في التوزيع العادل للأمل
فواز طرابلسي
تحت عنوان «إعادة توزيع الأمل» نشرت «الإيكونومست» البريطانية آخر افتتاحياتها لهذا العام. الأمل في حالة حراك، تقول المجلة الاقتصادية الأشهر عالمياً. إنه يغادر العالم الغربي (أميركا وإنكلترا وفرنسا) الذي كان السبّاق إلى الإيمان بالتفاؤل في المستقبل خلال القرون الأربعة الماضية، ويطل على بلدان الاقتصاديات الصاعدة في الصين والهند والبرازيل. عند الأولين ينخفض الأمل بأن أبناءهم سوف يعيشون حياة أفضل من الحياة التي يعيشونها هم، وعند الثانين يرتفع الأمل.
لا تتعامى «الإيكونومست» عن أسباب انخفاض منسوب الأمل في العالم الغربي، خصوصاً جراء الأزمة المالية الأخيرة وما خلفته من معدلات نمو منخفضة وارتفاع في معدلات البطالة وركود في الأجور العمالية وانخفاض في معدلات الارتقاء الاجتماعي وفرصه. لكن المجلة الاقتصادية لا تفقد الأمل. سوف يخسر الغرب البعض من ميزاته. لن يكون لحكّامه السطوة ذاتها على سائر دول العالم. وسوف يضطر إلى التضحية بممتلكات ثمينة لصالح أجانب، وتتقلّص فرص العمل لأبنائه. في المقابل، سوف تسهم زيادة عدد البرازيليين والهنود والصينيين ممّن يملك القدرة على شراء المنتجات الغربية في ازدهار الشركات الأوروبية والأميركية.
تـتم إعـادة توزيـع الأمـل التـي تبشّر بها «الإيكونومسـت» بـين مستهلكين في العالم الثاني ارتفعت قدراتهم الشرائية وبين شركات في العالم الأول تزدهر بسبب ارتفاع الطلب على منتجاتها. ماذا بشأن سائر العالم؟ لا تملك المجلة البريطانية الرصينة ما تقوله أكثر من الترنيمة النيوليبرالية المعهودة: «مئات الملايين يخرجون من حالة الفقر» (أين؟ وما الرصيد بين مَن خرجوا ومَن دخلوا؟) اتساع دائرة الواصلين إلى المعرفة عن طريق الإنترنت والتقدم الطبي في مكافحة الأمراض. مهما يكن، الفارق كبير بين هذه الإنجازات، النسبية، وبين الخلاصة التي تنتهي إليها «الإيكونومست» بأننا بتنا في عالم لم يعد الأمل فيه محصوراً بقلة ضئيلة من البشر، بل صار بمتناول «الجماهير». والإيحاء هنا كأن الأمل هو الذي يفسّر الازدهار الموعود لا الازدهار هو الذي يفسّر انتعاش الأمل.
مهما يكن، تحت عنوان توزيع الأمل ذاته، كتب الفيلسوف الماركسي السلوفيني المجدِّد سلافوي جيجك صفحات نقدية تذهب إلى صلب الموضوع.
يستعير جيجك فكرة العالِم الاجتماعي الفرنسي بيار بورديو ليؤكّد أن المجتمع هو أولاً آلية لإعطاء معنى للحياة. ويلاحظ أن الاقتصاديات النيوليبرالية تؤدي تدريجياً إلى اختفاء فكرة المجتمع ذاتها، بما فيها من التزام بنوع معيّن من التوزيع العادل للأمل. يخلص جيجك من ذلك إلى أن الضحية الأكبر للعولمة ليست تقلّص سيادات الدول ولا فقدان الهويات، بل هي «تقهقر المجتمع». في الماضي عندما كانت المجتمعات تتقهقر كانت الدولة تتدخل لبث الأمل فيها بما هي الجهاز الملتزم بضرورة وجود مجتمع أخلاقي وتنمية ذاك المجتمع. في ظل العولمة، لم تتراجع الدولة عن هذا الالتزام وحسب تراجعت أيضاً عن الالتزام بوجود الاجتماع الوطني بذاته. صارت الدولة منتجاً نشطاً لما يسمّيه جيجك «الموت الاجتماعي».
ويتحدث جيجك عن رأسمالية مالية متعولمة تحلّق فوق العالم باحثة عن أرض تغطّ عليها شرط أن تتوافر فيها أفضل الفرص لجني أعلى معدلات الربح، حيث لم تعد حدود الحضارة والكرامة والأمل تتطابق مع حدود الأمة ـ الدولة، بل صارت ترسمها حدود الطبقات العليا، والأرخبيل الذي تسكنه طبقة كوزموبوليتية متعولمة، في محيط من الهامشية والجوع والفقر والمصاعب المعيشية. تحتاج الرأسمالية المتعولمة إلى دول ولكنها لا تحتاج إلى مجتمعات. وتحتاج إلى دول تخدمها، للأمن والخصخصة، لا لممارسة وظيفة الدولة الأخلاقية في المجتمع ولا لبث الأمل.
يعرف سكان «المحيط» في قرارة أنفسهم، وفي التجربة، أن مجتمعهم الوطني لم يعد يخدمهم. يغادر بعضهم إلى الاغتراب الخارجي والبعض الآخر إلى الاغتراب الداخلي. في الحالتين، يتمسّكون بالهويات ـ الإثنية والمذهبية والدينية والعرقية ـ ظناً أنها تشكّل تعويضاً عن الحرمان من المجتمع الذي لم يعد يعيل، ومن دول لم تعد تبث الأمل. لكن الهويات، التي تعد بتعويضات وتقديمات لا تستطيعها، تشدّ إلى الخلف والخوف، والخوف إلى اليأس.
حري بنقد جيجك أن يدفع للتفكير في الفارق بين الهويات والأمل. واحدة تشد إلى الماضي والآخر إلى المستقبل. لا ضرورة للمزيد من المقارنة أو المفاضلة بين إعادة توزيع الأمل عند «الإيكونومست» وإعادة توزيع العدالة والأخلاقية للأمل لدى سلافوي جيجك. يكفينا هنا ما هو مشترك بينهما: أن نتطلّع إلى العام القادم وأن نحاكم الأحداث والتطورات والسياسات والمشاريع بناء على مقياس رئيس:
هل أن أولادنا سوف يعيشون حياة أفضل من التي عشناها ونعيشها نحن أم لا؟
يبقى أن إحدى ميّزات الأمل قدرته على أن يفاجئ… بالأمل.
تفاجئ أحداث تونس لجرأة الاحتجاج فيها ونوع التضحية وإن لا يفاجئ كثيراً القمع السلطوي الدموي. إنها تكسر هيبة نظام بدا أكثر من متماسك وراسخ. ولذا فدرسها الأول هو أهمية الأمل بالشعب.
أن ينتحر ثلاثة شبان في سيدي بو زيد ليس دليل أمل قطعاً. ولكن أن يؤدي الانتحار ومقتل رفيق لهم برصاص الشرطة إلى الهبّة الشعبية التي تدفقت ارتداداتها من الجنوب المهمّش إلى الحواضر والعاصمة، هذا على الأقل إرهاص بآمال.
والآمال ليست هي الأوهام. وكل ما يجدر قوله الآن هو لفت الانتباه إلى شعارات التحرّك. تصرخ عالياً: كفى للاستبداد والفساد! ولكنها تطالب بـ»التشغيل، التشغيل، التشغيل». أليس هذا الشعار هو التعبير الحرفي عن المطالبة بتوزيع الأمل على الشباب؟ وأي أمل من دون عمل؟ كذلك يرفع تحرّك أبناء «الأطراف» التونسية شعار التوزيع العادل للثروات والمناطق. أليس هذا هو المعنى الحرفي للتوزيع العادل للأمل؟
على مشارف العام الجديد، أقل الواجب توجيه تحية الشكر والتضامن و… الأمل إلى الشباب التونسي على جرعة الأمل هذه.
عشية هذا العالم الجديد، يبقى لنا جميعاً الأمل بصوت فيروز يذكّرنا:
«إي في أمل»!
السفير