سلطة من لا سلطة لهم
” ”
عبد الحفيظ الحافظ
إذا كانت الأسئلةُ خضراء دائماً والإجابة مصيرها إلى الفناء ، فقد جاءت الأسئلة تترى في كتاب ” سلطة من لا سلطة لهم ” :
– ما العمل لتطوير سلطة من لا سلطة لهم ؟.
– ما هي بالضبط المعارضة في النظام ما بعد الشمولي ؟.
– هل يحدد البرنامج البديل طبيعة المعارضة ؟.
– لمَ يعتقد النظام الشمولي أن له حقاً مطلقاً على الفرد ؟.
– ما دور اللامبالاة من جانب آلية الدولة في حالة الفساد القانوني ؟.
– كيف تتحول المعارضة الديمقراطية إلى مفهوم بديل في النظام الشمولي ؟.
– هل نريد تغيير النظام أم مجرد إصلاحه ؟.
– هل السياسة فن الممكن ؟.
– لماذا أكد ميثاق الـ 77 في تشيكوسلوفاكيا بأنه لا يسعى لأن يكون حزباً سياسياً ؟.
– هل بالإمكان كسب تعاطف أولئك الذين في مواقع السلطة ؟.
– من هم الداعمون المحتملون للميثاق الـ77 ؟.
– هل للتحرر الاقتصادي دورٌ للظفر بحقوق الإنسان ؟.
بعد هذا الحصاد الوفير من الأسئلة ، الذي أملته صفحات كتاب ” سلطة من لا سلطة لهم ” ، لابدَّ من سرد مثال ” بائع الخضار ” ، وقد ماشى معظم مواضيع الكتاب :
كتب ” فاتسلاف هافل ” : ” بائع الخضار الذي يبيع جزراً وبصلاً ، وهو يعلق شعار ” يا عمال العالم اتحدوا ” في نافذة محله لا شأن له بالبروليتاريا أو الخضروات ، بل بالأحرى بالتجلي الرسمي للوعي الاشتراكي لبائع الخضر ، الذي يرتبط بالنسبة له مباشرة بكسب عيشه …..
فالخضري الذي يرفض عرض هذا الشعار المقرر ، أو الذي يستعيض عنه بشعار أكثر صلةً بعمله ، مثل ” يا عمال العالم كلوا الخضار ” ، أو ” يا نباتني العالم اتحدوا ” ، قد تتاح له فرصة زيادة دخله ، لو لمْ يمنعه ذلك الخوف من الطرد المباشر بسبب انعدام الثقة حسب المادة /53/ والفقرة /1و2/ من قانون العمل ” ص228
إذا اختار هذا الخضري رفض التلاعب الشمولي ، ورفض هذا بالتأكيد يمثل تحدياً لوحدة السلطة ما بعد
الشمولية القائمة على شمولية العيش ضمن الكذبة ” لأن العيش ضمن الحقيقة بديل إنساني واجتماعي، وهي تكافح لتوسيع الفضاء المتاح لتلك الحياة ، إنها تساعد على زيادة ثقة المواطنين ، وتمزق عالم المظاهر إرباً وتميط اللثام عن الطبيعة الحقيقية للسلطة ” ص116
بهذا المثال أجاب هافل عن تساؤل : ماهي يالضيط المعارضة في النظام ما بعد الشمولي ؟ : ” البرنامج البديل يحدد طبيعة معارضة ما في الدول ما بعد الشمولية ، لكن الحكومة تفهم مصطلح ” معارضة ” كما حددته في البند /2/ أي شيء ينجح في تفادي التلاعب الشمولي ، ويرفض بالتالي مبدأ : أن للنظام حقاً مطلقاً على الفرد “ص77
ثم كتب ” حوزيف فوهريسك “عن حالة الفساد القانوني التي يُسلط الميثاق الضوء عليها ، تشكل كينونة موحدة منطقياً . وهي ليست نتيجة للامبالاة من جانب آلية دولة ولا التشويش الناتج عن الإهمال . إنها تشكل منظومة تمَّ تشييدها عمداً : إنها النظام “ص285 ، فميثاق الـ77 ” ليس سوى تعبير شرعي عن إرادة المطالبة بحقوق المواطنين غير المنقوصة ، ولا يسعى الميثاق وراء إزالة بنى السلطة التي لولاها لما كانت محاولات الفساد القانوني المنهجية “ص285
على ميثاق الـ77 أن يعارض ” هذا الانحلال الذي سببه استهتار أولئك الذين لا يطالبون بحقوقهم.. وتضامنهم التاريخي مع الجماعات الحاكمة ..هو أعمق من أي اختلافات أيديولوجية ، لأنه متناغم مع مبدأ الحفاظ على النفس “ص286
كتب ” جون كين ” في مقدمته للكتاب الذي صدر عام 1985 :
الكتاب يُعنى بإيضاح الخصائص المضادة للديمقراطية ، وكذلك حدود أنظمة الحكم الشمولية ذات الطراز السوفييتي ، ويضيف : الكتاب هو ردة فعل مرضية على هذا الصمت الغربي حيال قضية أشكال السلطة الشمولية .
تبقى المشكلة هي تحويل المعارضة إلى ” موقف سياسي جديد ، ينبغي أن يكون قادراً على تقديم مفهوم بديل ” ص150 ، وستمارس الحكومة بالتأكيد القمع بسبب الخوف من البديل المحتمل ، فطبيعة الدول ذات الحزب الواحد تسعى دائماً لوأد الحياة العامة ، لإعادة إنتاج صورتها الزائفة ، التي تقوم على اندماج المجتمع المدني بالدولة ، ويشدُّ النظام ما بعد الشمولي الجميع إلى نطاق سلطته ” لا لكي يحققوا ذواتهم بوصفهم كائنات بشرية ، بل لكي يخضعوا هوياتهم الإنسانية لصالح هوية النظام “ص50
يجيب هافل عن سؤال : إذا كنا نريد تغيير النظام أم مجرد إصلاحه ؟. قائلاً : ” هذه مشكلة زائفة في ظل الظروف التي نعيش فيها ، طالما لا يوجد في الظرف الراهن أية طريقة لإنجاز أي من الهدفين ، ولسنا حتى على بينة من أين يبدأ الإصلاح ويبدأ التغيير “ص74
لكنه يعلن :” ما من ثورة تهدف جوهرياً إلى التغيير العنيف إلا لأنها ببساطة تؤمن بالعنف ..إن المستقبل المؤمن بالعنف قد يكون بالفعل أسوأ مما هو قائم “ص100 ، لقد فقد العنف الفعال باعتباره شكلاً من أشكال المقاومة المدنية أبعاده الإنسانية والحجج البلاغية .. للمجموعات كلها وبدون استثناء طرقٌ فاشيةٌ تضع طاقاتها بالكامل في التصدي للعنف المؤسسي ، لذلك تنحل أخلاقياً “ص288
إن النظام التوليتاري لفترة ما قبل 1968 في تشيكوسلوفاكيا ” انتقل مِنْ يتصرف كل واحد بما ينسجم مع أهداف وضعها بنفسه ..إلى المطالبة بنقيضه تماماً ، خواء كامل للإرادة المدنية ، وصمت أبدي ، وسلبية وهمود كاملين ، فعدم الموافقة الصامتة .. أضحت واحدة من دعائم السلطة الشمولية “ص288 ،
حتى أن عمل المرء في مهنته الحقيقية ” جُعل ميزة يمكن حرمان العصاة منها كعمل الجراحين وعازفي الكمان “ص289 ، ” وتعتمد الأنظمة الشمولية مبدأ المجتمع المغلق , الذي لا يقتضي أن يكون الكل في قارب واحد وحسب , بل أيضاً أن لا يكون أي واحد قادر على التشاور مع الآخر, أو حتى تشكيل روابط ” ص290 , منتديات جمعيات حقوق الإنسان .
من سمات النظام الشمولي ” الأبوية ” التي تقوم بدور أب تقليدي متسلط ” ومقتنع تماماً بأنه يريد الأفضل لأولاده .. وعندما لا يلقى منهم سوى العقوق يحرمهم من الميراث ” ص294
بعد هذا التوصيف للواقع والتجربة البشرية. ما هو الاتجاه الذي علينا أن نمضي به؟.
” إن تجربة وجود جديدة, وتجذر متجدد في الكون والإحساس بفهم جديد للمسؤولية الأسمى , ولعلاقة داخلية جديدة مع الناس الآخرين , ومع المجتمع الإنساني , هذه العوامل كلها تشير بوضوح إلى الاتجاه الذي علينا أن نمضي به” ص113
أما ” رودلف باتيك” فقد حذَّر في الكتاب قائلاً : علينا ” أن نتفادى القفزات السياسية في المجهول ، وننأى بأنفسنا عن المثاليات الاجتماعية الجذابة ، تلك مع رؤاها حول إزالة السلطة والحكومة والدولة” ص153 ، فالطريق إلى الأمام ينبغي أن يقدم الدليل العملي والملموس على أن ” الدولة والسلطة السياسية ليستا التعبير الأسمى عن حياة المجتمعات ، بل مجرد وظيفة من وظائفها ، الوظيفة الأكثر جوهرية على الإطلاق ، والتي يستوجب عليها أن تلعب دوراً تتضاءل أهميته على نحوٍ تدريجي ، وعلى المجتمع أن يتغلب تدريجياً على حسه من قبل دولة تسعى بمساعدة آلاتها البيروقراطية وقوى القسر لديها إلى تحقيق سيطرة كاملة على حياة المجتمع ككل ، وحياة كل مواطن بأدق تفاصيلها ” ص211
هنا لابدَّ من التوقف عند حقوق الإنسان وحقوقه المدنية ، التي بحاجة إلى تحرره الاقتصادي ، ولا تتم هذه المعادلة إلا عندما يتحرر المجتمع المدني من سيطرة الدولة وآلياتها ، وبهذا الصدد كتب ” فاتسلاف بندا ” في عام 1978 : ” تبرهن الحاجة إلى نشوء مجال كامل من البنى الموازية .. خلق مجتمع مواز .. شروط المناقشات السياسية وتشكيل الرأي العام .. تطوير سلطة من لا سلطة لهم ” ص14
يؤرخ هذا الكتاب لميثاق الـ77 في تشيكوسلوفاكيا باعتباره ” حملة مستقلة لمواطنين فقد ْفندَ منذُ البداية الزعم بأنه يسعى لأن يكون حزباً سياسياً ” ص177 ، ويضيف : من العبث التفكير بإمكانية أن ينحل طواعيةً ، فالطريق الوحيدة لوضع حد لحركة التجديد هي : ” إزالة أو تصحيح القضايا الاجتماعية التي أدت إلى ظهورها، وبغير ذلك لا يمكن أن تكون هناك نهاية للميثاق والميثاقية ” ص189
وقد مثل المشاركون في الميثاق طيفاً واسعاً من وجهات النظر الأيديولوجية و” كانت ردة فعل السلطات السياسية على هذه المبادرة سخيفة ، حيث قامت بإحضار الناس أو استدعائهم والطرد من العمل بسبب التوقيع على الميثاق ، والقيام بحملة تشهير واتهامات وتقريع ” ص194 ، وإذا كان ميثاق الـ77 تحدياً ينتظر ردَّاً من الذين توجه إليهم ، لكن عليه أيضاً أن ” يكسب تعاطف أولئك الذين في مواقع السلطة ” ص196 .. ولا ينبغي أن تكون المشاركة في السلطة هي الهدف ، بل ” إجبار السلطة أياً كانت على سلك طرق قانونية وشرعية ” ص214
وقد بين هافل أن ” شأن الموقعين على ميثاق الـ77 شأن بقية السكان مع فارق وحيد ، هو أنهم يقولون علناً ما يفكر به الآخرون ” ص277 ، مع أن النظام ” ليس قلقاً بشأن المواطنين طالما أنهم لا يعلنون عن معارضتهم ” ص255
إن كلمة مواطن ” غير ملائمة بالقدر نفسه ، فاليوم يفهم المواطن بوصفه خاضعاً للدولة أكثر مما يفهم بوصفه عضواً في مجتمع ، فالحقوق المدنية هي جانب واحد فقط من جوانب حقوق الإنسان ” ص281
فالدولة التوليتارية توأم الدولة الأمنية لكنهما ملتصقتين ، والأخيرة تُرفع إلى واحدةٍ من أعظم الفضائل ، حتى أن ” الحزبي لمْ يعدْ يُجسدُ أحسن الصفات الإنسانية بل الشرطي ، لكن الحجم الكبير والطاقة المبذولة للحفاظ على النظام لا يساهم بتطور المجتمع ، لأن غرضه الوحيد هو منع التغيير ” ص287 ، عندئذٍ تمتلك السلطة الشمولية قدرةً على تحويل أي رؤية لدى الناس الأحرار إلى اتهام تستخدمه ضد أولئك المعنيين ، الأمر الذي يؤدي إلى دفع المجتمع إلى الوراء عبر عملية تحول كاملة .
ثمة شيء واحد كان واضحاً في هذه التجربة ، أن محاولة الإصلاح السياسي لمْ تكنْ سبب نهوض المجتمع ، بل كانت المحصلة الأخيرة لهذه النهضة ، والثورات ” لا تحدث لأن الثوريين ينادون بها ، ولا هي نتاج تشريب الجماهير بوجهات النظر الثورية .. تحدث الثورات عندما لا يستطيع السواد الأعظم من الشعب احتمال النظام..أما دور الثوريين فهو إرشاد الجماهير الثائرة إلى أفضل السبل للاستمرار” ص271 وهذا لا يتناقض مع تعريف ” السياسة ” على أنها ليست فن الممكن وحسب بل خلقه ، وتفعيل شروط التغيير الكامنة في الواقع .
هناك نقطة هامة تتعلق بالأخلاق ، فجمال الحياة وشقاؤها يحتم على المرء أن يبقي عينيه مفتوحتين ،
” فبدون علاقة أخلاقية مع الحياة ، فإن الكفاح سيصل عاجلاً أم آجلاً إلى الإخفاق ، والتحطم على صخور منظومة سكولاستية مبررة لذاتها ” ص110
قضية أخيرة تتعلق بتثقيف الناس بأيديولوجية أحادية وهي المسموح بها ، نراها تخلق أساساً أوسع بكثير للكراهية ، فالوحدة التي نريدها ” هي الوحدة الداخلية ، الوحدة الحرة للحقيقة أما بالنسبة للأفكار، فالعلاج هو بلا شك التعددية الجدية والمسئولة ، التي لا تؤدي بالطبع إلى العدمية ، فالعدمية ليس لها القدرة على التغلب على الكراهية..إنها تستوجب الإيمان بالحقيقة والحرية والعدالة المقرونة بالشجاعة لإنجاز هذه الأمور ، تحت النظرة المستمرة لخصومنا ” ص309
” كُتب هذا الكتاب بعد تشكيل ميثاق الـ77 بوقت قصير ، وقبل تشكيل حركة تضامن مباشرة ، وهو الشكل الديمقراطي للمقاومة المدنية ، وثمرة مبادرة 1978 التي قام بها مواطنون تشيكوسلوفاك وبولنيين ملتزمون بالدفاع عن حقوق الإنسان و في 7 كانون الثاني 1977 صدرت في براغ دعوة لاحترام الحريات المدنية والسياسية ، والإعلان نُشر في 1 كانون أول 1977 ورابطة مناصريه غير الرسمية ، أُطلق عليهم اسم ميثاق الـ77 ”
هذه قراءة أولية لكتاب غني ومفيد ” سلطة مَنْ لا سلطة لهم ” ، كتبه ” فاتسلاف هافل وآخرون ” عام 1985 ، وصدر عن دار إسكندرون في دمشق ، وترجمه عباس عباس – علي خليل بـ 333 صفحة .
حمص 25/12/2010