معادلة الشاعر السوري علي كنعان: وطأة البراءة الرعوية وخزين البراعة الشعرية
صبحي حديدي
على الغلاف الأخير لمجموعة علي كنعان الأولى ‘درب الواحة’، التي صدرت عن وزارة الثقافة السورية سنة 1966، كتب الناشر: ‘هذه محاولة لشاعر ناشئ. ومع ذلك فقد حققت ما يعجز عنه كبار الشعراء. إنّ علي كنعان يلتزم دون أن يفقد الشعر فنّيته، ففكرته لها لون وطعم ورائحة. إنه يعرف كيف يحوّلها إلى جزء لا يتجزأ من حياته، فهي تعيش في أحاسيسه، وأخيلته، بين تقاليد بيئته وعاداتها، تصبح حباً عندما يحبّ، وثورة عندما يثور، وشفقة عندما يشفق. لمسات ناعمة لطيفة ـ صور أثيرية أو تكاد ـ وبذات الوقت مسيرة ملحمية من الماضي إلى المستقبل، من الميلاد إلى البعث الكبير. إنه يطوّر عمود الشعر دون أن يقوّضه، فهو ثورة من الداخل تحفظ وتجدد، تنمّي دون أن تقهر، تتمرد دون أن تحطم’.
والحال أنّ صاحب هذه الكلمة لم يكن سوى المفكّر السوري الكبير أنطون مقدسي (1914 ـ 2005)، الذي كان آنذاك يشغل منصب مدير التأليف والنشر في الوزارة، وكان العرف يقتضي أن لا يوقّع باسمه. بيد أنّ زملاء كنعان، وغالبية الكتّاب والمثقفين السوريين في تلك الحقبة، كانوا يعرفون أنّ مقدسي هو الذي كتب الكلمة. وكان المفكر الراحل يعرف أنهم سوف يعرفون، وبالتالي كان ثمة قيمة خاصة في تأكيده بأنّ هذا الشاعر الناشىء قد حقق ما يعجز عنه كبار الشعراء. ورغم أنّ مقدسي كان منحازاً إلى المقاربة الإنطباعية في قراءة الشعر، إلا أنه أشار إلى جانبَيْن ملموسين في تفوّق كنعان: شاعر ملتزم، ولكنه لا يفقد الشعر فنّيته؛ وشاعر يطوّر عمود الفراهيدي، دون أن يقوّضه.
لكنّ تلك المجموعة الأولى كانت متميزة لأسباب أخرى لا تخصّ المحتوى والشكل، فحسب؛ بل لأنها، أيضاً، كانت تطرح مقترَحاً شعرياً متعددة الأبعاد، أو تعددي السمات إذا جاز القول، على جيل شعري كان في الأصل متشعب التجارب ومتنوّع التيارات والميول، لكي لا يتحدّث المرء عن تصارع الأشكال والأساليب، في غمرة تعايشها وائتلافها. كانت الحقبة تلك، مطالع وأواسط الستينيات، تضمّ علي الجندي (الذي انتمى إلى المجموعة رغم أنه كان يكبرهم سنّاً ومراساً ونشراً، إذْ صدرت مجموعته الأولى ‘الراية المنكسة’ سنة 1962، وسبقتها سنوات من النشر في دوريات أدبية سورية ولبنانية)؛ وممدوح عدوان (‘الظلّ الأخضر’، 1967)، وخليل الخوري (‘حبات قلب’، 1961)، وفايز خضور (‘الظلّ وحارس المقبرة’، 1966)، بالإضافة إلى الشاعر الفلسطيني فواز عيد (‘في شمسي دوار’، 1963).
وفي ظنّي أن إرث الإسهامات الأغنى لتلك المجموعة من الشعراء كان قد ابتدأ من نجاحهم في إقامة الصلة الحداثية، بمعنى التحديث المعمّق في الشكل مثل الموضوعات، بين حلقة عبد الباسط الصوفي وسليمان العيسى وشوقي بغدادي، حيث هيمن شكل ‘الشعر الحرّ’ أو التفعيلي الذي لم يكن يخرج جذرياً عن عمود الخليل، أو يدور حول تقطيع العمود طباعياً دون المسّ ببنيانه في الجوهر؛ وحلقة الثلاثي علي الناصر وأورخان ميسر وخير الدين الأسدي، حيث النماذج الأبكر من قصيدة النثر السورية، والميول السوريالية؛ والحلقات المنفردة كما مثّلتها تجارب نزار قباني ومحمد الماغوط.
المستوى الثاني العميق في إسهامات الجندي وكنعان وعدوان والخوري وخضور وعيد، وعدد من الشعراء سواهم، وإنْ بدرجات تتفاوت بالطبع (وأجدني أخصّ بالذكر الشاعر الكردي الراحل حامد بدرخان، الذي كتب قصيدة نثر ثورية الشكل والمحتوى، تعتمد فصحى خاصة من طراز بكر وعالي الإيحاء)، هو أنّ إقامة تلك الصلات الحداثية كانت تتمّ والشعراء على وعي تامّ بمقدار الضغوطات التي كانت القصيدة العمودية السورية تمارسها على الذائقة العامة؛ سواء على يد مجايلين من أمثال وصفي القرنفلي وحامد حسن وسعيد قندقجي وعبد الرحيم الحصني، أو مخضرمين وأصحاب سطوة من أمثال عمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونديم محمد من جيل الكبار السابق.
وأمّا في الخيارات الأسلوبية فإنّ ‘درب الواحة’ اقترحت الالتزام بنظام التفعيلة عموماً، ولكن ضمن تنويعات مفتوحة من حيث أنواع التفاعيل، وأنساقها، وما تنتظم فيه من تشكيلات إيقاعية، سواء على نطاق المجموعة بأسرها، أو على مستوى القصيدة الواحدة. وكنعان، في قصائدها، يتنقّل بين تفاعيل الرمل أو الكامل أو الخفيف أو المتقارب أو الرجز، بارتياح بالغ وسلاسة عالية، دون كبير إثقال أو تكلّف أو رتابة، ودون نشاز أو تنافر أيضاً. كذلك فإنّ التنويع في مخططات التقفية كان يسبغ طابعاً إنسيابياً على حركة التفاعيل، ويمنح القصيدة شخصية موسيقية ديناميكية لافتة، وجذابة، ومجددة.
في المحتوى كانت موضوعات المجموعة تبدأ من الهواجس المحلية، ثمّ تنتقل إلى القضايا الوطنية (أو القومية، بلغة تلك الأيام)، ولا تغفل التوقف عند المسائل الإنسانية الكونية، من جهة؛ كما أنها تنبثق من هموم الذات، وتنكبّ على مشاقّ الروح، وترتدّ إلى نوازع الوجود ومعضلات النفس، من جهة ثانية. والمجموعة، كما سيلاحظ القارىء، تنقسم إلى خمسة أبواب، تسير عناوينها هكذا: ‘درب الواحة’، ‘بدوي في دمشق’، ‘رؤى غائمة’، ‘ظلال الغيوم’، و’أغنيات للصيف’.
ولكنّ أشغال هذا الفتى البدوي في هبوطه إلى المدينة الكبرى دمشق، وفي شتى رؤاه وأغنياته وظلاله وغيومه، لا تتمحور أوّلاً حول صدمة المشهد أو جرح الإغتراب أو نوستالجيا البراءة الرعوية، كما يُنتظر عادة من تنميط شائع كهذا. إنها، منذ أولى القصائد في الواقع، تذهب إلى معركة استقلال الجزائر، و’تنّور أوراس الفائر’، وميلاد نسر ‘يحضن حلمه فوق الذرى’… وأمّا في المرحلة التالية مباشرة، فإنّ الفتى يلتفت إلى محيطه، وضيعته التي بلا نسور، حيث اليأس شرّش في الجوانح، فيصعد الهاجس الطبقي إلى السطح، ويختلط بمزاج صراعي نيتشوي تارة، ورثائي عدمي طوراً، دون أن يغيب التوتر الملحمي أو الشجن الغنائي.
وهذا الفتى البدوي يستدعي، من كلّ حدب وصوب، الشخوص والرموز والأساطير التي تغذّي رؤاه المتعاقبة، أو تخمدها، أو تشدّد احتقاناته إزاء عوالم هنا، أو تفجّر حنينه إلى عوالم هناك… ثمة أسماء كاليغولا وشمرا ونيرون وهيلين والأخضر العربي وشمشون وزنوبيا والسندباد وأوديب ويسوع ومريم العذراء وموسى، ضمن مشهديات تحفل بكادحين وثوّار وسجناء وفقراء وأطفال وموتى، في أماكن مثل قاسيون والقادسية واليرموك وصنعاء وبردى وبيت لحم… ‘يضيع العمر أوجاعاً وأوهاماً كلَيْلِ الشعراء’، يقول البدوي وهو يحمل في قلبه ‘عذاب البشريّة’ وفي عينيه ‘دموع الأنبياء’: ‘قلبه ناقوس ديرٍ ما تبقَّى/ فيه من مجد التراتيل القديمة/ غيرُ ألحان جنازة!’.
وليس بغير أسباب وجيهة، تخصّ جدل تطوير المقترح الشعري الذي انطلقت منه تجربة كنعان الشعرية الشخصية، أو تخصّ تطوّرات المشهد الشعري السوري استطراداً، أنّ الكثير من خصائص تلك المجموعة الأولى سوف تتواصل، وسوف ترتقي، في قصائد المجموعة الثانية، ‘أنهار من زبد’، 1970. هنا يتابع البدوي الحملقة في صورته وهو يغترب عن أخلاقيات المدينة، أو ينكسر على تخومها، أو ينأى أبعد فأبعد إلى هوامشها، دون أن يتحرّر البتة من مرارات هذه الحال، ولكن دون أن يفقد نبرة السخط أو السخرية أو الكشف أو الرثاء أو تمزيق الأقنعة عن وجوه المدينة. إنه فارس الزبد الموزّع على ضمير المتكلم مثل ضمير المخاطب، وهزائم جيله لا ترتدّ إلى التتار والمغول والفرس واليهود فحسب، ولا تشمل بغداد مثل دمشق وحدهما، لأنّ ‘يوسف الغربة’ و’يعقوب الكآبة’، فضلاً عن سيزيف ويوليس وبنلوبي وفاوست وشهرزاد والأعور الدجال وبلاط المأمون وأزدشير وهابيل ويهوذا… كلّها مكوّنات تتكاتف لصنع مشهدية الخراب العميم.
وكما يليق بجرح رومانتيكي نرجسي يُثخن بدوياً نبيل الحساسية ومُثْقَل الروح، مغترباً في حاضرة كبرى، ومنتمياً في الآن ذاته إلى فكر سياسي تختلط في تبشيراته أوجاع الطبقة برسالة خالدة تروم بعث الأمّة من الرماد؛ أتاحت هذه المجموعة صعود شعرية وجدانية رهيفة تقارع قبح العالم الخارجي في ميدان المخيّلة. معادلاتها تنكفىء بشاعرها إلى داخله ودخيلته تارة، أو تخرج به إلى رابعة النهار، ثائراً ساخطاً حزيناً طوراً، يهجو ‘فرسان الطواحين’ و’طبول العصر’ وزمن ‘الكلام الزئبقي’ و’مدينة كلبية’، و’جيفة أفعوان تجرّها النمال’، حيث ‘يستوي الوجود والعدم’…
وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض قصائد المجموعة، ‘الغربة الثانية’ و’أبو ذر’ و’اللؤلؤ وأنهار الزبد’، تعتمد بنية درامية حوارية بين أصوات أو شخوص أو حالات شعورية، وتشي بميل كنعان إلى كتابة المسرحية الشعرية، الأمر الذي سيتحقق بالفعل في مسرحية ‘السيل’، 1974. كذلك تتميز المجموعة بتشكيلات وزنية عالية الإيقاع، وأنظمة في القافية بالغة الإحكام (كما في مطلع قصيدة ‘طقوس ليلية’: ‘حشرجاتٌ في سراديب الهوى المخمورِ/ حمّى وصديد/ وعلى السطح غرابان من البريَّةِ الثكلى/ يحومان على قبرٍ جديد/ عالم يخبو../ أما من برعمٍ حيٍّ؟/ أما من حبَّةٍ تحت الجليد؟’)، على نحو يذكّر مجدداً بمقدار تأثر كنعان بقصيدة السيّاب بصفة عامة، ومفردات الإنشاد والضراعة والسؤال والقلق في لغته عموماً.
في مجموعاته الثلاث التالية، ‘أعراس الهنود الحمر’، 1979؛ و’مرايا لآخر المماليك’، 1992؛ و’أسئلة للرياح’، 1999؛ سوف يتضح وعي كنعان ـ الحاد تماماً، الجارح والساخر في آن ـ بالروابط الوثيقة بين الموضوعات الوطنية السورية والعربية، وقضية فلسطين أساساً (إذْ يخشى على الفلسطينيين مصير الهنود الحمر)، والهموم الطبقية والإنسانية لفقراء الأمّة وكادحيها. الشاعر هنا بات أقلّ انغماساً في قيعان الاغتراب الرومانتيكية، وأكثر انحيازاً إلى النقد الراديكالي لظواهر الجشع والاستغلال والخيانة والوصولية والاستهلاك والتخلّف والأعراف الإقطاعية، لدى ‘أمّة يتورم التاريخ في أسواقها’، و’تنضح بالصديد والبلاغة العصرية المعلّبة’. مزاج الإحباط، الذي يلامس حوافّ اليأس دون أن يُصاب به تماماً، لا يقتصر على الهموم المحلية السورية، أو العربية، بل يشمل خيبة أمل الشاعر من نهايات المعسكر الإشتراكي، والنظام الدولي (يطلق على مجلس الأمن الدولي تسمية ‘مجلس القمل العتيد’)، و’أمريكا السفلس’.
ولعلّ قصيدته، هنا، وأشدّ من ذي قبل، تعكس بقوّة ذلك الميل المعقد إلى إضفاء صبغة شكّ عميق على أنماط الاغتراب الوجداني والتوجع الرومانتيكي التي طبعت معظم قصائده، لأسباب تتصل على الأرجح باتضاح وعيه الحادّ بالروابط بين الذات والآخر، النفس والعالم، الخاص والعام، وبين خدر الحلم وكابوس التاريخ. وهو يمارس مقداراً أعلى من ‘تعليق اليقين’، بالمعنى الفلسفي والسيكولوجي للمصطلح، إزاء معطيات الخارج الملموسة المادية أو المجرّدة الشعورية؛ ليس لأنه صار أقلّ انتماء إلى الآخر والعالم، بل لأنه على العكس: صار أكثر وعياً بمفردات ذلك الإنتماء، وأكثر إحساساً بضرورات الشكّ ومفارَقاته. وفي وصية رهيبة، يقرر إبقاء ‘الكلمات كالجدري وشماً في ضمير الشام’، ويهتف: ‘أصيح بأرصفة الذلِّ:/ أيهما وطني/ غابة الصالحية والصفقات المريبة والترف الدموي؟/ أم ترى ثورة الجوع والقهر والأقبية؟/ أيها الوطن المزرعة/ أيها الوطن المحرقة’.
ويلفت الانتباه أنّ مجموعة كنعان الرابعة ضمّت قصيدة نثر، بعنوان ‘لقاءات سرّية مع أشجار الدم’، بدت بمثابة تتويج لانعطافة الشاعر نحو تفاعيل أكثر سلاسة، وتشكيلات إيقاعية أشدّ سيولة، ولغة تجهد للتخفف من المجاز والبلاغة. وثمة، في هذا التفصيل، دلالة أسلوبية ذات مغزى، عند شاعر اتخذت أولى قصائده شكل عمود الخليل، قبل الاستقرار على شكل التفعيلة في صياغات وتشكيلات إيقاعية بالغة التنوّع. كذلك اتسمت بعض قصائد ‘أسئلة للرياح’ بنزوع إلى السرد، الممتزج بالسخرية السوداء والتأمل الرواقي، كما في ‘شظايا’: ‘ في سباق الخيول/ مدّت الخنفساء/ رأسها تطلب الجائزة/ صاح فأر الحقول:/ إنها الوعلةُ الفائزة!’. وهذه القصيدة تتألف من سبع قصائد فرعية، الأمر الذي يؤكد مجدداً استمرار كنعان في الخيار القديم ذاته الذي تجلى منذ المجموعة الأولى، أي اعتماد عنوان رئيسي لموضوع مركزي واحد ينتظم مجموعة قصائد.
‘أطياف من لياليها’، 1998، تمثّل نقلة خاصة في تجربة الشاعر لأنها تعكس تأثّره بالآداب والفلسفات اليابانية، أثناء مرحلة من الإقامة في طوكيو حيث عمل مدرّساً للأدب العربي في إحدى جامعاتها. وفي مقدّمة للمجموعة، بعنوان ‘حالة شعرية اسمها اليابان’، يروي كنعان طبيعة الصلات التي أقامها مع البلد هناك، ويكتب بوجد شبه صوفي عن ‘كوكب خارج مدار أرض البشر’، لعله ‘كوكب الملائكة والقديسين والشعراء وحور الجنان، الكوكب البكر بطبيعته الساحرة المخيفة’. ويقول: ‘إن أطياف طوكيو ما زالت تخطفني في كثير من الليالي المقمرة إلى هناك. لكني لا أعرف تماماً: أين يبدأ الحلم وأين ينتهي الواقع. وغالباً ما أسأل نفسي: هل كانت حياتي هناك حقيقة أم حلماً؟ هذه هي الحالة الشعرية التي لا أقوى على التقاطها بكلمات. ولا أقوى على الخروج منها’.
طبيعي، والحال هذه، أن تهيمن على المجموعة موضوعات ذات صلة بالثقافة اليابانية، والشعر بصفة خاصة، فيصطحب كنعان قارئه إلى أماكن مثل جبل فوجي وحديقة بوذا وقرية غورا وأدغال ربونغي ومنتجع إيزو، دون أن يغفل أوكيناوا وهيروشيما لكي يذكّر بالجرائم الأمريكية، في الماضي كما في الحاضر؛ ويعرّفه على بعض شخوص اليابان (يوكيو ميشيما وياسوناري كاواباتا)، وأساطيره (شيسا، الوحش الخرافي)، وكائناته (طيور الـ ‘تسورو’، غرانيق أو كراكي البلد التي تدفع الأذى عن المرضى وتبعث على التفاؤل)، ويحاكي بعض روحية فنون اليابان (كما في قصيدته ‘تشكيل’، حيث يأخذه الوصف إلى القول: ‘يد ريكو زنبقة’)… وإذْ يدفعه جمال البلد إلى وجد صوفي آخر، شرقي عربي هذه المرّة، فيهتف ‘مدد يا إلهي، مدد!’؛ فإنّ كنعان لا يفقد خيط التماهي مع نظائر سورية وعربية متعددة، مثل انتحار الشاعر الحمصي عبد الباسط الصوفي في غينيا، ومقهى النوفرة الدمشقي، وإبلا، وبدر، ومئذنة الأقصى، وبلاط الشهداء.
المجموعة السابعة، ‘نخلة اسمها فاطمة’، 2002، تبدأ بقصيدة جميلة، شجية وغنائية وشفيفة، تضرع إلى البحر كي يفسح مأوى للبدوي الشاعر، المغترب ذي الكاهل المثقَل، دون سواه، وقد بلغ في هذا النصّ سنّ الخامسة والستين. لكنه لا يوقّع القصيدة من مسقط رأسه في قرية الهزة في بادية الشام، أو من دمشق عاصمة بلاده، أو طوكيو حيث مسّت الثقافة اليابانية شغاف قلبه الواجف، بل من أبو ظبي حيث يعمل ويقيم في منفى، سيّان أن يكون قسرياً أو اختيارياً:
آوِني يا بحرُ في عبِّكَ
أطلِقْ وهج روحي موجةً بيضاءَ
لا شطآنَ تغريها
ولا تُسكرها ترنيمةُ القاعِ
فتصغي أو تنام
آهِ، لا تنثرْ على الصخر أو الكثبان
أحلامي شظايا
مَنْ يثير الدمعَ في جفنِ الغمام؟
كان لي نجمٌ من الوردِ اليمانيِّ
أداريه زماناً في الحنايا
كيف غارت منه أطيافُ اليمام؟
ورغم أنّ عنوان المجموعة يوحي بأنّ موضوعاتها تدور حول قصيدة الحبّ، هذه التي تتوفر في بضع قصائد بالفعل، وفي عدادها قصيدة العنوان، فإنّ كنعان لم يكن قادراً على تكريس الموضوعة في غالبية نصوص المجموعة. ثمة تيه ورمال وتهويم ورماد، وثمة واحة سراب وطقس جنون وغدير جافّ، ولا مناص من حضور فلسطين والفرات ودجلة وبردى والدانوب ومنافي آسيا وعبيد روما، ولا مفرّ من انكسار الرمح إلى عكازتين، وطغيان ‘ليل المنافي’، في ‘وحشة غابيَّة الأسرار’، حيث ‘أبو العلاء يجوس في أدغالها/ دوَّامةً من نار’… وهنا، أيضاً، يتخذ تعليق اليقين صيغة رياضة إرتدادية عن الحلم الرومانتيكي الأمثل، والأصلي، إلى تشكيك في طبيعة ذلك الحلم، وإلى ما يشبه التشكيك في الشكّ ذاته، وصولاً إلى ‘احتفال عبثي’ و’رماد طللي’ و’عصر حجري’.
كذلك تفاجئنا المجموعة بقصيدة حول فنّ الشعر، عنوانها ‘ومضات’، وتتألف من ستّ قصائد فرعية، سبق للشاعر أن أوحي بشذرات من أفكارها في مجموعات سابقة، على نحو كان جنينياً في الغالب، أو اتخذ صفة التلميح والإشارة الوجيزة. هذه المرّة تتحدث أقسام القصيدة عن روافع الشعر، فيسأل الشاعر: ‘من أين أبدأ رحلة الذوبان في جسد القصيدة؟’، ويطرح سلسلة احتمالات: من ‘وردة جورية في البال’، أم من ‘سحائب طافحات بالعبير’، أم من ‘بلادٍ بيع أقصاها/ لكي يستكمل الأعرابُ سؤددَهم/ بكرسيٍّ وحانوت ورسمٍ في جريدة’؟ كذلك يتوقف، في مقاطع أخرى، عند ‘شراع القصيدة’، و’الهاجس الشعري’ والضفاف التي عندها ‘تحار القصيدة’. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المجموعة احتوت، بدورها، على قصيدة نثر بعنوان ‘العنبر 21’، بدت أشبه بمحاولة خجلى للموازنة مع حال اشتداد الإيقاعات الوزنية في غالبية القصائد، وعودة الشاعر إلى المناخات الموسيقية التي ميّزت قصائده الأبكر.
في ‘برزخ للجنون’، 2005، الآن إذْ يختتم العقد السادس ويخطو نحو السابع، يركن كنعان إلى القصيدة المطوّلة التي تحشد التواريخ والأزمنة والأمكنة والشخوص والعناصر والوقائع، في مزج سيمفوني مركّب، ونبرة ملحمية عارمة لا تفلح، مع ذلك، في إخماد نزوعاته الرعوية المتأصلة، ولا تطمس الكثير من ميوله الإحيائية حين يطلّ على مشهد طبيعي زاخر بالرموز. هذه حال قصيدته، التي حملت المجموعة عنوانها، والتي تتناول غزو العراق سنة 2003 على نحو هجائي مرّ ومرير؛ وحال قصيدته ‘الحصان الخشبي’، وعنوانها الفرعي ‘سهرة مع ممدوح عدوان’، التي تبدو اقرب إلى ‘جردة حساب’ لآمال وآلام وهزائم وانتصارات جيل بأسره. إنه، في نطاق ما يطلق عليه تسمية ‘برلمان الكلمة’، وفي ميدان الشعر تحديداً، يعيدنا إلى نزار قباني وصلاح عبد الصبور وخليل الخوري وعبد الله البردوني وأمل دنقل وحامد بدرخان، وينتهي إلى اقتباس الشاعر الإنكليزي الرومانتيكي جون كيتس: ‘لم يمتْ.. ولم ينمْ/ لكنه استيقظ من حلم الحياة’.
وفي قصيدة ‘فواز عيد’، يخاطب كنعان صديقه الشاعر الفلسطيني الراحل، وإنْ كان في واقع الأمر يهتف لنفسه، وربما لأفراد الجيل إياه، المثخَن بجرح نرجسي طال نزيفه وامتنع التئامه: ‘طالتِ الغيبةُ/ واسترخى على مائدةِ النجوى/ جدارٌ من جليد/ آنَ أن تخرج من شرنقة الخوف/ إلى ميعادك الشعريّ/ يا فوَّازُ عيد’. أمّا قصيدة النثر الوحيدة في المجموعة، تحمل ـ إلى جانب خصائصها الفنّية الرفيعة، وقاموسها النثري الذي تتراصّ مفرداته باقتصاد محسوب وبارع ـ فضيلة تشديد حلقة الارتباط بين هذه الاندفاعات الملحمية، وإرث العريق لشاعر ظلّت جذوره تضرب عميقاً في أرض غنائية شجية؛ وليست مصادفة محضة أنّ عنوان هذه القصيدة هو… ‘جنازة اللغة’!
لكنّ المجموعة التاسعة، ‘أبجدية الينابيع’، 2007، تعيدنا منذ العنوان إلى الإرث الرعوي العتيق، مثلما تزجّنا في ما يشبه الحصيلة الكبرى لتجربة شعرية مضطرمة، مع فوارق جوهرية كبرى، وحاسمة: أنّ القصيدة لم تعد ساحة اصطراع وتصارع بين مفارقات الانتماء وتناقضات الاغتراب، في مستوى اللغة والشكل والمعنى، فحسب؛ بل هي تظاهرة هائلة لاجتماع أنساق ذلك الإصطراع كافة، ولامتزاجها في حاضنة جمالية وفنّية تعمل دون كلل، ودون رتابة. ورغم أنّ كنعان لم يخشَ تكرار هذه أو تلك من موضوعاته الأثيرة، وظلّ وفياً لأطوار ذلك البدوي الجريح الحزين المتمرد الثائر؛ فإنّ الأصوات العديدة المتغايرة، التي تكاثرت في قصائده، وتبادلت الأدوار، وتكاملت أو تنازعت، بقيت بدورها كفيلة بصيانة حيوية الإيقاع وضمان كسار الرتابة.
وفي هذا كلّه ظلّت شعريات على كنعان ترتقي وتتطوّر ضمن معادلة كبرى: أنه كان حامل براءة رعوية مديدة ثاقبة الرؤيا والحسّ والحساسية، وباصرة تصويرية وتشكيلية خارقة، وانتماء نبيل في أتون اغتراب لا يقلّ نبلاً، من جهة أولى؛ وأنّ حامل الحامل هذا كان خزين شعرية فريدة لم ينهض امتيازها على أوهام حداثة نخبوية جوفاء، أو ألعاب تجريب مجانية عزلاء وانعزالية، من جهة ثانية. وتلك معادلة صنعت قسمات كنعان الشعرية الخاصة، وأفردت له مكانة عالية في المشهد الشعري السوري على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، كما ضمنت له صوتاً متميزاً راسخ السمات في حركات التجديد الشعري العربية منذ أواسط الستينيات ومطالع السبعينيات.
وإذا كان قد استهلّ هذه المجموعة الأخيرة باقتباس من لسان العرب، حول خريف العمر (يقول: ‘سمِّي الخريف خريفاً لأنه تُخرَفُ فيه الثمارُ، أي تُجتَنى’)؛ كما أهدى قصائد/ وردات إلى قريته مسقط رأسه، وإلى حمص ودمشق (ولم ينسَ إرسال شوكة للغراب!)؛ وهجس عن مواسم ماضية، وأطياف تراود خواتيم العمر، ودنوّ الخريف السبعين؛ فإنّ ما لا نصدّقه، البتة، عن تجربته الشعرية الطافحة المعطاءة، أنها تزمع مغادرة ربيعها الدائم إلى أيّ صيف وشيك، فكيف بأيّ خريف!(*)
(*) نُشر هذا النصّ كمقدّمة لأعمال علي كنعان الشعرية، التي صدرت مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان وبيروت.