من الماركسية إلى عفلق مرورا بالناصرية
غسان المفلح
هذه المدارس التي حكمت المعارضة السورية، ما عدا جماعة الإخوان المسلمين والسلطة السياسية معا. اختلف مسار السلطة لاحقا، لأنها سلطة، وتتحرك وفق مصالح وازنة تعتبرها أولوية، ومحكومة بمعادلات إقليمية ودولية وداخلية، ولكونها سلطة سرحت ومرحت بالعباد، تقمع هنا وتساوم هناك، تتفنن في اختراع آليات ديمومتها بغض النظر عن أي اعتبار آخر، وضعها في هذا الازدحام وللحفاظ على نفس القائد الرمز، تحول إلى بديل عن كل شيء، ايديولوجيات وأحزاب وسياسة. والاستبدالية معروفة، الحزب استبدل مصالح المجتمع بمصالحه كحزب قائد، والقائد استبدل مصالح الحزب والمجتمع معا، ودخلنا زمنا تكراريا بالمعنى النسبي للعبارة.
أما المعارضة لهذه السلطة ومنذ أربعة عقود، هي من نفس المنبت الايديولوجي السلطوي تقريبا، ماعدا بالطبع جماعة الإخوان المسلمين، لن نتحدث عنها في هذا السياق.
استطاع الرئيس الراحل حافظ الأسد وطاقمه المصغر من استقطاب كل الأحزاب التي كانت في المعارضة قبل الحركة التصحيحية، ماعدا مجموعة الراحل الكبير ياسين الحافظ، وهي مجموعة يغلب على نشاطها كحزب عمال ثوري، المنحى الثقافي، وأنتجت مثقفين من عيار ثقيل سوريا. أما ما تبقى من معارضة فبقيت أقل من عقد من الزمن تراوح بين الالتحاق بالنظام التصحيحي والانشقاق عنه، وفي هذا العقد برز ثلاث محطات بتاريخ المعارضة السورية، أقصد عقد السبعينيات، تكرس انشقاق الحزب الشيوعي المكتب السياسي بزعامة المناضل رياض الترك كفصيل معارض عن الحزب الشيوعي الرسمي ـ بكداش كحزب مع السلطة، وانشقاق الاتحاد الاشتراكي، حيث انشقت مجموعة وبقيت بنفس الاسم مع جبهة السلطة، وبقي الحزب بزعامة الراحل جمال الاتاسي في المعارضة، والمحطة الثالثة هي تأسيس رابطة العمل الشيوعي منذ بداية السبعينيات، وعقدت مؤتمر حلقاتها الأول عام 1973 متبنية العمل من أجل تشكيل حزب شيوعي من طراز جديد لإسقاط السلطة، ومن خارج المظلة السوفييتية. وبالطبع هنالك من بقي بعثيا منهم اليميني ومنهم اليساري، الأول يحسب على تيار القيادة القومية بزعامة المرحوم ميشيل عفلق، الذي عرف لاحقا ببعث العراق، والثاني يحسب على القيادة القطرية بزعامة المرحوم صلاح جديد، أو ما عرف باسم الشباطيين نسبة لحركة 23 شباط 1966 التي أطاحت بانقلاب عسكري بسلطة القيادة القومية. وكان الرئيس الراحل حافظ الأسد من رموزها، حتى استولى على الحكم بانقلاب 1970 ووضع كل رفاقه في الانقلاب الشباطي في السجون، وبقية القصة معروفة للجميع.
بعد هذه المقدمة السريعة، أود التطرق لسؤال، طالما شغل الكثير من المهتمين وهو ‘طالما ان البنى الايديولوجية لهذه المعارضة واحدة، والسلطة تتغير لها مقتضيات السلطة ذاتها، وترمي أية ايديولوجيا في أقرب سلة قمامة، من أجل الحفاظ على مصالحها، ولكن المعارضة لماذا تنشق وتخون بعضها بعضا عند كل محطة رئيسية في تاريخها وتاريخ سورية بعد عام 1970؟
وهنا سأضرب مثالا وهو أحداث الثمانينيات التي جرت بين التحالف لتحرير سورية بزعامة جماعة الإخوان المسلمين وبين السلطة، كان صراعا داميا ذهب ضحيته عشرات الألوف من السوريين من كلا الطرفين. استخدمت في هذه الصراع كافة الأدوات العنفية المادية والرمزية من قبل المتصارعين. ماديا مجرد ان تحركت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين ونفذت بعضا من عملياتها حتى انهار تماسك خطاب السلطة بوصفه خطابا بعثيا، وانفصم هذا الخطاب بين خطاب بعثي للتصدير، وخطاب طائفي انتشر بين رجالات العسكر، والأمن والحزب، بطريقة علنية وصار الكل مستهدفا طائفيا. وتفننت السلطة في ممارسة العنف بكل أشكاله، هنا لابد لي من قول كلمة بسيطة، إذا كان فصيل من المعارضة مارس عنفا وارتكب جرائم بحق مواطنين أبرياء على هويتهم الطائفية، السؤال الذي يطرح نفسه، هل كانت السلطة أفضل حالا؟
بالعكس السلطة قامت بإخراج كل مخزونها من العنف والتدمير الممنهج للبشر، كأية ميليشيا. وهذا لا يبرره أبدا قيام بعض عمليات عنفية هنا وهناك من قبل هذا الفصيل ‘التحالف لتحرير سورية’ المدعوم آنذاك من الحكومة العراقية نتيجة لصراع تاريخي بعثي ـ بعثي. لكن السؤال عن بقية المعارضة التي انقسمت إلى قسمين، من دون أن تستطيع إنتاج موقف ثالث، كما طرح حزب العمل الشيوعي آنذاك نظريا، بينما عمليا كان موقفه أقرب لدعم السلطة؟ تمحورت المعارضة حول الوقوف مع التحرك المعارض الآخر بزعامة تحالف مكين بين بعث العراق والإخوان المسلمين، أو الوقوف بصف النظام، ولكل مبرراته ودوافعه وأسبابه، حيث الايديولوجيا بحر من المعايير والتقييم واللغو والخطابة، يمتح منها الجميع، هنا ماركسيون وهناك ماركسيون، هنا بعثيون وهناك بعثيون، هنا ناصريون وهناك ناصريون، الأغرب من كل هذا أن كل طرف من هذه المعارضة بدأ باتهام الطرف الثاني بأنه إما طائفي أو أنه يقبض من صدام ومدعوم من الرجعية والصهيونية، باعتباره حلفا رجعيا أسود، أو مدعوم من النظام أو مخترق أمنيا وطائفيا…
نفس المعادلات والاتهامات تكررت ما بعد خروج الجيش السوري من لبنان وما ترتب على ذلك بعدها، ولازلنا نعيش نفس المرحلة ونفس الانشقاق التاريخي، ولم تستطع الايديولوجيات نفسها التي نمتح منها أن تكون حاضنا من عدم الانشقاق هذا والذي في النهاية يصب في مصلحة السلطة بغض النظر عن نوايانا. هل يعني هذا أننا طائفيون؟
المفارقة الطريفة أن حزب العمل الشيوعي في سورية، رغم موقفه هذا إلا أن السلطة كانت تطلب أكثر، إما معي وعلنا أو إلى السجن، وهذا ما حدث ذهب الحزب كله إلى السجن. والمفارقة الأخرى أن التحالف من أجل تحرير سورية، كان الإخوان المسلمون فيه قد رفضوا في داخل سورية أن يشارك الشيوعيون السوريون بالنضال السلمي، أقله في حلب وحماه 1980، والمقصود الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي، قبل أن يتحول الى حزب الشعب حاليا بزعامة المناضل رياض الترك. أما السلطة فقد كانت تقوم باعتقال طرفي الانشقاق المعارض.
الآن تتصدر الخطاب الديمقراطي عناوين أدبيات المعارضة الحالية، وتقريبا نفس الشعارات، نحو تغيير سلمي آمن وتدريجي نحو الديمقراطية، ومع ذلك حتى تحت سقف الخطاب الديمقراطي لازال الانشقاق عنوان هذه المعارضة وهذه الأحزاب نفسها، لا بل هذه الشخصيات المعارضة، أما المثقفون الذين كانت أسماؤهم تنتشر في فضاءات سورية، انتقدوا النظام وطالبوه بمكافحة الفساد والطائفية، لكن من دون أن ينتج عنهم موقف مؤسسي فاعل، كما هي الحال اليوم. حيث بعد بيان الـ99 أثناء ربيع دمشق 2000-2002 وعقبه بيان الـ1000 لم يعد للمثقفين صوت مؤسسي يعبر عنهم من خارج أطر السلطة، أقصد اتحاد الكتاب العرب أو اتحاد الصحافيين.. وبقيت جهودهم فردية ومبعثرة. والسلطة كما غضت الطرف تلك الفترة تغض الطرف الآن أيضا، طالما أن المثقف خارج دوائر أي فعل تنظيمي مؤسس سياسيا. مع كل هذه العقود من السنين التي مرت، لازال الانشقاق سيد الموقف، ولازالت ما تمثله تلك الأسماء من ايديولوجيات، حاضرة بشكل أو بآخر، رغم تقدم الخطاب الديمقراطي، وتراجع الخطاب القومي واليساري. أما الحالة الليبرالية فلن نتحدث عنها لأنها لازالت حالة عابرة في الوسط المعارض.
‘ كاتب سوري
القدس العربي