كل عام والترجمة العربية بخير
محمد عارف
“أتشاءم من وقوع رأس السنة يوم الجمعة في الثالث عشر من الشهر”؟ سؤال قد لا يخدع معظم العرب لكنه ينطلي على فرنسيين يجيبون بالإيجاب، لأن الاعتقاد الشعبي السائد في فرنسا يعتبر الرقم “13” مشؤوماً، وقمة الشؤم في تقديرهم وقوع الثالث عشر من الشهر يوم الجمعة. هذه النكتة التي يرويها حسن حمزة، أستاذ اللسانيات في جامعة ليون بفرنسا تضعنا في قلب الإشكال الجوهري للترجمة، والذي اعترض حركة الترجمة العربية في مطلع عصرها الذهبي ببغداد في القرن التاسع الميلادي. واجه الإشكال “السيرافي النحوي” في مناظرته المشهورة مع “متي بن يونس المنطقي” حول النقل من لغة إلى لغة. “لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها، في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها”. ووقعت آنذاك النقلة التاريخية في الترجمة على طريقة “يوحنا البطريق” الذي كان ينظر إلى كل كلمة يونانية مفردة وما تدل عليه من معنى فيأتي بمفردة عربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى، فيثبتها، وينتقل إلى الأخرى، حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه. وقامت بدلها طريقة “حُنين بن إسحاق”، الذي “يأتي بالجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبر عنها في اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها”.
وما يبدو في هاتين الطريقتين محض فروق تقنية يتضمن اختلافات فلسفية تعيد الآن طرح أسطورة “برج بابل” من جديد. أظهرت ذلك أحدث نتائج البحث في علوم الإنسان “الأنثروبولوجيا” واللسانيات التي تشكك في أهم نظرية في اللغة خلال القرن العشرين. عرضت نتائج البحث المجلة العلمية البريطانية “نيوساينتست” التي ذكرت أنها تنقض نظرية عالم اللغة الأميركي ناعوم تشومسكي حول وجود وحدة فطرية خاصة باللغة في الدماغ البشري. فاللغات، حسب الأبحاث الجديدة هي التي تشكل الدماغ، وليس العكس. و”اللغات شاذة بشكل مدهش”. فالإنجليزية تضع الفاعل قبل الفعل، والعربية تضع الفعل قبل الفاعل، والفنلندية تخلو تماماً من الظرف، ولغة سكان لاوس “اللاوية” تفتقر بالمرة إلى الصفات، وبعض اللغات تملك ستة أصوات متميزة لصنع الكلمات، وأخرى 144 صوتاً، ولغات الإشارات لا تملك أي أصوات بالمرة.
أسطورة “برج بابل” المذكورة في التوراة تعتقد بأن البشر الذين كانوا يتحدثون بلغة واحدة “تبلبل” لسانهم لغات مختلفة عندما أنشأوا برجاً يناطح السماء، وجمعوا فيه أقواماً مختلفة. و”بابل نقطة بداية لا نقطة نهاية”، حسب عالم اللغات الفرنسي لويس جان كالفي. “حين نتصور العدد اللامحدود للشفرات الجنينية التي تسم بدايات الإنسانية بميسمها، فلن يفاجئنا تعدد اللغات بل عددها النسبي المحدود”. ويذكر كالفي في كتابه “حرب اللغات والسياسات اللغوية” أن هناك عنصرين يقفان في وجه هذا الميل إلى التعدد؛ فالواقع أن ولادة لغات يقابله موت لغات، والتعددية اللغوية التي يوجدها التوسع الجغرافي يزول أثرها بسبب تعدد وسائل الاتصال الحديثة. فالفضائيات على سبيل المثال لا تسمح بجعل إنجليزية أميركا وإنجليزية بريطانيا لغتين مختلفتين. والعرب شهود فضائيات تنشئ لغة عربية وسيطة يتفاهم بها عرب المشرق والمغرب.
ترجم كتاب “حرب اللغات والسياسات اللغوية” حسن حمزة، ونال به جائزة “ابن خلدون-سنغور” عام 2009. والكتاب واحد من عدة كتب صدرت عن “المنظمة العربية للترجمة” فازت بجوائز، بينها كتاب “في نظرية الترجمة: اتجاهات معاصرة” تأليف أدوين غنتسلر، وترجمة سعد عبد العزيز المصلوح، وقد نال جائزة الشيخ زايد للترجمة للعام نفسه. ومع جوائز الترجمة العربية “بات ضرورياً أن يكون لدينا نقدٌ ترجميٌّ مستقل، غير ملحق بالنقد الأدبي”. يذكر ذلك علي نجيب إبراهيم، أستاذ المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، في باريس، ومترجم كتاب “الترجمة وتطور البنية الاجتماعية”. فالكتب الجديدة تقارب ميادين أبحاث اللغة، وهي في أوج غليانها وذروة فورانها. كتاب “مفاتيح اصطلاحية جديدة”، يعرض خطة عالمية طموحة يساهم فيها باحثون عدة لإعادة تمحيص ما تغير من مصطلحات الثقافة والمجتمع.
والإنسان العاقل هو قبل كل شيء إنسان متكلم. هذه هي الخاتمة السعيدة لواحد من أجمل الكتب المترجمة، وعنوانه “أجمل قصة عن اللغة”. وكلام الكتاب حوارات مع ثلاثة من أبرز الباحثين الفرنسيين حول المعجزة البايولوجية التي ولّدت اللغة. كيف تطور في أسلافنا جهاز نطقي قادر على التلفظ بأصوات تجعل دماغ شخص يتفتق عن تداعي أفكار معينة، أو توليد صور في ذهن مجهول، أو الإيحاء بأضغاث ماض غابر، وبأحلام مستقبل طي الغيب؟ والمحير في معجزة اللغة أنها لم تظهر بموجب قوانين الاصطفاء الطبيعي الداروينية التي تفسر ظهور الإنسان والكائنات الحية عموماً. وأبعد ما يذهب إليه الباحثون هو القول بوجود جينات مختلفة تشترك بشكل مباشر في عملية إنتاج اللغات وفهمها.
الموجة الجديدة في الترجمة العربية ولدت في موسم حصاد نصف قرن من محصول علوم اللغة والترجمة العالمية، ومؤلفو بعض الكتب المترجمة عرب معروفون على صعيد عالمي. كتاب “الكلام أو الموت” لمصطفى صفوان، وهو من أبرز المحللين الفرنسيين من أصل مصري، تخرج من جامعة الأسكندرية، وعندما أضيع أتبع نصيحته بالعودة إلى “مرجعيتنا الذاتية حيث تجد جوابك في أسئلتك ذاتها”. ومؤلف كتاب “سوسيولوجيا الغزل العربي”، وهو المترجم نفسه الطاهر لبيب، أستاذ علم الاجتماع سابقاً بالجامعة التونسية، ومدير “المنظمة العربية للترجمة”، ورئيس تحرير مجلتها الفصلية “العربية والترجمة”.
وكل عام والترجمة العربية بخير. وأتطلع في عام 2011 إلى الترجمة الجديدة لكتاب الشاعر الفرنسي أراغون “مجنون إلسا”، وهو واحد من 34 كتاباً قيد الترجمة. عندما قرأته أول مرة “حل المساء كبرتقالة” في حياتي، ومعه “انتهكت قفلاً فوجدت مزلاجه طوع بناني. عشية سقطت غرناطة، أقحمتني الكلمات درباً لم يكن في بالي”. وغرناطتي بغداد “يا جسداً من بنفسج وياسمين يأتيني ريحها”. الصبايا “أولئك اللائي يقرقرن من دكان إلى دكان. ضحكتهن الخفيفة كلعبة طفل. وصوت الحلي إذا تحركن. يدرن بعيونهن الكحلاء على الناس. نساء مصبوغة أصابعهن في ثياب حمراء. يرتدين الدم الذي يرتعش فينا”. تلك كانت ترجمة الشاعر سامي الجندي، الموضوعة فوق منضدة النوم منذ قصفت بغداد عام 1998. وأتلهف إلى الترجمة الجديدة للشاعر أدونيس. “صعب أن نرى القفزة تمتد ولا تنتهي أبداً”. فبغداد تسكن فيّ، مثل إلزا في أراغون، وليلى في قيس. “أموت كل لحظةٍ ممّا أحب، مع ذلك أعيش والله يعلم كيف”.
الاتحاد