييه بوفوا، يعيد بناء مذبحة الرهبان في الجزائر على أيدي إسلاميين متطرّفين، متجاوزاً كليشيهات التشويق إلى دراسة عميقة حول الخوف والإيمان والتسامح القاتل.
“أرواح صامتة” (Silent Souls): شريط روسي لألكسي فيدورتشينكو من الأعمال النادرة التي تستحضر روح تاركوفسكي من دون جهد أو تقليد، ويطعّمها بفكاهة تتجاور بغرابة مع موضوعات الحب والهوية والوقتية المحزنة.
المستقبل

بحث في جعبة الآداب العالمية 2010
جوائز مباغتة وتكريمات لا مفرّ منها وقضايا وعمليات سلب
عدّاً من مكان محدد، ليس ثمة مجال للعودة، ينبغي عندذاك ان ننطلق. تلك كانت فحوى نصيحة الكاتب التشيكي الجميل فرانز كافكا. بيد انه سيسمح لنا مع انفضاض 2010 بأن نداوي لحظة الفراق بمحاولة رصد لأهم ما خبّأه في جيبه الأدبي. نبدأ جولتنا مع محطة أولى تعرّج على الجوائز ووقفات الذكرى والوداع المؤلم لأصوات كتابية استثنائية، فضلاً عن ثلة من القضايا شغلت الاوساط الأدبية في عواصم العالم، على ان تليها محطة ثانية حيث نجول على ابرز اصدارات العام المندثر في اكثر من لغة وعلى مقابلات اجريناها في بيروت. أما بوصلتنا في هذا الفعل فاقتناع بأن أعوام الحياة ليست هي الاهم وانما حياة الأعوام.
جوائز أدبية
صارت الاسبانية آنا ماريا ماتوتي ثالث سيدة تنال “جائزة ثرفانتس” الأكثر رفعة في الاداب بالقشتالية في اعقاب ماريا ثامبرانو ودولسي ماريا لويناز. تبلغ ماتوتي الخامسة والثمانين، وفي هذه السن أقرّت الجائزة بمنجزها ويشمل اثنتي عشرة رواية ومجلدات قصصية عدة جمعت اخيرا في عنوان “باب القمر”. تشكل “جائزة ثرفانتس” الامتياز الذي كان يعوز الكاتبة بعدما حصدت جميع الجوائز الاخرى تقريبا. نالت جائزتين وطنيتين مخصصتين لأدب الاطفال وجائزة الآداب الوطنية وجائزة الكتابة الوطنية وتلك المرصودة للنقد ايضا بفضل “الابناء الموتى” ناهيك بـ”نادال” عن “الذاكرة الاولى” وجائزة “ثيوتات” في برشلونة من طريق قصة رائعة بعنوان “نهاية الجميلة النائمة الحقيقية”. تكوّن عالم ماتوتي السردي المسكون بالغرف المقفلة مبكرا، ذلك انها أتمّت اولى نوافذه بعنوان “المسرح الصغير” في السابعة عشرة ليأتيها بجائزة “بلانتا”، ولتضجّ اعمالها لاحقا بثيمات لافتة كاستحقاق متوسط العمر والطفولة والاجحاف الاجتماعي والتهميش وغياب التواصل الى الحرب وتبعاتها.
لم يحرّك محكّمو جائزة “غونكور” مستنقع ألبابهم بعنف للمجيء بمستحق للامتياز الأدبي الأكثر عراقة في فرنسا. ذهبوا الى اللافتة الأدبية الأكثر سطوعا واستقطابا للإعجاب والمقت. في سنة 2010، منحوا رواية الفرنسي ميشال ويلبيك الخامسة “الخريطة والأرض”، جلّ ما حُرمت منه سابقتاها اللتان بلغتا نهائيات الجائزة، اي “الجزئيات الأساسية” و”احتمال جزيرة”. استمهلت اللجنة نصا قاسيا يعتدي على الفنون ويزدري النفس ايضا. في الرواية الصادرة لدى دار “فلاماريون”، ثمة تعديل واضح في خطاب ويلبيك، نعثر على ابتعاد عن القولبة المعروفة حيث كان لا غنى عن تدفّق الحكايات من ثلاث حلقات. ارتفعت من الاولى ادخنة الجنس والفظاظة وكره النساء في معادلة توائم حس القارئ التسلوي، في حين تسلّلت من الثانية الدلائل التوثيقية ليطلّ ويلبيك على علم الأحياء والجنس والتسويق، بينما كشفت الثالثة عن منصّة تجمع الشخوص او تفصل بينهم. في “الخريطة والأرض” كسرت الحلقة الأولى تماما، في حين طرأ انزلاق الى بهلوانيات المرايا من طريق شخصية تعدّ انعكاسا لويلبيك عينه.
لنصوص ماريو فارغاس يوسا سطوة على وعي القراء وحواسهم، تتصور الفانتازيا وترتحل اليها ردّا على الإخفاق اليومي. انها العملية المولّدة للأدب أفاد منها هذا الكاتب البيروفي العارف الى اقصى حدّ. والحال ان جائزة الاكاديمية الاسوجية مررت ايذاناً بها. مُنحت جائزة نوبل الاداب للحالم الفطري والواهم العضال و”وحش الكتابة”، على ما وصفه الناشر كارلوس بارال في العام 1967، كحركة قطع مع درجة الدفع بالأسماء ذوي الانتشار المحدود الى الواجهة، واصغاء الى ارتدادات النصوص الحسّية على طائفة قرّاء بلغوا نصوص فارغاس يوسا بالقشتالية اولا، وبعدذاك بعشرات الالسنة اللغوية. خلال ما يزيد على نصف قرن من النشاط الفكري الدؤوب، كان فارغاس يوسا الاسم المنتظر، والبعيد الإحتمال لشدّة انتظاره. غير ان الطريق المرصوفة جوائز من كل حدب وصوب، تولّت الإضاءة على سعة كتابيّة شبه بالزاكية (نسبة الى بالزاك)، بيد انها مقفلة وباطنية كذلك للمفارقة، لما لتقنيته من نموذجية واستدعاء لسجلاّت عدة تنوء تحت التماع الفكاهة والمجاملة وصولا الى اعمق التراكيب التاريخية والنفسانية الغضّة. والحال اننا تفرّدنا عند اعلان فوزه، بنقل مقتطف من روايته “الحلم السلتي” الى العربية قبل اكثر من شهر على صدورها بالقشتالية.
ليست رواية الاميركي بول هاردينغ “المصلحون”، التي نالت في 2010، بضرب من مباغتة، امتياز “بوليتزر” للعمل التخييلي، شتويّة تماما، على رغم الغلاف الملبّد بياضا. فهنا الصقيع المتسلّل الى المفاصل لا ينفي نفسا آخر اشد دفئا يهجع في صفحاتها المئتين تقريبا. صحيحٌ ان الفحوى مفاجأة ادبية من الصنف الرفيع، إلاّ ان الحيثيات الإجرائية الملازمة لمنح الجائزة ايضا تقع في خانة اللامتوقع. ذلك ان صاحب الباكورة الظافرة بالجائزة المهيبة، ابن الثانية والأربعين، اتى الى الآداب من عزف الدرامز في فريق للروك بإسم “كولد واتر فلات”. ناهيك بأن الحكاية اؤتمنت على نبرة غنائية وصدرت عن دار نشر “بيلفيو ليتراري بريس” ليس لها من العمر سوى خمسة اعوام فحسب، وبالكاد سمع بها احدهم قبل اليوم. اما الأكثر اذهالا، فإن المؤسسة النشرية لا تبغي الربح، وملحقة بكلية الطب في جامعة نيويورك، ومقرها مستشفى بيلفيو في المدينة الاميركية!
حاز “في مكان ما صوب النهاية” لديانا اثيل، الصادر بالإنكليزية لدى دار “نورتون” جائزة “حلقة نقّاد الكتب الوطنية” للسيرة الذاتية. والحال، ان في جعبة عمدة الناشرين بالانكليزية واكثرهم استثناء، قصصاً ذاتية جمّة تتلوها، وتحاذيها أخرى، تقع بين فكّي العام والادبي الخاص، وليس اقلها شأنا مسيرة مذهلة في عالم النشر، وتعاونها مع اكثر الكتّاب وقاراً، اولئك الذين تقدّموا واجهة الآداب في القرن العشرين. ضجّت حياة اثيل بالانعطافات اللامتوقعة. كان هناك العلاقات الغرامية المتكسّرة، والانغماس في صيغ زيجات “ثلاثية الطرف” كما يعاينها الفرنسيون، جعلتها تُرمى بكنية “المرأة الاخرى”، كأنها النسخة الحيّة من اغنية نينا سيمون الرائعة. اختارت ديانا اثيل ان تسلك تجربتها اليومية بسذاجة مذهلة، هي عينها التي توظفها لتروي حياتها في الحادية والتسعين في هذا المؤلف.
كان للالتباس الجغرافي سطوة لا تثمّن على الفرضيّات الأدبية اللامتناهية التي عجّت في مؤلفات الاسبانية كلارا سانتشيث، وقد تذكّرتها الجوائز اكثر من مرة. كان آخرها في مطلع 2010 حين منحت راويتها “لغز اسمكَ” (دار ديستينو) جائزة “نادال” الإسبانية الأدبية. مذّاك، منذ صدور تلك الحكاية، حيث يقيم ثنائي نروجي مسنّ بهناء في الساحل الشرقي لاسبانيا الى حين يعكّر صفو يومياته ديّان يعتبر الوقت قد حان لتسديد جزية افعال هذين النازيين المستترين، لم تنفك الروائية تتلقى رسائل مؤرقة تنطوي على نصح “أخويّ” بترك “هؤلاء المساكين العجّز وشأنهم”. اثبتت سانتشيث، من طريق استدعاء الجلاّدين المنسييّن، ان الزمن لم يتخطّ الثيمة النازية، وان الموضوع حي يرزق يستطيع حرق الحيوات وتحريك الهامد.
الرواية، في منطق الكاتبة الأميركية باربرا كينغسولفير، فعل اتهامي. تروّج في مؤلفاتها لرسائل رفيعة المثالية في شأن البيئة والفقراء والعاملين ولاجئي اميركا الوسطى والأمهات العازبات وحقوق الهنود. غير ان استئثار روايتها “الفجوة” (دار “هاربر كولينز”) بجائزة “اورانج برودباند” 2010 الممنوحة لأفضل عمل تخييلي بالانكليزية، تكتبه سيدة، لم يحلّ بسكون. ترافق الاعلانَ عن فوزها مع الانكماش كصدى لخيبة أمل وقورة عبّرت عنها طائفة من النقاد وحفنة من القراء على السواء. اشار البعض الى ان الرواية الثنائية الرأس التي تفصّل آخر أيام تروتكسي في المكسيك وتروي أحوال فريدا كاهلو ودييغو ريفيرا، فضلاً عن مطاردة مكارثي للشيوعيين في اواخر الأربعينات من القرن المنصرم في الولايات المتحدة، تؤسّس لكتابين منفصلين، لا يدخل ايٌّ منهما العجلة الروائية ويخرج منها على نحو ملائم. والحال ان الكاتبة تجيء بقصة حنونة ومأسوية ومتفائلة، واحيانا مثبطة للآمال وانما ملزمة في المحصلة.
أغدق نص مُثخن بجروح الحياة على الألماني بيتر فافرتسينك في الخامسة والخمسين، “جائزة إنغيبورغ باخمان” الأدبية، جاعلا منه اكبر الفائزين سنّا بأحد ابرز الامتيازات الجرمانية. من طريق نثر ينتمي الى الأدب الرفيع، يسرد طفولة نمت في احد المياتم في اعقاب توارٍ للوالدين وفرار نحو الغرب، رُكنت الى فافرتسينك جائزة قدرها خمسة وعشرون الف أورو، تقنص منذ عام 1977 موهبة على فرادة محدودة الانتشار خصوصا. تحمل الجائزة هوية الكاتبة والشاعرة النمسوية باخمان المولودة في هذا الركن الجغرافي في عام 1926 والذاهبة الى قدرها المأسوي منتحرة في روما. بيد ان التقليد انقلب على صانعته هذه السنة، فاستبقت الجائزة المرافقة لـ”أيام الآداب الألمانية”، صاحب حديث يتمحور على المانيا الشرقية سابقا لم يعد في تجاربه الأولى، وانما اسم كرّر اقتراف التهكّم والنقد في اعمال عدة استوقفته في زمن تجزئة البلاد بلدين. النص سيرة ذاتية سمّيت “حبّ الغربان”، تفقز على الحواجز الداخلية لتتمحور على نشأة موجعة في احد مياتم ألمانيا الشرقية.
ترنّحت التعليقات بين ناقد مرحّب وحانق بعيد تأبط الروائي اللندني وكاتب العمود هاورد جايكبسون جائزة “بوكر” الأدبية للعام 2010. في الأساس عدّت روايته “مسألة فينكلر”، المسمّاة تخييلاً كوميدياً، جنساً قاصراً لا مكان له في رحاب المسابقة. بيد ان العمل المختار تخطى الملاحظات على تشعّبها، وصار باكورة النصوص المقهقة بصخب يظفر بأرفع الجوائز الأدبية الانغلوساكسونية منذ انطلاقها قبل أكثر من اربعة عقود. تحوم رواية جايكبسون الحادية عشرة، في فلك كينونة الشخصية اليهودية راهنا. انها حكاية صداقة وفقد وانتماء وحكمة ورشد انساني وصداقة ذكورية، في حين اهملت تظهير اسلوب الكاتب في تألقه، كما تبدّى في “ليالي كالوكي”. نغادر مطالعة “مسألة فينكلر”، معلّقين بحبال شخصية محورية بإسم جوليان تريسلوفي، تدين الى وودي آلن بالشعور المرهف، وسيغموند فرويد بالمنطق النفساني. يروقنا ان نلاحق تريسلوفي الذي منح هبة التلوّن، في ظنّه ان كل شيء الى سوء، بيد ان في وسع بزوغ الحب المباغت ان ينير السواد الكوني.
قضية في المانيا
مذ اشتكى الكاتب المسرحي الروماني ترنتيوس في القرن الثاني قبل الميلاد بأنه ليس هناك شيء يقال لم يقل في السابق، لم تكف جنحة تملّك الآخرين في شتى الفنون عن التفشي. في العام 2010 في المانيا، حصلت هيلين هيغيمان التي تبلغ بالكاد سبعة عشر عاما، على مجموعة من المراجعات النقدية المداهنة، وخطت دعساتها الاولى في حظيرة مؤلفي الكتب الأكثر مبيعا، واستبقيت الى نهائيات امتياز ادبي محوري في لايبزيغ بمجرد اصدارها عنوانا واحدا هو Roadkill Axolotl. تردّد ان اسلوب هيغيمان فريد، قبل ان يكشف احد المدوّنين ان الرواية مأخوذة في أجزاء كبيرة، من عمل اقل شهرة بعنوان “ستروبو” لكاتب يحمل إسم ايرين المستعار. اقتطعت صفحات كاملة من ذاك العمل ولم تلحظ سوى بعض التبديلات الطفيفة. تغيّر عندذاك المديح الصاخب سيلاً من الاستهجان. جنحت مسألة هيغيمان صوب أماكن متشعبة. ذلك ان الكاتبة المراهقة، وبعدما أذيع اقدامها على هذه الدعسة الناقصة، لم تتّبع سيناريو التندّم والانسحاب بغية مسح الشائبة، بل أكدت ان تملّك المقتطفات، كما مصادر أخرى، جاء في صلب مشروعها المدرك.
في اسبانيا
لا يمكن اللحاق بالخيط الزمني لبزوغ الأدب في مختلف هوياته من دون التوقّف مليّا عند “حياة لاثاريو دي تورميس وبَخته ومحنِه”. دلّ المؤلف الى الرواية الحديثة وبسط الدرب امام “ايل كيخوتي” لثرفانتس ونفخ روحا في ابطال سلبيين على هيئة غير معتادة. ظل لغز نسب “لاثاريو دي تورميس” لزمن طويل اكثر الأسرار كتمانا في تاريخ الاداب بالقشتالية، لتصير غفلية واضعه جزءا من مغزاه. في العام 2010 استنبطت هوية جديدة لصاحب الكتاب، غير ان صدور الحكم عن الباحثة في اشكال الكتابة القديمة والاكاديمية المعروفة مرسيدس اغويو (مدريد 1925) جنّبه مزيدا من التمحص والتدقيق. في كتاب صدر عن دار “كالامبور” بعنوان “عودة الى مؤلف لاثاريو”، جاء قول اغويو مدموغا بالوثيقة، ليفيد ان دييغو اورتادو دي ميندوثا، ابن القرن السادس عشر، هو الصوت الذي تم البحث عنه طويلا. الكتاب خلاصة مطاردة للحقيقة خلال اعوام، وغرق في متاهات المحفوظات الكنسية وارشيف البروتوكولات والوثائق التاريخية الوطنية. والحال، ان دي ميندوثا شخصية عامة فذّة ولد في الحمراء في نحو عام 1500، وشغل منصب موفد الامبراطور كارلوس الخامس في البلاط الانكليزي وفي روما والبندقية. عُرف راعيا للرسّامين والكتّاب، وقارئا نهماً للمخطوطات، متحدثاً باللاتينية واليونانية والعبرية والعربية وألسنة اخرى. تكتب اغويو في صدده: “كان دون دييغو اورتادو دي ميندوثا رجلا جسورا، قاد مهمات عسكرية محورية. وكقلة من الناس شكّل مثال النهضة والاتحاد بين كلمة الأسلحة وكلمة الآداب”.
رحيل
في الاعوام الاخيرة قابل البرتغالي جوزيه ساراماغو الموت بشيطنة المراهقين، غير انه استسلم ايضا لحتميته حين رصده الراوي في كتابه “استقطاعات الموت” معلنا: “نحن الآدميين لا يسعنا فعل الكثير باستثناء اخراج ألسنتنا في وجه السفّاح الذي يوشك على قطع رؤوسنا”. والحال ان الثامن عشر من حزيران 2010 استطاع ان يغلق عيني الكاتب الفائز بنوبل الآداب. في جوار اليوتوبيات، اعتبر ساراماغو ان نصح احدهم بالتحلي بالأمل، لا يختلف كثيرا عن نصحه بالتمسك بالصبر. بالنسبة اليه، كمنت الأزمة الانسانية في ظاهرة الفوضى التي نقيم فيها من دون ادراك منا. اندثر الآن القصر الورقي، يقول ساراماغو، ودقّت ساعة ايجاد اسلوب لإعادة البناء، علّنا نبقى احياء. شكل كتابه “المدوّنة”، الذي جمع فيه نصوصا حوتها مدوّنته الالكترونية في عامه الأخير، احد تلك الاساليب للانتفاضة على حتمية الغياب، فناً مدوّيا ودامياً. اتسمت مؤلفاته بنزعة تلقينية وغواية تخريبية. تتلاشى في طبقة البناء السردي نقاط الوقف، في مقابل كتابة ارتجالية تُقرأ كما الخطب. يسترسل الكاتب في جمله التي تستعمر صفحات عدة، يتفادى التقاط النفس ليمتزج حوار شخوصه مع اقوال رواته، بغية صوغ خليط من اصوات غير متساوقة. كتب ساراماغو كأنه جالس الى جوار مدفأة. حكواتي، قص أخبار الجن والعفاريت على احفاد ملؤهم الذهول.
انحنت المكسيك في حزيران 2010 إكراما لابنها كارلوس مونسيفايس في اليوم التالي على رحيل جوزيه ساراماغو. في توقيت زمني يكاد يتقاطع، تلاشى مفكّران متفرّدان لا يضاهَيان، بل رجلان مقدامان في مضمار آداب الاوجاع غير الزائفة. قيل في مونسيفايس انه ابهى كاتب مقال مكسيكي و”خاتمة المثقّفين العلنيين” في البلاد الواقعة عند نقطة الوصل والعالم الانغلوساكسوني، واشير ايضا الى انه “ضميرها” ووجه ادبي يتيم اعترف بشرعيته المواطن العادي قاطن الطرق والأزقة الفرعية، بعدما تابعه على انبساط خمسة عقود، يذهب الى نواة الموضوعات والشخوص. شابه الكاتب مواطنيه بالروح، وجعل رحيله الحداد يلفّ السياسيين البارزين في اعلى الهرم الاجتماعي والمياومين في المصانع في اسفله، فلوّح الناس وهتفوا وغنّوا لمن سمّته الملايين “مونس”. لم يحظ مونسيفايس بالنجاح التجاري لمجايليه على نسق كارلوس فوينتيس، غير ان خبر وفاته حضر في كبريات الصحف الانغلوساكسونية التي تناوبت لتحية مثقف كان الى جانب اوكتافيو باث المخاطب المثالي للسلطة السياسية في المكسيك.
ذكرى
قبل قرن، في ظلمة ليل الثامن والعشرين من تشرين الأول من 1910، هجر ليو تولستوي عقار ياسنايا بوليانا في جنوب موسكو تحت جناح الغفليّة، ليتممّ رحلة شخصيّة ختامية. توارى الرجل الأكثر شهرة في روسيا والرمز العلماني المستحوذ على الورع والإحترام لعبقريته الأدبية ومفهومه السلمي والتزامه حاجات الأرض والفقراء. في طفرة الترقّب، امسى اختفاء العجوز المعكّز على أعوامه الإثنين والثمانين حدثاً باتساع الوطن الهائل، فانهمكت روسيا من طرفها الى أطرافها في ملاحقة مآل قصة باعثة للفضول. حدد مكان الروائي بعد يومين في احد الأديرة البعيدة، غير ان فراراً ثانياً تلا الخبر السعيد، لكأن الرجل اراد توكيد تركه وشأنه. بعد ايام عدة حصل الظهور التالي في محطة قطار استابوفو النائية، حيث انتهت رحلة تولستوي من جرّاء ذات الرئة. استلقى تولستوي فاقد الحياة في ذاك المطرح، ليغدو بطل رواية وطنية. مئة عام مرّت منذ رحيل كاتب استعادته روسيا في 2010 كمؤسس لمدرسة روحانية، مشى حافي القدمين ودرّس اولاد الفلاحين القراءة والكتابة. اقتنصته كاتب رسائل تعليمية واعتراضية ايضاً، وجهها الى القيصر. تتذكّره روسيا البيضاء سليل اسرة عُرف افرادها بـ”التولستويين المتمرّدين” جنودا وسياسيين وفنانين. كان جنديّا مدينا للتيار المتعوي في شبابه، فكاتباً ذائع الصيت، ثم فيلسوفاً متنسّكاً، مخلّفاً افكاراً طبعت غاندي ومارتن لوثر كينغ. رسم تولستوي الروح الوطنية الجامعة المجسّدة في مواكب الناس في رواية “الحرب والسلم”، فيما تعاطى مع روح منكوبة على مستوى حميمي ونفساني في “انا كارينينا”.
واحد وثلاثون عاما من العيش في إسبانيا الموجوعة. ثلاثة الآف صفحة كتابية واسطورة لا تضاهى. ميغال إرنانديث، شاعر احتمى بحبال الحكاية، ليحين وقت تحريره من طوق القدرية الذي زنّره الى حد الاختناق. في عام 2010 طوى إرنانديث قرنا من العيش الافتراضي. اتت الذكرى الشعرية واتى الشجار السياسي بالتكافل والتضامن. حمل ارنانديث وصمة السجن أينما حلّ، فمدّته بإيقاعها ظلمةً وتمزّقا وجوعا وارتيابا في الأبيات. جعله الاعتقال انسانا معزولا وضحية مثالية للقمع، في حين خضعت ذكراه مع حلول المئوية الاولى لولادته، لما يشبه المزاد العلني. بات اسم ميغال ارنانديث (اوريهويلا 1910- اليكانتي 1942) بدءا من تموز 2010 موضوع نزاع في اسبانيا، على خلفية ايداع اثره وممتلكاته. كانت تلك لحظة درامية لاحقة للموت، فيما أتت اللحظة الحياتية الدرامية الاخرى في ركاب احد عشر عاما من النشاط الأدبي العنيد ومن نضال سياسي متأخر، الى أن انتزع السل “الجمجمة الجميلة” في حجرة فرنكوية سوداء في عام 1942. ايرنانديث شاعر تأكله التبرم ورطوبة قضبان الزنزانة. افصحت قصائده عن تجارب شعريّة غير مسبوقة، حيث الحديث عن الحب الزوجي لخوسيفينا والعاطفة البنوية، وعن موت الابن الرضيع، كما عن الاعتقال والحرب.
في تشرين الثاني من عام 1835 شقّ صموئيل لانغهورن كليمنس غشاء الحياة الرحمي تحت وميض “هالي”. سيخدم مذنّب الحظوظ الوافرة والحوادث المهيبة ركيزة ليبدأ عدّ ايامه، في حين يدمغ ظهور النجم اللاحق في عام 1910 نهاية لحلقة عيش، بالتزامن مع انطفاء مارك توين في الرابعة والسبعين. الرضيع المولود على حدود فلوريدا في ميسوري، هو عينه الذي سيتبنى لاحقا اسم مارك توين. كان حضور النجم الحائم في السماء كافياً لتشتغل النبوءة في اذهان قبيلة كليمنس. دان ناس تلك المنطقة بطيب خاطر لتطيّر سيؤتي جدواه من حيث لم يتوقعوا. ذلك ان اليتيم المتسرّب من المدرسة في الثانية عشرة لن يلبث ان يجالس تيودور روزفلت الى مائدة العشاء، ويلتقي غاندي وفرويد وامير ويلز، والأهم ان يقبض على حرفة كتابية تجعله يوقّع مؤلفين متطلبّين، “مغامرات توم سوير” و”مغامرات هاكلبيري فين”، ويستأهل التحية. في العام 2010، في مئوية وفاته، عاد مارك توين أول كاتب اميركي فعلي لم يلتفت الى اوروبا بحثا عن تأثير. في عز الحنوّ على ارثه، صدر في 2010 كتابان بالانكليزية يضيئان عليه كاتبا مبجلاّ ومحبوبا ومحاضرا منتظرا. ينبسط كتابا كلّ من مايكل شيلدين، “مارك توين: رجل بالأبيض” ولورا ترومبلي “امرأة مارك توين الأخرى”، في العقد الأول من القرن العشرين في حقبة كان لا يزال توين ابانها في حضرة الأبحاث والحكايات الخرافية، ومنغمسا في نصّ سيرته الذاتية على ايزابيل ليون. منح المؤلّفان اجابات متضاربة في شأن استفهامين على صلة بشيخوخة الكاتب. يهتم السؤال الاول بقدر السعادة خلال “عمره الثالث” اما الثاني فيرصد دور مساعِدَته الشخصية.
تقدّم الشاعر لويس روساليس الأخبار في مسقطه إسبانيا في ضوضاء مئوية ولادته، حاملا لطخة ذنب بعيد ودانٍ ووشيكٍ وماضٍ. في مقابلة مطوّلة أجريت معه في عام 1977 بثّها التلفزيون الاسباني، استعاد الظروف السابقة لاعتقال صاحب “شاعر في نيويورك” وصديقه فيديريكو غارثيا لوركا، واغتياله. روى روساليس بعد صمت، مجريات يوم قاتم في منزل ذويه المسؤولين الرفيعين في حزب الكتائب بزعامة فرنكو اليميني. لجأ لوركا الى غرناطة طلبا للحماية في منزل آل روساليس، ليقتاد منه أبهى شعراء القرن العشرين الى درب الموت رميا بالرصاص على رغم معارضة أصحاب المكان. في العام 2010 في مئوية مبتكر، من مثل لويس روساليس (غرناطة 1910 – مدريد 1992)، استعيدت هذه المحطة وسواها. قبل عام على اغتيال لوركا، انتشر اسم لويس روساليس كشاعر مستحق بعد اصدار مجموعته الأولى “نيسان” (1935)، حيث عبّر عن حيوية وعودة الى التيار الطبيعي التعبيري في التقليد الكلاسيكي. كانت مجموعة “نيسان” عملا عبقريا في سياق اعمال لشعراء عمّدتهم الحلقات النقدية لاحقا ابناء “جيل 36” (اي 1936)، ضمّ الى روساليس، نماذج ادبية من قامة ميغال ارنانديث ولويس فيليبي فيفانكو وليوبولدو بانيرو ورافاييل ديوس وسواهم في الشعر، وميغال ديليبس وآخرين في الرواية. انتمى روساليس الى “جيل 36″، بل كان الرأس المدبّر لجيل رافق النزاع الاسباني الداخلي في زمن اربك الشعراء الشباب، حيث رصدت التعريفات لتبويب الأصوات الأدبية النامية، فيما لم يفسح لسوى خيارات محدودة.
كاد يصعب في الأسبوع الأول من العام 2010 تفادي لقاء ألبر كامو. كان الطقس الاحتفائي بالكاتب الفرنسي في اوجه، في الذكرى الخمسين لغيابه التي صادفت كرونولوجياً في الرابع من كانون الثاني. لم يتم انتظار انفضاض العام او تقدّمه بعض الشيء لمحاولة تلقف كامو رويداً. أُريد للذكرى ان تحلّ للتو في العجالة. بيد ان الهرولة صوب كامو كان لها ما يبررها بالسياسة في فرنسا، خصوصاً مع رغبة الرئيس نيكولا ساركوزي في نقل رفاته من بروفانس الى البانتيون في باريس، والجلبة حولها، التي تخطت كل حدث آخر. للتمهّل المستعجل عند كامو مبرر اضافي كان مصدره “فعلا تكفيريا” مطبوعا بغريزة عاطفية شعبيّة ازاء اسم سعى الفرنسي العادي الى تأكيد تبنّيه له، بعدما ذبل الافتتان اللامشروط بجان بول سارتر، وصار جائزا ان توجَّه التحيّة الى صديقه اللدود. حكاية خصام كامو وسارتر العقائدي الإنساني، صارت من كلاسيكيات المشاحنات الأدبية التي لم توفّر الذمّ بالحرفة الكتابية. غير ان سارتر، وبعد يوم واحد على غياب كامو، استلّ القلم ليكتب: “كنا على خلاف، انا وهو، ليس الخلاف امرا بسيطا، ذلك اننا لم نعد نلتقي، كانت تلك طريقة اخرى للعيش معاً من دون ان يضيّع احدنا الآخر في كنف عالم صغير مُنح لنا. كان يمثّل في هذا القرن وضد التاريخ، الوارث الراهن لسلالة من الاخلاقيين، اعمالهم من الأكثر استثنائية في الآداب الفرنسية”.

رلى راشد
النهار

الحصاد الثقافي في سورية عام 2010:
-1-
كثافة النشاطات لا يقابلها تطور في الإبداع الثقافي والبعض يراهن على الخلفية الثقافية والمسرحية لوزير الثقافة الجديد
دمشق ‘القدس العربي’ ـ من أنور بدر: يتساءل الكثير من العاملين في حقل الإعلام والثقافة عن سر الزحمة التي حصلت نهاية هذا العام في النشاطات الثقافية في سورية، من مهرجان دمشق السينمائي في النصف الأول لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر، إلى مهرجان دمشق المسرحي الذي أقيم ما بين 27/ 11 إلى 5/ 12 /2010 مرورا بورشة إشكاليات اللغة العربية في المواقع الإلكترونية التي بدأت في الأسبوع الأول لشهر كانون الأول/ ديسمبر، والمهرجان الوطني لمسرح الشباب في درعا ما بين 12 و19 من هذا الشهر الأخير.
ثم مهرجان حماه المسرحي في 13 / 12 وقد تأجّل مهرجان حمص المسرحي الذي كان مقررا في 18 من الشهر ذاته لعدم جاهزية المنصة المسرحية في مديرية الثقافة، وربما لا تكون آخر النشاطات مهرجان العجيلي للرواية العربية المقرر في 23 منه. دون أن يقابل هذه الكثافة تطورا في الحالة النوعية، حتى أن البعض يلاحظ أن الإيجابية الكبرى تكمن في الحفاظ على السوية الراهنة دون التردي أكثر، خاصة في ظل الأزمة المالية للمؤسسات الثقافية عموما، والتي فشلت حتى تاريخه في توريط الفعاليات الاقتصادية والشركات الخاصة التي ظهرت بكثافة في السنوات الأخيرة بدعم النشاطات الثقافية أو ما يعرف بالسبونسر، لأن القوانين الضريبية المعمول بها عالميا لتشجيع المؤسسات الاقتصادية على المزيد من الرعاية للمسرح والفنون والثقافة ما تزال غائبة عن أفق المؤسسات المالية والصناعية الخاصة لدينا، كذلك غياب ثقافة السبونسر عن القطاع الصناعي والمالي الناشئ في بلدنا.
البعض يمتلك قدرا من التفاؤل بالتغيير الوزاري الذي جاء بالدكتور رياض عصمت وزيرا للثقافة بتاريخ الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر هذا العام، باعتباره رجل مسرح وثقافة وإعلام أيضا، مع أن الدكتور رياض نعسان آغا لم يقلّ عنه نشاطا في هذه المجالات، بل هي الحقول التي جمعت بينهما صديقين، لكن إشكالية أي نشاط ثقافي أنه يحتاج عالميا، وفي مجتمعاتنا المتخلفة بشكل خاص إلى دعم المؤسسة الرسمية، مع أن هذه المؤسسة تبدو مأزومة ماليا وتبحث عن دعم لها، وهذا باعتقادي يشبه الحلقة المفرغة، ففي المحصلة من سيدعم من؟
مع ذلك يبقى الرهان قائما على العامل الشخصي، والخيارات التي بدأها الوزير الجديد لا تملك خلال أقل من ثلاثة أشهر فرصة اختبارها، ولا مفر من القول الشائع: تفاءلوا بالخير عسى تجدوه.
ويمكن في هذه المناسبة أن نرسل شيئا من التمني بأن يحل سيادة وزير الثقافة المعضلة المعلقة منذ عقود في هذه الوزارة، ألا وهي التشابك ما بين وزارة الثقافة ووزارة الإدارة المحلية في تبعية المراكز الثقافية في سورية والبالغ عددها حوالي 450 مركزا، إذ نصّت التعليمات التنفيذية لقانون الإدارة المحلية الصادرة عام 1986 على نقل إدارة المراكز الثقافية ومعاهد الثقافة الشعبية من ملاك وزارة الثقافة إلى ملاك مجالس المدن والبلدات التابعة للإدارة المحلية، ويدرك السيد الوزير بحكم خبرته العملية في مجال الثقافة كم كان لهذا القرار من منعكسات سلبية على المشهد الثقافي السوري، دون أن يتمكن أي من وزراء الثقافة السابقين من حل هذه المعضلة.
ونشير إلى ندوتين هامتين أقامتهما وزارة الثقافة على هامش معرض الكتاب الدولي في دمشق، الأولى باسم ‘العلاقات العربية التركية.. تاريخ وحضارة مشتركة’ والثانية بعنوان ‘ الملتقى الثاني للتواصل بين مشرق الأمة العربية ومغربها’ تمت تغطيتهما في صحيفة ‘القدس العربي’ حينها وبشكل واف.
الكتاب وأحواله في سورية
بعيدا عن هذه الإشكالية، تبقى وزارة الثقافة هي الناشر الأول للكتاب في سورية من حيث عدد الكتب التي بدأت بثمانية عناوين فقط عام 1960 تاريخ إحداث مديرية التأليف والترجمة، وبلغت في العام 2000 مطبوعات الوزارة 122 عنوانا، لكنها وصلت في العام 2009 إلى الرقم 230 عنوانا، لكن إصدارات الوزارة تراجعت في العام الأخير 2010 ولم يتجاوز الرقم 141 عنوانا فقط، تشمل سلسلة الفن السابع التي تعدها المؤسسة العامة للسينما وباقي مجالات الأدب والفكر والدراسات، إضافة إلى قيامها بتوزيع كتاب شهري مجاني بالاشتراك مع صحيفة ‘البعث’ بهدف تشجيع القراءة، ويطبع منه حوالي 10 آلاف نسخة شهرياً.
مديرية التأليف والترجمة في الوزارة تحولت منذ سنوات إلى الهيئة العامة السورية للكتاب، وهي تُصدر إضافة للكتب مجموعة مجلات فصلية متخصصة بالمسرح والسينما والموسيقا والفنون التشكيلية، لكنها تبدو غير منتظمة الصدور، وأحياناً تكتفي بعدد واحد أو عددين في العام، ولا يُطبع من كل عدد أكثر من 2000 نسخة فقط، ونشير الى أن الوزارة أصدرت وللسنة الثانية على التوالي مجلة فصلية جديدة باسم ‘جسور’ تعنى بالترجمة ودراساتها النظرية، ويرأس تحريرها الدكتور ثائر ديب، كما تصدر عن الوزارة مجلة شهرية وحيدة باسم مجلة ‘المعرفة’ وقد تراجع مستواها في العقدين الأخيرين بشكل مزر قياسا لأعداد مهمة كانت تصدر في الستينات والسبعينات من القرن المنصرم، وهي ما زالت تطبع بحدود 4000 نسخة من كل عدد، وتتابع الوزارة أيضا إصدار مجلة نصف شهرية باسم ‘شرفات الشام’ يأمل كثيرون أن تتحول مع وزير الثقافة الجديد إلى مجلة أسبوعية لافتقادنا هذا النمط من الصحافة الثقافية في سورية، وهناك مجلة واحدة للأطفال باسم (أسامة) تطبع 10 آلاف نسخة فقط لكل أطفال سورية.
الناشر الثاني هو اتحاد الكتاب العرب بدمشق، إذ كانت خطته السنوية لهذا العام نشر 100 كتاب فقط مقابل 108 كتب للعام السابق، لكننا نلاحظ من المقارنة بين خطتي النشر في العامين الأخيرين أن حصة الشعر تراجعت من 20 كتابا إلى 15 فقط، فيما ارتفعت حصة الرواية من 10 أعمال إلى 15 عملا روائيا، وكذلك ارتفعت حصة القصة القصيرة من 12 مجموعة إلى 15 مجموعة قصصية، مع ثبات في حقول الدراسات والمسرح وأدب الأطفال والنقد الأدبي. ولم نلاحظ تطورا مهما في سوية منشورات الإتحاد رغم تأكيد خطة النشر الأخيرة على هذه النقطة.
من جهة أخرى تابع الإتحاد إصدار دورياته بشكل منتظم، وهي: أسبوعية ‘الأسبوع الأدبي’ وشهرية ‘الموقف الأدبي’، إضافة للفصليات: ‘الفكر السياسي، الآداب العالمية، التراث العربي، والآداب العربية’ علما أن هذه الأخيرة تصدر باللغتين الإنكليزية والفرنسية.
وكان هذا العام موعدنا مع المؤتمر الثامن للإتحاد، حيث جرت الانتخابات بتاريخ السابع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، حيث حدث التباس في عدّ الأصوات بين الكاتب غسان ونوس والدكتور حسين جمعة الذي تمكن من الاحتفاظ برئاسة الإتحاد لدورة قادمة تنتهي عام 2015، ومن المتوقع أن يجدد له في دورة تالية طالما أن سلفه علي عقلة عرسان استمر 28 سنة بالانتخابات الديمقراطية، حتى عند تنحيته في انتخابات 2005 كان قد حصل على أعلى الأصوات، وتلك لعمري مفارقة. لكن الملاحظ أنه باستثناء ونوس وجمعة فقد غادر كل أعضاء المكتب التنفيذي مواقعهم بعد أن خسروا الانتخابات التي استبقها أحد الأعضاء ‘حسن حميد’ مدير الإدارة المالية في الاتحاد حين قدم ورقة عمل اعتبرت من قبل البعض بمثابة إعلان إفلاس للإتحاد، إذ طالب بإيقاف كل نفقات أعضاء الإتحاد ومؤسساته، وهو ما دعا أكثر من عضو في قيادة الاتحاد للتبرؤ من تلك الورقة والهجوم على مقدمها.علما أن ميزانية الاتحاد تبلغ 350 مليون ليرة سورية، ناهيك عن الأبنية والممتلكات التي تعود له في دمشق وباقي المحافظات السورية.
يذكر أن أعضاء اتحاد الكتاب العرب بلغ 1441 عضوا من العرب والسوريين، ورغم أن المقيمين منهم في سورية يبلغون 886 عضوا، إلا أن عدد المشاركين في الانتخابات لم يتجاوز 381 عضوا فقط، وهذا يشير إلى تراجع اهتمام الأعضاء بالانتخابات وبالاتحاد ككل ما دامت الاهتمامات النقابية تتراجع في سلم أولويات هذا الإتحاد لصالح ولاءات سياسية وحزبية يجري التعبير عنها في آلية الاستئناس الحزبي قبيل الانتخابات. إضافة لذلك يوجد لدينا مجلتان فصليتان تصدران عن جامعة دمشق، الأولى متخصصة بالدراسات التاريخية، والثانية بأبحاث جامعية عامة.
دور النشر السورية الخاصة المسجلة رسمياً في وزارة الإعلام بلغت حوالي 400 دار، إلا أن غالبيتها محدودة النشاط وتكاد تكون وهمية، وأكثر هذه الدور لا تقدّم الجديد للقارئ، والدور الحقيقية التي تنشر سنويا أكثر من 50 عنوانا ما زالت تعدّ على أصابع اليدين، إذ لا تنتج السوق المحلية بمجملها أكثر من 1000عنوان سنوياً، ولا يطبع من كل عنوان أكثر من 1000 نسخة، وفي حالات نادرة يمكن أن يطبع 2000 نسخة للعنوان مهم جدا. لكن الكثير من دور النشر تطبع حاليا 500 نسخة فقط، أو حسب الطلب وبواسطة مطابع الريزو التي تنتشر بكثافة في سورية. فإذا علمنا أن عدد سكان سورية بلغ 22 مليون نسمة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن عدد سكان الوطن العربي الذي يفوق 300 مليون نسمة ممن يتكلمون اللغة العربية، نكتشف ضآلة ما يطبع من الكتب في سورية، مع التأكيد بأن القارئ السوري يعتمد في الكثير من قراءاته على دور النشر اللبنانية والمصرية التي تؤمن له مادة أفضل، حتى أن أغلب الكتاب السوريين الذين حظوا بقسط من الشهرة أخذوا يبحثون لأنفسهم عن ناشر في تلك العواصم وصولا إلى الشارقة وباقي الإمارات العربية ممن يمنحهم معادلا أفضل لإبداعهم، ناهيك عن مشاكل قرصنة الكتب والاستنساخ أو التصوير في سورية التي تذهب بحقوق المؤلف أو المترجم وحتى بحقوق دور النشر الحقيقية.
بينما نلاحظ غياب اتحاد الناشرين السوريين عن دوره المهني لصالح حسابات مالية وأيديولوجية لا تخفى على أحد، حتى أنه يطمح للعب دور رقابي على الكتاب والكتّاب في سورية من خلال تدخلاته في معرض الكتاب كما حصل في العامين السابقين، حتى أننا لاحظنا شبه إجماع على هزالة الدورة الأخيرة للمعرض، وتكاد تجمع أغلب دور النشر المشاركة على أنها خرجت من المعرض خاسرة، باستثناء بعض الدور التي انضوت تحت وصاية رئيس اتحاد الناشرين السوريين عدنان سالم كدار الفكر التي يملكها، أو دار الحافظ التي ملأت كتبها أكثر من جناح عربي، حتى بات واضحا أنها دور وهمية قد تفيد في تضخيم حجم المشاركة العربية، لكنها لن تقدم للقارئ جديدا، وحتى البرنامج الثقافي على هامش المهرجان لم ينج من هزالة القضايا المطروحة وصيغ المديح عند المشاركين.
ليس ذلك فقط، بل يوجد طموح آخر لإلغاء ذلك المعرض إن لم يتمكن التيار الديني المسيطر في اتحاد الناشرين من احتوائه والإشراف علية بديلا عن الوزارة، ومن هنا أطلق الإتحاد معرض ربيع الكتاب، الذي أقام دورته الأولى بتاريخ السابع من نيسان/ ابريل في حديقة الجلاء من منطقة المزة، وقد أثار هذا المعرض جدلا كبيرا بين الناشرين السوريين، انتهى بمقاطعة قد تقود إلى انقسام لاحق، وحسب تصريح سابق للؤي حسين صاحب دار ‘بترا’ فإن غالبية واضحة من دور النشر المحلية التي تعنى بالترويج للكتب الدينية الإسلامية تسيطر على الاتحاد الحالي للناشرين السوريين ، في حين يضم طيف النشر السوري الأوسع دورا أخرى فضلت عدم الانضمام للاتحاد أو التريث، وتضم قائمة منشوراتهم كتبا ذات اهتمامات أخرى أدبية وعلمية وفنية. ولا يخفي هؤلاء المقاطعين للاتحاد تخوفهم من سيطرة الإتحاد على معرض الكتاب، مع معرفة الجميع بالتوجهات الفكرية والأيديولوجية المسيطرة في اتحاد الناشرين السوريين، مما جعل التيار الآخر من الناشرين السوريين يغنّون للمؤسسة الرسمية ‘نارك ولا جنة هلي’. إذ لا يخفي لؤي حسين قلقه الكبير من ‘أن المسيطرين على الاتحاد وبالتعاون مع شخصيات في بعض المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، يسعون لتقويض بعض الأسس العلمانية للدولة السورية من خلال مهاجمة سيطرة الدولة على بعض الحقول الأساسية فيها، وليس إصلاح الخلل فيها.’
هذه الحال المتردية أقصت خير جليس في الأنام عن مكانته، وبدأت دور النشر والمكتبات الشهيرة في دمشق وباقي المحافظات تغلق أبوابها، لتتحول إلى مطاعم للوجبات السريعة أو محال لبيع الألبسة والأحذية والموبايلات، بدأت أولا دار دمشق وتلتها دور أصغر، ثم أغلقت دار عبيد للنشر عام 2002، التي يعود تاريخها لعام 1890 وتستمر الحركة بهذا الاتجاه مع دار ميسلون ومكتبة الزهراء بكل ما لهما من إرث ودلالة ثقافية وعلمية، وهنالك دار الملاح ودار اليقظة برسم البيع، ولم يبق في الواجهات إلا الكتاب الديني والتراثي الذي وصفه أحد الناشرين بأنه خبز السوق، إضافة لكتب الأبراج وفن الطبخ.
ويشير التقرير الثالث للتنمية الثقافية العربية الذي أطلق في السابع من كانون الأول/ سبتمبر 2010 إلى كون المتنبي ما زال أكثر الشعراء العرب المطلوبين على شبكة الإنترنت، إذ يأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد نزار قباني. أما الكتب التي حققت أكثر معدل بحث على شبكة الإنترنت في العام 2009 فيتصدرها كتاب صحيح البخاري ثم لسان العرب فرياض الصالحين وصحيح مسلم ونهج البلاغة وفقه السنة.
المسرح ما بين المهرجانات والقيمة الإبداعية
جاء في تقرير التنمية الثقافية العربية الثاني أن المسرح الذي تبنته الدول وأصبح جزءا من المؤسسة الرسمية لم يبتكر لنفسه آليات تطور تسمح له بالتعامل مع المستجدات السياسية والاجتماعية. ويعتبر التقرير أن ثمة إشكالية أساسية لدى المؤسسات المسرحية، تتجلى في تهرؤ البنى الثقافية التي تشرع لوجود المسرح في المجتمع، ويشير إلى أنه، ولأسباب عديدة، خرج المسرح العربي إلى فضاءات جديدة تنتمي إلى الحياة اليومية كالشارع والأقبية والأنفاق والبيوت، وهي الحال التي تنطبق على سورية كما باقي البلدان العربية، إن كان لجهة المؤسسة الرسمية وهيمنتها على مختلف أشكال الفرجة المسرحية، أو لجهة البديل الذي يأخذ تسميات جديدة كمسرح الشارع ومسرح الغرفة إضافة لعروض الأقبية والأنفاق.
وربما لا يكون حال المسرح السوري جيدا بالقياس إلى واقع الدراما السورية، لكنه أيضا لم يترد أكثر في هذا العام، خاصة في ظل التغيير الإداري الذي طال مدير المسارح والموسيقا في الخامس من أيلول/ سبتمبر 2009 حيث تسلم السيد عماد جلول الإدارة من الدكتور عجاج سليم الذي انتقل إلى عمادة المعهد العالي للفنون المسرحية، إضافة للعجز المادي الذي تعاني منه المديرية أصلا، ومع ذلك يجب التفريق بين رؤية المسرح كحالة إبداعية وفنية دخلت منذ عقود في حالة سبات، وبين المؤسسة الرسمية التي ترعى المسرح في سورية ممثلة في مديرية المسارح والموسيقا، وكان يمكن اعتبارها ولفترة من الزمن المنتج الوحيد للعروض المسرحية، وهو ما تطالب المديرية ومن ورائها وزارة الثقافة كل المسرحيين والفنانين بتغيير هذه الآلية في النظرة وفي التعامل مع المسرح والفن عموما، إذ أعلنت الوزارة منذ سنوات عن عجزها في هذا المجال مطالبة المؤسسات المالية وأصحاب الفعاليات الاقتصادية بالتصدي لرعاية النشاطات الفنية والمسرحية، دون أن تبدو الاستجابة مقبولة حتى تاريخه، وبالتالي يطالب الفنانون والمسرحيون المؤسسة الرسمية بزيادة دعمها لتلك النشاطات كون الفن والمسرح عموما لا يُعتد بجدواه الاقتصادية في كل دول العالم وفي بلادنا بشكل خاص.
لذلك تبدو الشكوى مستمرة ومتبادلة بين الطرفين، وهو ما دفع بوزارة الثقافة سابقا لرفع يدها عن الكثير من مهرجانات وأنشطة المحافظات، بحيث تغدو هذه الأنشطة ‘لامركزية’ وتتكفل كل محافظة بتأمين الموارد الضرورية لنشاطاتها الثقافية والمسرحية، في حين تكتفي الوزارة بدعم أو إشراف فني، ولكن هذا الأمر أربك الكثير من الجهات الإدارية، وأوقع بعض المهرجانات في عجز مالي من جهة، وأدى إلى تراجع في سويتها الفنية تاليا كما حصل في مهرجان المحبة في محافظة اللاذقية مثلا، ولكن المثال الأوضح تجلى هذا العام بتوقف مهرجان بصرى الدولي للفنون الشعبية، بعدما تفوق على السلالة الملكية في فرنسا وواصل العد حتى الدورة 19 ، علما أن الوزارة كانت قد أقامت في الشهر السابع من هذا العام الدورة الرابعة من مهرجان إدلب للفنون الشعبية الذي استحدثه الوزير رياض نعسان آغا، وكان يأمل بتحويله من مهرجان محلي إلى مهرجان دولي! كذلك توقف مهرجان الرقة المسرحي ومهرجانات أخرى توقفت قبل ذلك.
-2-
السينما السورية تغفو على وعود الصالات في ‘المولات’ وطفرة في الفن التشكيلي والتوزيع كعب أخيل الدراما وفيض من الصحف الجديدة يجعل القارئ يترحم على القديمة!
لكن مديرية المسارح والموسيقا أقامت مهرجان الشباب المسرحي الخامس في حلب وبسوية تنظيمية تفوقت كثيرا على السوية الفنية للعروض ألـ 12 المشاركة فيه.
وكان ختام نشاطاتها مع مهرجان دمشق المسرحي الذي انطلقت دورته ألـ 15 بمشاركة 13 عرضا من سورية و19 عرضا عربيا ودوليا بعد أن تغيب عرض فرنسي من أصل خمسة عروض أجنبية مشاركة، وكان واضحا اهتمام وزير الثقافة الجديد الدكتور رياض عصمت بهذا المهرجان إذ ما زال يعتبر نفسه مسرحيا قبل أن يصبح وزيرا.
الملفت لللإنتباه أن المديرية استضافت عرض ‘آخر خمسة عشر ثانية’ لندى الحمصي الذي أنتجه التجمع المسرحي ‘فضاء الثقافات’ في كندا قبيل المهرجان بأيام فقط، كذلك استضافت دار الأوبرا بدمشق عرض ‘ قدام باب السفارة..كان الليل طويل’ للمخرجة اللبنانية نضال الأشقر قبيل أربعة أيام فقط على انطلاق المهرجان، وعرض وليد قوتلي مسرحيته ‘في انتظار البرابرة’ في مرسم مصطفى علي في دمشق القديمة، وهو العرض الذي شارك أيضا قبل حوالي شهر فقط في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، بينما أضيف إلى برنامج المهرجان وفي اللحظات الأخيرة عرض تخرج السنة الرابعة لطلاب المعهد العالي للمسرح ‘سليكون’ بإشراف عبد المنعم عمايري، كذلك أضيف عرض هدى الخطيب العائدة من فرنسا ‘حب بلا جناحات’ إلى البرنامج، بينما أخذ على المهرجان وجود عروض سورية لا ترقى لسوية أن تشارك في المهرجان، وكذلك بعض العروض العربية التي شاركت لأهمية المشاركة العربية فقط، بغض النظر عن سوية هذه المشاركات.
وباستثناء المهرجانات المسرحية التي تشرف عليها مديرية المسارح والموسيقا، لا يبدو أن كثيرا من المياه قد جرت تحت جسر المسرح السوري، الذي يعاني من غفوة طالت بعض الشيء، وهذا ما سعت بعض الندوات الفكرية لمقاربته من خلال عناوين ‘المسرح والشباب’ أو ‘العلاقة بين المؤسسة الرسمية ومسارح الهواة’، وصولا إلى تأسيس عدد من المسارح القومية في أكثر من محافظة، لكنها فشلت حتى تاريخه باستنبات القمح من حقول أصابها الجفاف والبيروقراطية.
من جهة أخرى يتابع اتحاد شبيبة الثورة مهرجانه الذي أقيم هذا العام في مدينة درعا جنوب سورية تحت تسمية جديدة ‘المهرجان الوطني لمسرح الشباب’ ما بين 12 و19 من كانون الأول / ديسمبر 2010 متضمنا العروض الخمسة الفائزة في تصفيات الفروع، إضافة لعرضين ضمن تظاهرة عروض الكبار للصغار، وهذه الدورة 24 في سجل هذا المهرجان الذي يعتبر من أقدم المهرجانات المسرحية التي ما زالت مستمرة دون انقطاع، وقد استطاع عبر مسيرته الطويلة رفد الحركة الفنية في سورية بأسماء وخبرات متميزة.
السينما السورية والصالات المنتظرة في المولات
يبدو أن السينما السورية ما زالت تغفو على وعود إطلاق المزيد من صالات العرض في المولات التي أنشئت أو تلك المزمع إنشاؤها، إذ بات واضحا للجميع أنه لن تدور عجلة الإنتاج السينمائي بالمعنى الربحي ما لم توجد تلك الصالات، وهذه مسألة لا تتعلق بالمؤسسة العامة للسينما التي أعلنت عجزها في هذا المستوى، فلا أفلام المؤسسة أو القطاع العام ولا أفلام القطاع الخاص استطاعت أن تخلق حراكا مسرحيا في سورية، ولا هي استطاعت أن تستعيد الطقس السينمائي المفتقد في حياتنا اليومية والثقافية معا.
ومع أن الناقد محمد الأحمد مدير المؤسسة العامة للسينما أعلن ‘أن وزارة المالية ضاعفت ميزانية الإنتاج في المؤسسة للعام القادم 2011 ثلاثة أضعاف، من 45 مليونا إلى 135 مليون ليرة سورية، وهذا يعني أنه أصبح بالإمكان أن ننتج أربعة أفلام سنويا’. غير أن هذا الرقم في حال تحققه يبقى قليلا للحديث عن صناعة سينمائية حقيقية، ولا يستطيع أي منتج أن يغامر بصناعة فيلم سينمائي لن يراه الناس، كما حصل مع العديد من التجارب والمغامرات التي حصلت في هذا المجال.
يبقى أن المؤسسة التي حرصت على إقامة العديد من الأسابيع السينمائية في دمشق، نجحت في إقامة مهرجانها السنوي الثامن عشر الذي عرض فيه 222 فيلما روائيا طويلا من 46 دولة، توزعت على 14 تظاهرة سينمائية إضافة للمسابقة الرسمية التي ضمت 24 فيلما عربيا وأجنبيا، غير الأفلام القصيرة التي بلغت 93 فيلما مشاركا في مسابقة الأفلام القصيرة. واعتبر التقرير الثاني للتنمية الثقافية في الوطن العربي أنه بقدر ما يكون بلد عربي ما خاليا من الإنتاج، يزداد اهتمامه بالمهرجانات وتمويله لها من دون اهتمام جدي بتمويل حركة إنتاجية أو تدعيم ما يريد المبدعون تحقيقه. ويشير إلى أن المهرجانات الفنية في دبي وأبو ظبي وغيرها تبدو الأكثر قدرة على استقطاب الجديد والجيد من السينمائيين.
لكن وبغض النظر عن اللغط الذي أثير حول فوز الفيلم الجزائري ‘خارجون على القانون’ للمخرج رشيد بوشارب بالجائزة الذهبية لأفضل فيلم في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة إضافة لذهبية أفضل فيلم عربي أيضا في هذا المهرجان، نجد في قراءة الجوائز الأخرى أن الفضية ذهبت للفيلم الإيراني ‘يرجى عدم الإزعاج’ من إخراج محسن عبد الوهاب، كما ذهبت البرونزية للفيلم السوري ‘مطر أيلول’ للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، حتى جائزة المخرج السوري الراحل مصطفى العقاد لأفضل إخراج، و الخاصة بهذا المهرجان منحت للمخرج التركي ريها إيردم عن فيلمه ‘كوزموس’، فقط جائزة لجنة التحكيم الخاصة نالها الفيلم الإيطالي ‘حياتنا’ للمخرج دانييل لوشيتي، مما يعني أن هذا المهرجان رغم الحديث عن دوليته أو تدويله، ما زال يدور في الإطار الذي انبثق منه بداية كمهرجان لسينما العالم الثالث، أو سينما القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
الملاحظة الثانية تتجلى بضعف المشاركة السورية حيث اكتفى عبد اللطيف عبد الحميد بالبرونزية فيما نوهت لجنة التحكيم بالفيلم السوري الآخر المشارك في المسابقة ‘حراس الصمت’ للمخرج سمير ذكرى، ولكن حتى هذا النصيب كان محل اعتراض اثنين من أعضاء لجنة التحكيم: المخرج السوري نجدت أنزور والمخرجة المصرية ساندرا نشأت، حيث امتنعا عن التوقيع على النتائج، كما أعلن أنزور فور انسحابه من لجنة التحكيم اعتراضه على فوز الفيلم السوري ‘مطر أيلول’ بالجائزة البرونزية، قائلا: ‘إن الفيلمين السوريين لا يستحقان جائزة، وكنت أفضل أن نظهر بصورة حضارية، ولا نستجدي الجوائز، ولا يعني إذا كان المهرجان عندنا أن نحصل بالضرورة على جائزة’.
حتى مسابقة الأفلام القصيرة في المهرجان والتي تضمنت 93 فيلما يمثلون 39 بلدا عربيا وأجنبيا، لاحظنا أن حصة سورية منها كانت 11 فيلما قصيرا أو وثائقيا، لكن الجوائز ذهبت لبلجيكا وسلوفانيا وأخيرا تونس، أي أننا خرجنا من مولد هذه المسابقة بلا حمّص.
مع أننا نلاحظ اتجاها متناميا لدى العديد من الشباب والسينمائيين في سورية للاشتغال على السينما التسجيلية والأفلام القصيرة، مقابل عجز السينما السورية عن إنتاج أفلام روائية طويلة، وهو ما عززه وجود مهرجان سينما الواقع الذي أقيمت دورته الثالثة هذا العام، لكن حتى في هذا المهرجان ذهبت جائزة أفضل فيلم لزينة دكاش من لبنان عن فيلمها ’12 لبنانيا غاضبا’، ولم يكن حظ الأفلام السورية أفضل من حظها في المسابقات الرسمية.
المحترف التشكيلي وسوق الفن
الطفرة التي بدأت في عام 2006 في سوق الفن التشكيلي في سورية مع دخول صالتي ‘الأيام’ و’الآرت هاوس’ هذا السوق لم تنته بعد، ولا زالت أصداؤها تتردد سلبا وإيجابا، وما حدث في هذا العام من خروج بعض الفنانين والأسماء الهامة من تلك اللعبة أمثال يوسف عبدلكي ومنير شعراني وعبد الله مراد وسواهم أحد هذه المؤشرات الهامة باعتقادي، والمؤشر الآخر الذي يمكن رصده في هذا الصدد هو الندوات التشكيلية التي أقيمت لمناقشة ودراسة هذه الظاهرة بدءا من ندوة ‘لمحة عن سوق الفن العالمية’ التي قدمتها الاختصاصية هالة خياط في غاليري ‘رفيا’ إلى ‘ندوة كاتب وموقف’ التي أقامها الناقد عبد الرحمن الحلبي في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة، تحت عنوان ‘قيمة العمل التشكيلي بين الفن والتجارة’ وشارك فيها كل من ممدوح قشلان، غسان السباعي، وعز الدين شموط. وفي المحصلة هنالك من يقاتل ضد تسليع الفن السوري على حساب قيمته الإبداعية، وهناك من يرى باستمرار أنه لا يمكن فصل القيمة الفنية لأي عمل عن قيمته المادية أو التجارية.
يمكننا أن نشير إلى أهم النشاطات التشكيلية الأخرى التي شهدتها العاصمة السورية، وتحديدا ندوة “الفن العربي في عالم متغير” التي أقامتها غاليري “رفيا” في المتحف الوطني بدمشق وتحت رعاية الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية لشؤون الثقافة، وشارك فيها لفيف من الفنانين والنقاد العرب والسوريين أمثال: فاروق يوسف وعادل السيوي وسعد القاسم والياس زيات وحسان عنتابي ويوسف عبد لكي ومحمد بن حمودة وناصر حسين وياسر صافي، وكذلك ندوة “الفكر والفن التشكيلي” التي أقامتها غاليري “رفيا” على هامش معرض الفنانين سليمان منصور وتيسير بركات اللذين التحمت تجربتهما الفنية بشرطهما الإنساني داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد شارك في هذه الندوة إلى جانبهما كل من الفنانين السوريين غياث الأخرس ويوسف عبد لكي.
إضافة لذلك شهدنا معرضا متميزا بقيمته الفنية ودلالته الحضارية والإنسانية لسجناء سوريين عرضوا أعمالهم في سجن “عدرا” المركزي شمال دمشق، بحضور وزير الداخلية والسيدة نبال بكفلوني مديرة الفنون الجميلة في وزارة الثقافة، التي وعدت بتطوير هذه التجربة بهدف تعميق الجوانب الإنسانية عند السجناء والكشف عن مواهب إبداعية في أعماقهم قد تساعدهم على شق طرق جديدة في الحياة.
وقبل أسابيع قليلة أقيمت في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر “ندوة النحت الدولية الأولى لنحت الحرف العربي” والتي تكتسب أهميتها من أهمية فن التخطيط والتشكيل بواسطة الحروف العربية نحتا وتصويرا في الثقافتين العربية والإسلامية.
واستطرادا مع فن النحت نشير إلى الملتقى الدولي الأول للنحت على الخشب ما بين 1/6 و30 /6 في قلعة دمشق، بمشاركة 12 فنانا من سورية ودول عربية وأجنبية أخرى، والملتقى الثالث للنحت على البازلت الذي شهدته مدينة السويداء ما بين 6/ 7 و 5/ 8 بمشاركة تسعة نحاتين سوريين و11 نحاتا عربيا وعالميا، إضافة لملتقى النحت الواقعي الثاني على الرخام الذي أقامه معهد الفنون التطبيقية في دمشق ما بين 19/ 7 ولغاية 10/ 8 بمشاركة عشرة فنانين مختلفي الجنسيات والتجارب و12 من طلاب المعهد كمساعدين لاكتساب الخبرات وطرائق التعامل مع تقنيات فن النحت المعاصرة.
بالطبع لن نستطيع الوقوف مع الكثافة التي تشهدها صالات وغاليريات العرض المتنوعة في دمشق وباقي المحافظات لمعارض الرسم والتصوير الفردية والجماعية التي لا توجد أي إحصائيات لها، لكننا سنتوقف مع المعرض السنوي الذي انقسم منذ عام 2007 إلى معرض الربيع لمن هم دون سن الأربعين، ويقام سنويا في النصف الثاني من شهر نيسان/ إبريل، ومعرض الخريف لمن هم فوق سن الأربعين من الفنانين السوريين، ويقام سنويا في شهر كانون الأول/ سبتمبر، والمعرضان بعد مسيرة من التجريب في عدة أمكنة، استقرا أخيرا في خان أسعد باشا من دمشق القديمة.
هذا العام ضمّ معرض الربيع أكثر من مئة عمل تنوعت ما بين التصوير والنحت بأنواعه والغرافيك، فيما ضمّ معرض الخريف 135 عملا مشغولة بأساليب وتقنيات مختلفة، ورغم أن معرض الربيع يتسم عادة بميل أكثر نحو التجريب اللوني والبصري، إلا أن إشكالية هذه المعارض السنوية تكمن في سوية المشاركات المتباينة دائما، مما يُثير علامة استفهام حول لجنة التحكيم وشروط قبول بعض المشاركات والآليات المتبعة في اقتناء الأعمال من المعرض، وكل هذا يساهم في تدني سوية هذه المعارض، أو أنه يدفع ببعض الفنانين لتقديم أسوأ ما لديهم من أعمال. المسألة الثانية أن هذا المعرض الذي يشكل بانوراما لمحترف التشكيل السوري يجب أن يقدم مشاركات جديدة تحمل تاريخ عام المشاركة ذاته، ويجب أن تتسم بجدية تناسب أهمية المعرض السنوي، ولكل ذلك نجد سنويا ما يشبه المقاطعة لهذا المعرض من قبل أسماء مهمة في المحترف السوري، ويعقب ذلك غالبا تبادل في الاتهامات ما بين الفنانين أنفسهم، وما بين مديرية الفنون الجميلة ونقابة الفنانين الذين يتقاسمون الإشراف على هذه المعارض السنوية.
الدراما السورية وكعب أخيل التوزيع
عرفت الدراما السورية شيئا من النجاح النسبي هذا العام، نجاح في بعض الأعمال التي قاربت موضوعات جديدة أو تجاوزت بعض الخطوط الحمراء هنا أو هناك، إضافة لنجاح آخر في انتشارها على أكثر من ثلاثين فضائية عربية في الدورة الرمضانية الأخيرة، لكن هذه النجاحات ما زالت تخفي وراءها بعض علامات الاستفهام، لذلك قلنا إنها نجاحات نسبية.
فأغلب مسلسلات الدراما الاجتماعية تقاطعت وتشابهت في موضوعاتها، علاقات دون زواج، خيانات زوجية واستغلال عاطفي، ومشاكل العشوائيات تتكرر أكثر حتى باتت تنافس أعمال البيئة الشامية في التعبير عن هذه المدينة الأثيرة لدى صناع الدراما، مع ميل في بعض الأعمال باتجاه الاستسهال والاستهلاك كما حصل في الجزء الثاني من مسلسل “صبايا” الذي مال باتجاه خانة الكوميديا ظلما. واستطاعت بعض الأعمال أن تكتشف مساحات بكر لمعالجات جريئة كما في مسلسل “وراء الشمس”، أو مسلسل “ما ملكت أيمانكم”.
من جهة ثانية فقدت الدراما السورية عنصر قوتها حين حذت باتجاه شقيقتها المصرية في صناعة النجم البطل، وهذا على حساب دور المخرج الذي عُرفت به الدراما السورية طويلا، مما همش باقي الممثلين في أدوار ثانوية، حتى أن بعضهم يضطر للعمل في خمس أو ست مسلسلات في العام الواحد، وهذه نقطة ضعف في الدراما السورية خاصة إذا كانت هذه الأعمال تنتمي للدراما المعاصرة حيث تتشابه الموضوعات والأدوار أيضا.
بالمقابل نستطيع الحديث عن عناصر قوة امتلكتها الدراما السورية مؤخرا، وفي طليعتها الانطلاقة الجيدة لقناة “سورية دراما” التي أخذت على عاتقها ليس مجرد عرض الأعمال السورية الجديدة، بل واستعادة أعمال هامة في ذاكرة التلفزيون السوري، بالإضافة لعمليات الترويج وبرامج المنوعات التي تتابع الدراما السورية والدراميين السوريين أيضا. لكن الخطوة الأهم جاءت مع إنشاء “المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني” التي حلت مكان مديرية الإنتاج في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، وأسندت إدارتها للسيدة ديانا جبور مديرة التلفزيون سابقا، دون أن تتضح آلية عملها حتى الآن ودورها في دعم الدراما السورية التي تقوم بالجزء الرئيسي منها شركات الإنتاج الخاصة بالأصالة عن نفسها أم بالوكالة عن شركات ومؤسسات خارجية.
غير أن هذا يقودنا للحديث عن كعب أخيل الدراما السورية التي ما زالت الكثير من شركات الإنتاج المحلية فيها تعمل كمنتج منفذ لصالح شركات وفضائيات خليجية، تتحكم بانتشار هذه الدراما على الأثير العربي كما حصل هذا العام، أو تقاطعه كما حصل في عامي 2007 و2009 مثلا. وما زلنا نفتقد أي آلية أو جهة معنية بالتوزيع سواء كانت أهلية أو رسمية أو تشاركية.
وقد نستطيع أن نحلم بهكذا آلية أو جهة في المستقبل القريب أو البعيد، لكن شعر شمشون الذي يشكل نقطة ضعف الدراما السورية هو إشكالية التلقي، فكيف يمكن أن نقتنع أن “أبو جانتي ملك التاكسي” عمل أهم من “ضيعة ضايعة” مثلا، أو أن مسلسل “صبايا” أهم من مسلسل “أنا القدس”! وهذه المقارنات مأخوذة من استبيان صحيفة “الثورة” السورية الذي نشرته بعيد انتهاء الموسم الرمضاني مباشرة، وفي هذا الاستبيان تنوع في العينة أقل من تنوع واقع المشاهدة في مجتمعنا السوري، الذي يردد أغاني أبو جانتي، وتقفيلات أيمن رضا وكأنها نموذج ثقافي يُحتذى، فهذه إشكالية ثقافية تضعنا كل عام في تناقض بين ما يتابعه الجمهور ويعجب به، وبين ما يؤيده النقاد ويهتمون لأمره، ولا أعتقد أننا سنصل إلى حلة مصالحة في الزمن المنظور.
الإعلام وإشكالية الرقابة
هل نستطيع أن نتصور أنه في عام 1932 تأسست أول نقابة لأصحاب الصحف، وبعد عامين ولدت نقابة عمال الطباعة، وفي عام 1935وجدت نقابة محرري الصحف. وهل يمكننا أن نتصور ما بين تاريخ الاستقلال في 17/4/1946 وتاريخ قيام الوحدة الاندماجية بين سورية ومصر في 22/2/1958 أن عدد الصحف الصادرة في المدن السورية دمشق، وحلب، وحمص، وحماة، والحسكة، ودير الزور، واللاذقية والسلمية آنذاك بلغ 110 صحف، و53 مجلة، وأنه ما بين عامي 1952 و1957 ظهرت في سورية ثلاث وكالات أنباء هي: وكالة الصحافة السورية، ووكالة أنباء الجمهورية، ووكالة أنباء الشرق العربي!
أين نحن مما كان؟!
لنعترف أننا وحتى نهاية القرن العشرين لم نكن نملك إلا ثلاث صحف رسمية وبعض المجلات الثقافية التي تصدرها وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب العرب وإذاعة واحدة ببرنامجين منفصلين وتلفزيون واحد بقناتين وفضائية يتيمة إضافة لوكالة أنباء وحيدة “سانا”. لكن لنعترف أيضا أن الصورة تغيرت مع بداية الألفية الجديدة من حيث الكم والعدد بكل تأكيد، لكن من حيث النوعية ما زالت الرقابة تقف دون ذلك.
فإذا كان القانون رقم 50 لعام 2001 سمح بوجود إعلام خاص، فإن صحيفة “الدومري” التي تأسست وفقه لم تكمل عامها الأول وتوقفت بسبب اللهجة الإنتقاديه في مقالاتها، كما توقفت لاحقا العديد من المطبوعات التي حصلت على تراخيص رسمية إما لجرأتها في الطرح أو لعدم انتظام صدورها، وكان السبب الأول وراء مصادرة أعداد كثيرة من الصحف والمجلات ومنع توزيعها مما أربك أصحاب هذه المطبوعات كما حصل مع مجلة “شبابلك”، ولكن الأمر أدى مؤخرا إلى توقف صحيفة “بورصات وأموال” الاقتصادية عن الصدور نهائيا.
وبينما نحن الآن نتابع أعداد الصحف الخاصة التي صدرت وتلك التي توقفت دون أن ندرك جديدا في الإعلام السوري الذي يتحدث باستمرار عن التغيير والتجديد، نقول إن أكثر من 200 مطبوعة حازت على الترخيص والكثير منها ينزل إلى الأسواق لكن بسوية مهنية تجعلك تترحم على الصحف الرسمية الثلاث، ناهيك عن وجود كم كبير من صحف الإعلانات وصحف المنوعات وحتى الصحف الرياضية، فيما تعاني الصحف الإخبارية والاقتصادية الأمرين مع الرقابة حتى أن صحيفة “الخبر” المملوكة لطريف الأخرس كادت تنهك من كثرة المصادرة ومنع أعدادها من التوزيع. بل سربت وزارة الإعلام أخبارا مفادها أنها رفعت قائمة بأسماء العديد من الصحف والمجلات الخاصة تطلب إيقافها عن العمل وسحب التراخيص الممنوحة لها سابقا، ومع ذلك هنالك أكثر من 300 طلب ترخيص في وزارة الإعلام بانتظار الموافقات الأمنية التي لن تحظى بها أغلب هذه الطلبات.
ومع بداية هذا العام دعا اتحاد الصحافيين بتاريخ 10/2 / 2010 إلى اجتماع يضم كل ممثلي الإعلام المكتوب الخاص في سورية، للبحث في إيجاد صيغة تلبي احتياجات هذا الإعلام الذي مضى على وجود بعضه أكثر من خمس سنوات دون أن يحظى العاملون فيه على بطاقة العضوية في الإتحاد بما تتضمنه هذه البطاقة من تأمينات وتقاعد صحفي وميزات أخرى مهنية. ولم يخرج المجتمعون إلا بوعود من السيد الياس مراد نقيب الصحافيين بتغيير قانون النقابة، والتي نخشى أن تمضي سنوات قبل تغييرها كما حصل مع قانون المطبوعات في سورية والذي ما زلنا ننتظر أن يتغير أيضا.
وحال الإذاعات الخاصة أنها في سورية لا تمنح حق البث الإخباري، وهكذا تكون مجبرة على التقوقع في حيز المنوعات الغنائية وبعض برامج الطبخ والأبراج التي تكاد تخرب جيلا من شبابا الذي لم يعد ما يشغله سوى هذه الترهات. أما محطات التلفزة فهي من الكبائر في نظر وزارة الإعلام السورية، وليس ما حصل لقناة “الشام” التي هربت إلى مصر وبعدها “المشرق” التي تبث من الإمارات وأغلقت مكاتبها في دمشق كما أخذ تعهد من العاملين في تلك المكاتب أن لا يقترفوا هذا الذنب ثانية، وما بين التجربتين جاءت قناة “الدنيا” من داخل البيت الرسمي للإعلام السوري، وأسندت مهمة رئاستها لفؤاد شربجي الذي سبق له أن كان مديرا للقناة الأولى في التلفزيون السوري مع طاقم من داخل التلفزيون، لكن وزارة الإعلام انتفضت في لحظة ما على شربجي وطاقمه.
المفارقة أن التلفزيون السوري وبعدما أطلق قناة “سورية دراما” بدأ الاستعداد لإطلاق قناة إخبارية مستقلة عن التلفزيون السوري، وأنيطت بالدكتور فؤاد شربجي نفسه مهمة إطلاقها والإشراف عليها وإدارتها، على أن تبدأ هذه القناة البث التجريبي في مطلع العام الجديد، ونكتشف أن أغلب الأسماء التي عملت مع شربجي في قناة “الدنيا” قد جيء بها إلى تلك المحطة الإخبارية العتيدة، قبل أن تبدأ البث، فكيف سيكون مصيرها بعد البث؟ وكيف ستحافظ على استقلاليتها في بنية شمولية؟ ومن سيشرف على صرف ميزانيتها التي بلغت مليار ليرة سورية بشكل أولي كما جرى تسريب ذلك في الإعلام؟ كلها أسئلة سيبقى جوابها رهن القادم من الأيام.
التخوف الأكبر في سورية هذه الأيام من مشروع قانون الإعلام الإلكتروني والذي يجري التعامل معه بسرية شديدة، رغم التسريبات التي تقول إن الحكومة السورية قد أقرته بعيدا عن أي حوار إعلامي وأرسلته إلى مجلس الشعب في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر للتصديق عليه، مع أهمية هذا الإعلام للمواطن السوري كونه يشكل البوابة الوحيدة لإمكانية الحصول على المعلومة التي تكون في كثير من الأحيان معلومة رسمية، كقرار وزير التربية نقل المحجبات من جهاز التعليم إلى وظائف أخرى في الدولة وتلاه قرار وزير التعليم العالي بمنع المنقبات من دخول حرم الجامعة، وصولا إلى فضيحة تزوير نتائج الانتخابات في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب مما اضطر القيادة السياسية للتدخل وإعادة فرز الأصوات، وهذه التفاصيل غيض من فيض، لم يكن ممكنا السماع بها لولا الإعلام الإلكتروني، إذ تمتنع وسائل الإعلام الرسمية والخاصة في سورية عن الإشارة إليها، وكأنها سرّ أمني مثلا!
الإشكالية قائمة قبل صدور هذا القانون، إذ يوجد حوالي 240 موقعا الكترونيا محجوبا في سورية، مع أن موقع “كلنا شركاء” المحجوب منذ عام 2005 يدخله يوميا حوالي 35 ألف زائر، وهذا الرقم يتزايد باستمرار، والخطورة أن يحاسب الموقع الإلكتروني على أي تعليق يمكن أن ينشره زائر افتراضي للموقع، وهذا يلغي القيمة التفاعلية للإعلام الإلكتروني الذي يتطور في كل المجتمعات وتتطور هي من خلاله، ناهيك عن وصول الكثير من الحالات إلى القضاء والحكم على بعض المتعاملين مع شبكة الإنترنت.
السؤال: لماذا تخشى الحكومة من نقاش مشروع القانون مع الإعلاميين والمعنيين به أولا وآخرا؟ ولماذا هذه السرية في تمرير قوانين سوف تمضي سنوات لنتمكن من تجاوز آثارها؟!
الرقابة في سورية مشكلة يعاني منها المواطن والمسؤول معا، ومن يصدّق أن د. حسين جمعة رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية يطالب بإلغاء الرقابة أو تعديل آليات عملها؟
حتى د. ممتاز الشيخ مدير الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون سابقا ومدير الرقابة في وزارة الإعلام سابقا يقول: قدمت لثلاثة وزراء إعلام متعاقبين، مشروعاً بحثياً يؤيد إلغاء الرقابة وتحويلها إلى لجنة لدراسة الحالات الخاصة والاستثنائية التي يشتكي منها أحد ما، بعد طباعة الكتاب، ولكن لم يكن هناك نتيجة من ذلك، لأن القرار ليس بيد وزير أو حتى جهة واحدة، ربما يتطلب هذا النوع من التغيير قوة أكبر لتنفيذه.. وحالة الرقابة الهزيلة في سورية تشبه اكتشاف حالة مرضية ما، يجب عندها استدعاء الطبيب الذي هو المؤسسة الحزبية ـ باعتبارها هي التي تقود المجتمع والبلد ـ وما يتفرع عنها…
مع ذلك منعت الرقابة حلقة من برنامج “كاتب وموقف” الذي يُعده الناقد عبد الرحمن الحلبي وشارك فيه السيد ممتاز الشيخ مسؤول الرقابة سابقا والسيدة سميرة مسالمة رئيسة تحرير صحيفة “تشرين” والإعلامي المخضرم محمد قطان، لأن الحلقة تبحث في الرقابة على الصفحات الثقافية في الإعلام السوري! كما مُنع في سورية التي يحكمه حزب “البعث” العلماني مؤتمر حول “العلمانية في المشرق العربي”! والقائمة تطول كثيرا، فإلى أين سننتهي؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى