صفحات مختارة

المكان: مابين التمدن والإصلاح

إبراهيم غرايبة
الدين والمدينة ينتميان إلى جذر لغوي واحد مستمد من الآرامية “الدين” بمعنى العدل، ويوم الدين في القرآن الكريم هو يوم العدل، هكذا فالمدن تقوم أساسا على العدل، أي القانون، فلا يمكن أن تنشأ مدن من غير القانون، ولا يمكن أن ينشأ تمدن من غير ثقافة القانون، والفكرة الجامعة للناس حول المكان هي أساس الدول والحضارات والعمل العام، لأنها تنشئ مصالح وتشريعات وثقافة منظمة للإدارة والحياة السياسية والثقافية مستمدة من تفاعل الناس مع المكان، وتعاقدهم على الأمن والعدل وتحقيق المصالح والاحتياجات وفق تفاعلهم مع المكان وليس ما تقتضيه بيئة الإنتاج والحماية الأخرى المنتمية إلى الريف أو البادية.
وتتجه المجتمعات والحضارات في مسارها العام إلى التمدن، وكانت المدن هي مركز الحكم والثقافة والرسالات السماوية أيضا، وتعتبر ظاهرة التريف في المدن والسلطة والثقافة العربية معاكسة للاتجاه المفترض لتطور الحياة العامة والسياسية، وربما تكون من أسباب فشل التنمية والإصلاح والمشاركة السياسية والعامة.
وتجمع الناس حول المكان في عقد اجتماعي هو أول وأهم خطوات ومقتضيات التحضر، فالمدن هي مركز العمل العام والاجتماعي والحضاري والإبداع، ويقتضي ذلك بالضرورة أن يكون الإنسان منتميا إلى مدينة أو تجمع حضري، فالرعاة والصيادون لا يمكن أن يؤسسوا أعمالا ومشاريع وبرامج اجتماعية وثقافية.
وكانت إقامة مجتمع إسلامي أساس الدعوة الإسلامية، وسميت يثرب “المدينة” في دلالة رمزية مهمة على أن الإسلام يقوم ويعمل ويطبق أساسا في مدينة، ولا يمكن أن تكون الرسالة إلا في المدينة، فلا تنجح ولا يصح أن تكون ابتداء في القرى الصغيرة والمراعي والتجمعات المحدودة، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينهى من يسلم من أهل البادية أن يعود إليها، ليبني مجتمعا مدينيا.
والناظر في أحكام الإسلام وآدابه يجدها تؤسس لسلوك مديني متحضر يستوعب المكان الذي يجمع الناس، مثل الاستئذان عند دخول البيوت، والنهي عن رفع الصوت، والتجمل والتطيب والنظافة، والاستماع، وإشهار الزواج والشهادة عليه، وكتابة الدين، والانصراف بعد الطعام، والذوق العام، وغير ذلك كثير مما ينشئ عادات وتقاليد وثقافة مكانية مدينية ومجتمعية.
والمواطنة والجنسية عقد والتزام بين طرفين، الدولة والمواطن، وتقتضي الانتماء والمشاركة وأداء الواجبات، والمواطنة ليست عرقا أو اثنية، ولكنها تقوم على المكان، فمواطنو دولة هم الذين يتجمعون حول فكرة جامعة للدولة تقوم على أساس المواطنة والالتزام نحوها والتمتع بالحقوق والفرص التي تتيحها، فالانتماء يقوم أساسا على المكان، والمواطنة والجنسية هي علاقة اجتماعية تنشأ مع المكان.
الغد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى