ملامح “سيناريو يوم القيامة”!
|أنطوان شلحت|
في بداية شهر تشرين الأول 2010 أجازت الرقابة العسكرية الإسرائيلية نشر ثمانية محاضر من أرشيف الدولة تتضمن توثيقًا لجلسات المداولات التي عقدتها رئيسة الحكومة الإسرائيلية الأسبق غولدا مئير خلال الأيام الأربعة الأولى من “حرب يوم الغفران” (حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973). وتتيح هذه المحاضر، التي يحتوي هذا العدد من “أوراق إسرائيلية” على أول ترجمة عربية كاملة لها، إمكان القيام بإطلالة من مصدر أول على الجهوزية العسكرية والدبلوماسية للحكومة الإسرائيلية عشية قيام الجيشين المصري والسوري بشن هجماتهما، وتكشف النقاب من ضمن أشياء أخرى عن وجود “مصدر استخباراتي مصري رفيع المستوى” قام بنقل معلومات موثوق بها بشأن الهجمات المتوقعة، الأمر الذي حدا بالمؤسسة السياسية في إسرائيل إلى دراسة مسألة القيام بهجوم وقائي مسبق على كل من مصر وسورية.
وبموجب هذه المحاضر فإن وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت موشيه دايان اقترح القيام باستدعاء أشخاص إلى جيش الاحتياط على الرغم من اجتيازهم السن القانونية المحددة لهذه الخدمة العسكرية، ودعا إلى تجنيد شبان يهود من خارج إسرائيل، في حين اقترح الوزير يغئال ألون أن يخضع الفتية الإسرائيليون في أعمار 17- 18 عامًا إلى تدريبات عسكرية بحسب احتياجات الجيش، بحيث لا يكونون لدى بلوغهم سن التجنيد بحاجة إلى تدريب جدّي. وبما أن ذلك هو أمر سريّ وخطر، فإنه طلب إبقاء هذا الأمر طي الكتمان الشديد، ذلك “بأنه يجب أن نأخذ في الحسبان أن هذا تدريب مبكر لفتية أماليد” على حدّ قوله.
كما أن دايان اقترح القيام بشن هجمات شرسة على مواقع في عمق الأراضي السورية وخصوصًا في قلب العاصمة دمشق وحولها بصورة غير مسبوقة، حتى لو كلّف الأمر التعرّض لحياة السكان المدنيين وتعريض مدينة تل أبيب إلى هجمات مضادة، وذلك بهدف إخراج سورية من الحرب. وقد أكد رئيس هيئة الأركان العامة دافيد إلعازار أن وضع إسرائيل في الحرب سيكون أفضل إذا ما أصبح وضع السوريين صعبًا وأن مهاجمة دمشق ستكون حيوية لكسر شوكة سورية، أمّا غولدا مئير فإنها أبدت اهتمامًا كبيرًا باقتراح دايان بشكل يوحي بأنها كانت ميّالة إلى قبوله. من ناحية أخرى فإن هذه المحاضر تظهر كيف أن القيادة الإسرائيلية في ذلك الوقت علقت آمالاً كبيرة على قرب حلول فصل الشتاء، لاعتقادها بأنه سيساعدها قليلاً على مواجهة العمليات القتالية ولا سيما في الجبهة السورية.
في المقابل فإن هذه المحاضر تكشف عن أن القيادة الإسرائيلية كانت مستخفة إلى درجة كبيرة بالقدرة العسكرية الموجودة لدى الجيوش العربية، وتُبيّن أن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في ذلك الوقت إيلي زاعيـرا ظل حتى صبيحة يوم الغفران (أي قبل اندلاع الحرب ببضع ساعات) يتبنى تقديرًا فحواه أن الرئيس المصري السابق أنور السادات لن يتجرأ على شنّ حرب على إسرائيل، إلا إن رئيسة الحكومة قررت استدعاء مئتي ألف جندي من تشكيلات الاحتياط تحسبًا لاندلاع الحرب. وفي وقت لاحق قامت مئير مع قيادة المؤسسة الأمنية ببذل جهود هائلة للحصول على مساعدات عسكرية كبيرة من الولايات المتحدة تشمل أربعين طائرة مقاتلة من طراز فانتوم وأربعمئة دبابة. كما أن مئير درست إمكان عقد لقاء سري في غضون أربع وعشرين ساعة مع الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون من دون تبليغ الحكومة الإسرائيلية، وذلك بهدف إقناعه بتقديم مساعدات كبيرة إلى إسرائيل خلال الحرب، بحجة أنها “تخوضها ضد السوفييت” أعدائه الألداء.
أفكار تنميطية إزاء العرب!
تعتبر حرب تشرين من أخطر الحروب التي خاضتها إسرائيل، سواء من حيث وقائعها أو إسقاطاتها، ذلك بأنها حطمت أسطورة “الجيش الذي لا يٌقهر”، وجعلت المؤسستين السياسية والعسكرية في إسرائيل تواجهان واقع استحالة الركون إلى القوة العسكرية طوال الوقت، ولو أنهما لم تستخلصا العبر المطلوبة من هذا الواقع حتى الآن.
وبطبيعة الحال فإن التفصيلات التي تتضمنها هذه المحاضر مهمة للغاية، غير أن ما لا يقل أهمية عنها هو أنها تشف عن الأفكار التنميطية التي كانت معششة في رؤوس القادة الإسرائيليين في ذلك الوقت وانعكست ببريق أخّاذ في معظم أقوالهم وتقويماتهم. ويبقى في طليعة ذلك الفكرة المخاتلة التي تقول “إن اليهود منتصرون دائمًا” وإن “العرب لن يغيّروا عقليتهم المهزومة”، وقد انعكست على نحو سافر في “اعتراف” دايان الذي جاء فيه بالحرف ما يلي: “لم أقدر كفاية قوة العدو، ووزنه القتالي، وقد بالغت في تقدير قواتنا وقدرتها على الصمود. العرب يقاتلون بشكل أفضل كثيرًا من السابق”. وسرعان ما رسم دايان “سيناريو يوم القيامة” بقوله إن “العرب لن يوقفوا الحرب، إذا أوقفوها ووافقوا على وقف إطلاق نار، فإنهم قد يفتحون النار مجددًا، الحرب هي إذن على أرض إسرائيل. لقد وصلوا معنا إلى حرب على أرض إسرائيل. إذا انسحبنا من هضبة الجولان، فإن هذا لن يحلّ شيئًا”. وردّت مئير “هذه هي الجولة الثانية منذ 1948″، وأضافت “لا يوجد أي سبب يمنعهم من الاستمرار، وليس الآن فقط. لقد تذوقوا طعم الدم”، فأكد دايان “يريدون احتلال إسرائيل، والقضاء على اليهود”!
ووفقًا للمحاضر فإن دايان اعترف بأنه ارتكب أخطاء كثيرة في تقديراته، ويعتبر كل خطأ منها حرجًا للغاية، مثل قوله “كان لديّ شعور بأننا سنقضي عليهم في أثناء العبور. كان لدينا تقدير يستند إلى الحرب السابقة، ولم يكن هذا التقدير صحيحا. كان لدينا ولدى الآخرين تقدير غير سليم بشأن ما سيحدث في أثناء محاولة العبور”. كما أنه اقترح عدم إخلاء المصابين من صفوف الجيش الإسرائيلي في مناطق القتال التي لا يمكن الوصول إليها، قائلاً: في الأماكن التي يمكن إخلاؤها، سنخليها. في الأماكن التي لا يمكن إخلاؤها، نترك الجرحى. ومن يصل، يصل. إذا قرروا الاستسلام، فليستسلموا. يجب أن نقول لهم: “لا نستطيع الوصول إليكم. حاولوا اختراق الحصار أو استسلموا”!.
من ناحية أخرى فإن اقتراحاته لتدارك الوضع، وخصوصًا اقتراحه بالانسحاب إلى خط الممرات في سيناء، لم تثر انطباعًا إيجابيًا لدى رئيس هيئة الأركان العامة الذي وصفها بأنها أشبه بالتفكير الرغبي (wishful thinking) والذي لا يقدّم ولا يؤخـر.
بناء على ذلك كله فإن هذه المحاضر اعتبرت، في معظم القراءات الإسرائيلية التي تناولتها بالتحليل والاستحصال، على أنها وثيقة اتهام قاسية بحق المؤسستين السياسية والعسكرية، وخصوصًا بحق دايان الذي كان يُعدّ حتى تلك الحرب بمثابة أسطورة على المستوى العالمي.
وقال الصحافي إيتان هابر، الذي عمل مديرًا لمكتب رئيس الحكومة الأسبق إسحاق رابين، إن هذه المحاضر أظهرت دايان على أنه “خرقة حقيقية”. وأضاف هابر في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي إن ما نشر يهشّم كل صورة دايان في إسرائيل وأرجاء العالم، “فهذه المحاضر تهشم أسطورة رجل الأمن، وربما الإسرائيلي الأكثر شهرة في العالم، الشخص الذي لم يكن له مثيل لا في الماضي ولا الآن، وها هو ذا يتبدّى باعتباره خرقة حقيقية”.
وأكد المعلق السياسي في “معاريف” بن كسبيت أن “هذا النص مثير للقشعريرة، على الرغم من مرور سبعة وثلاثين عامًا عليه. ولا شك في أنه نص إلزامي لكل من يريد أن يحيا هنا، ولكل من يتطلع إلى احتلال موقع قيادي، ولكل من يظن أنه يعرف ما الذي ينبغي له أن يفعل، ولكل من يشارك في الجهد الدفاعي عن هذه الأرض. إن هذه المحاضر لجلسات الحكومة تذكرنا أكثر باجتماعات لزعماء أصيبوا بصدمة المعركة، وتعلمنا كم أن السقوط من ارتفاع شاهق صعب، وكم أن الاستخفاف بالغير فتاك ومصيري، وما هي بالضبط حدود القوة”.
وأضاف كسبيت أنه “لو أن مونولوجات دايان هذه نُشرت علنًا في السابق، لكان من الواجب طرده مجللاً بالعار من الحياة العامة. لكن بدلاً من ذلك فإن لجنة أغرانات (لجنة التحقيق التي تقصت وقائع حرب تشرين) جلست وطردت حارس الــبوابة، رئيس هيئة الأركان العامة دافيد إلعازار، الذي كان برأيي أحد كبار الأبطال في هذه الملــحمة التــوراتية (البطل الأكبر كان أريئيل شارون). ودايان كان تقريباً المسؤول الحصري. وهو يعتــرف بكل شيء، ولا يقدم تسهيلات لنفسه، حين يقول المرة تلو الأخرى: لم أقدر جيدًا، بالغت، أخــطأت، كان عندي إحساس، كنت واثقًا، تقديــراتي لم تكن صائبة… وهذه التعابير كلها هي نماذج جزئية لعملية جلد الــذات والندم قالها أمام رئيسة الحكومة، المسؤولة مثله، غولدا مئير”.
وكتب المعلق السياسي والعسكري عوفر شيلح (معاريف) أن أول ما يصدم في المحاضر هو مستوى النقاش، خلال “الساعات الحرجة من الحرب، التي يتعين فيها اتخاذ قرارات مصيرية بشأن أمور مهمة مثل الانتشار العسكري، إنقاذ الجنود المحاصرين، سلم الأولويات لتفعيل سلاح الجو والاحتياط، ووجهة الجهود السياسية”.
ويضيف أن الأمر الثاني الذي يصعق هو أن بعض الأقوال التي قيلت لم تكن قائمة على أساس الوقائع، بل على أساس ما يسميه رئيس هيئة الأركان إلعازار نفسه(wishful thinking) .
ويشير إلى أن الأمر الثالث هو إدراك كيف أن العقلية (المتكلسة) هي التي تقرر الوعي والقرارات، أكثر بكثير من أي معرفة كانت. فقد عرفت إسرائيل من مصادرها الخاصة أن الخطط الحربية المصرية تملي التقدم نحو خط محدود من نحو 10 إلى 15 كيلومترًا عن القنال. ولكن عقلية “العرب يريدون أن يراهنوا على كل بلاد إسرائيل”، والإيمان بأساطير مثل أن “الجيش الإسرائيلي سينقل الحرب إلى أرض العدو”، حتى عندما لا يكون لهذا أي أساس في الوضع العسكري الحقيقي، هي التي كانت تملي القرارات الحاسمة في نهاية المطاف.
ويذهب شيلح إلى السؤال: “ما الذي تغيّر حقا منذ تلك الحرب؟ إقرأوا محاضر حرب لبنان الثانية. إن الوضع مختلف بالطبع من أقصاه إلى أقصاه، هنا هجوم مفاجئ لجيوش نظامية في جبهتين، وهناك عملية اختطاف محلية لمنظمة عصابات؛ هنا رد مع كل القوة المتوفرة وهناك عملية مبادر إليها؛ لكن مع ذلك فقد بقيت على حالها نزعة التبجح الفارغة ذاتها، بدلاً من البحث الموضوعي، وكذلك بقيت عقلية (نحن نتعرض للهجوم) التي تملي فهم الواقع في خلاف تام مع ما يحدث حقيقة، وبقيت تلك المعرفة (بشأن ما يريده العرب) والتي ليس لها أي صلة بالعرب الذين هم حقًا موضع الحديث”.
وكتب الجنرال في الاحتياط وأستاذ التاريخ يعقوب حسداي (يسرائيل هيوم)، الذي كان أحد أعضاء لجنة أغرانات، أن دايان كان في ذلك اليوم الذي رسم فيه “سيناريو يوم القيامة” ـ وهو اليوم الأول للحرب ـ يشعر بالخطر والضياع، وهذه حقيقة. وبالمناسبة هناك ولد تعبير “البيت في خطر”. وينبغي أن نتذكر أن هذا أيضًا كان اليوم الذي ظن فيه جزء كبير من القيادة أن الجيش الإسرائيلي سيحدث التغيير ويقلب الأمور رأسًا على عقب. غير أنه أيضًا مُني بالفشل الهجوم الذي قاده شارون وأبراهام أدان. وحتى الأكثر تفاؤلا شعروا أن الوضع صعب جدًا.
وشدّد حسداي على أن “حرب يوم الغفران والمفاجأة التي أحدثتها كانتا بمنزلة حمّام بارد لمجتمع واثق من نفسه، ظن أن أحدًا لا يقدر عليه، وأن في وسعنا الوصول إلى حيث نريد من دون مقاومة. وفجأة تعرضنا للضرب. وعندما حدث ذلك، لم يكن أحد يتوقعه. لقد خلقت هذه الحرب إرباكًا، والأهم أنها خلقت انعدام ثقة لم نبرأ منه حتى يومنا هذا، فضلاً عن أنها أوجدت بالأساس شرخًا قياديًا لدى زعامة كانت محبوبة. ومنذ ذلك الحين فإننا فقدنا الثقة بالقيادة. ولم يكن أحد يتوقع ذلك”.
أمّا المعلق العسكري للموقع الإلكتروني التابع لصحيفة “يديعوت أحرونوت” رون بن يشاي فرأى أنه لأول وهلة فإن المحاضر المتعلقة بأيام حرب الغفران والتي كُشف عنها حتى الآن لا تضيف جديدًا كثيرًا، لكن على الرغم من ذلك، فإنه يجدر بكل رئيس حكومة، وكل وزير دفاع، وكل رئيس هيئة أركان عامة في الحاضر والمستقبل، أن يمعن النظر في هذه المحاضر، وأن يحاول أن يسأل نفسه كيف كان سيتصرف ويقرّر في ظل وضع شبيه. ويجدر بهم أن يفعلوا ذلك بسرعة وأن يستخلصوا العِبَر اللازمة، ذلك بأن المعضلات السياسية والعسكرية التي تخبط بها كل من غولدا مئير ودايان وإلعازار قبل سبعة وثلاثين عامًا، هي المعضلات ذاتها فعلاً، وإن مع بعض التغيرات الطفيفة، كما أن من شأنها أن ترتطم بوجه قادة الدولة في الوقت القريب، وربما في العام المقبل.
من جانبه أشار كبير المعلقين في صحيفة “يديعوت أحرونوت” ناحوم برنياع إلى أن المحاضر تدل “إلى أي مدى كانت إسرائيل متعلقة بالإدارة الأميركية… وكان هذا التعلق مطلقا بدءا من الحاجة المهووسة إلى الطائرات والدبابات وانتهاء بوقف إطلاق النار في مجلس الأمن، إذ إن إسرائيل أرادت وقف إطلاق النار لكنها ادعت أنها لا ترغب فيه كي لا يعرف العالم ولا العرب مدى خطورة الوضع”.
واستقت صحيفة “هآرتس” مما كشفته هذه المحاضر الإسرائيلية “درسًا” بإزاء الحاضر. وتحت العنوان “جرح قديم… درس حديث” وصفت في مقال افتتاحي خاص تلك الحرب بأنها كانت “تجربة عسيرة، بل ربما تكون الأكثر عسرًا في تاريخ إسرائيل كله”.
وبعدما أشارت إلى أن نشر المحاضر جاء “متأخرًا”، دعت الصحيفة إلى دراسة هذه الحرب، واستخلاص العبر منها، وأساسًا دعت إلى استخلاص العبر من “فقدان البصيرة، وعدم الاكتراث، والأخطاء في التقدير وفي الاستعداد” التي كانت سائدة إسرائيليًا قبيل 6 تشرين الأول 1973.
وحكمت الصحيفة على “مئير ودايان وإليعازر وشركائهم المنتخبين في القيادة والضباط على حد سواء”، بأنهم “ارتكبوا أخطاء مصيرية في فهم حدود قوة إسرائيل، وتكتيكات الأعداء المحتملة”، آخذةً على إسرائيل أنها “ارتاحت لإنجازاتها العسكرية” وخاصة “احتلالها (للأراضي العربية) منذ حزيران 1967″، مبدية “استخفافًا بالطرف الآخر. وعليه فإنها فاجأت نفسها سلبًا أكثر مما فاجأها هو” (أي الطرف الآخر).
وختمت مقالها الافتتاحي بدعوة حكومة بنيامين نتنياهو، التي تضم “وزراء عايشوا تجربة حرب يوم الغفران، ويجلسون اليوم مكان مئير ودايان وزملائهما”، إلى تحمل مسؤولية “تفضيل السلام، في إطار حلّ وسط، على الجمود المحمّل بمخاطر الحرب”.
وهذا ما أكده أيضًا إيتان هابر بقوله إن الدرس الأهم الذي يمكن استخلاصه من هذه الوثائق هو أن “الذين كانوا جالسين على مقاعد الحكومة في إبان حرب يوم الغفران، شأنهم شأن الجالسين على مقاعد الحكومة في الوقت الحالي، ليسوا آلهة بل إنهم بشر من لحم ودم ويمكن أن يرتكبوا أخطاء فادحة، لكن تبقى المشكلة كامنة في أن أخطاءهم هذه تترتب عليها حياتنا (وموتنا)”!
خبايا الصراعات بين الجنرالات
لا بُدّ من الإشارة إلى أن هذه المحاضر لا تكشف سوى النزر اليسير بشأن خبايا الصراعات بين جنرالات الجيش الإسرائيلي التي اندلعت في أثناء تلك الحرب.
ومن المعروف أنه بعد انتهاء الحرب شكّلت الحكومة الإسرائيلية لجنة تحقيق رسمية حول مجرياتها هي “لجنة أغرانات”. وعلى الرغم من أن بعض أجزاء تقرير اللجنة ما زال سريا، إلا إن استنتاجاتها تعرّضت بالنقد الشديد لدافيد إلعازار، الذي اضطر إلى الاستقالة من رئاسة هيئة الأركان العامة، وبعده بفترة قصيرة استقالت أيضًا غولدا مئير من رئاسة الحكومة.
كذلك فإنه منذ أن وضعت تلك الحرب أوزارها، بادرت دائرة التاريخ في الجيش الإسرائيلي إلى تكليف ثلاثة مؤرخين بكتابة تاريخ الحرب، لكن لأسباب عديدة أبرزها الرقابة العسكرية وضغوط مارستها شخصيات رفيعة المستوى فإنه تم حتى الآن منع نشر هذه الأبحاث التاريخية، التي كان من المفترض أن تصدر في ثلاثة كتب.
وقد أعدّ البحث الأول الدكتور إلحنان أورن، وكان حجمه أربعمئة صفحة، إضافة إلى ثلاثمئة صفحة من الملاحق، وتناول الحرب كلها. وتم الانتهاء من كتابة مسودة البحث في نهاية السبعينيات من القرن الفائت، واستكمل العمل فيه بصورة نهائية في العام 1990، لكن تم التحفظ عليه بضغط من أريئيل شارون.
وتناول البحث الثاني، الذي جاء في 1200 صفحة، أداء القيادة العليا للجيش الإسرائيلي، وأعده الرائد الدكتور شمعون غولان. وتم استكماله في العام 1990 وجرى إدخال تعديلات نهائية عليه في العام 2000. لكن جرى التحفظ عليه بأمر من رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، نتيجة ضغوط مارسها شارون وأشخاص آخرون. والادعاء الأساس لدائرة التاريخ أن منع نشر هذا البحث نابع من كونه سريا. وقد أشير إلى أن هذا البحث كان سريا للغاية إلى درجة أنه تم منع ضباط برتبة جنرال، كانوا أعضاء في هيئة الأركان العامة، من الإطلاع عليه إلا بعد الحصول على إذن شخصي من وزير الدفاع.
أمّا البحث الثالث فإنه يعتبر، وفقا لشهادات مؤرخين مهنيين إسرائيليين اطلعوا على هذه الأبحاث كلها، الأهم والأشمل والأعمق. وقد أجرى هذا البحث الذي لا يزال سريا المؤرخ العسكري الدكتور عميرام أزوف. وسبق لمحلل الشؤون الإستراتيجية والاستخباراتية في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، رونين برغمان، أن تناول في خريف 2009 بحث أزوف مشيرًا إلى أنه تركز في عملية عبور القوات الإسرائيلية قنال السويس، وهي العملية العسكرية التي أطلق عليها الجيش اسم “عملية البواسل”، وتحددت غايتها في القيام بمبادرة إستراتيجية لفرض وقف إطلاق النار. وتعتبر هذه العملية العسكرية إحدى أصعب المعارك وأكثرها تعقيدا ودموية من بين المعارك، التي خاضها الجيش الإسرائيلي في تاريخه. ووفقا لبرغمان فإن البحث كشف أن سلاح الهندسة، مثلما هي حال الجيش الإسرائيلي كله، كان في حالة انتشار خاطئة. وكتيبة “التماسيح” مع الجسور التي كان يفترض أن تمر عليها القوات الإسرائيلية لعبور القنال كانت موجودة في بحيرة طبرية، عندما تقرر تنفيذ عملية العبور. كذلك فإن “جسر العجلات” كان في طور البناء وفي منطقة تبعد ثلاثين كيلومترا عن الجبهة وغير ذلك من الإخفاقات. وكتب برغمان “بكلمات أخرى، فإنه حتى لو انتعش الجيش الإسرائيلي بسرعة أكبر من صدمة المفاجأة، ما كان في استطاعته تنفيذ عملية العبور الواسعة قبل 13 تشرين الأول”. وجاء في بحث أزوف أن “جميع الخطط الدفاعية (الإسرائيلية) في سيناء اعتمدت على الانتقال السريع إلى هجوم استباقي وعبور القنال. لكن بقيت حلقة مهمة ناقصة، وهي الدفاع، إذ لم يأخذ أحد بالحسبان إمكان أن ينجح المصريون في وضع رأس جسر في الجانب الإسرائيلي (أي في الضفة الشرقية للقنال). كذلك فإن الأمر العسكري بشأن عملية البواسل كان يعاني من التفاؤل الزائد وأملى جدولا زمنيا غير واقعي. فمرحلته الثانية، مثلا، والتي كان ينبغي تنفيذها خلال عشر ساعات من صدور الأمر العسكري، كانت تقضي بـ ’احتلال رأس الجسر (الذي يفترض مدّه نحو ضفة القنال الغربية) وحراسته ومد جسور أخرى وعبور القوات لحراسة مواقع وأن يتم خلال ذلك القضاء على (قوات) العدو والتقدم غربا وجنوبا’. غير أن التوقعات باحتلال قنال السويس خلال ثماني وأربعين ساعة كانت ضربا من الهذيان”.
وأضاف أزوف في بحثه موجها انتقادات شديدة إلى شارون أن “خطة قائد الفرقة 143، الجنرال أريئيل شارون، تضمنت أجوبة عن مسائل ناجمة عن الوضع في ميدان المعركة والأهداف التي كُلفت فرقته بتنفيذها. وقد حظيت الخطة بالمديح. ورئيس هيئة الأركان العامة صادق عليها وآمن بها ووقع عليها. لكن حتى عندما تم استعراضها فإن نفختها الكاذبة فيما يتعلق باحتمالات تنفيذها وجدولها الزمني لم تكن بخافية عن أعين القادة العسكريين. وقد اتضح حقا أنها قصة خيالية”. ونجم عن ذلك أن الفرقة التي قادها شارون، واللواء الذي كان يفترض أن ينفذ عملية عبور القنال، رزحا تحت وطأة أعباء ثقيلة للغاية من المهمات المتناقضة، ولم يتمكنا من تنفيذها. ويشدد أزوف على أنه “بفضل شجاعة المحاربين”، لا بفضل خطط شارون، تمكنت القوات الإسرائيلية من الوصول إلى الضفة الغربية للقنال بتأخير ثماني وأربعين ساعة. وقد اصطدم شارون حينها مع الجنرال حاييم بارليف، الذي كان رئيسا لهيئة الأركان العامة، وتم تجنيده للحرب كقائد للجبهة الجنوبية بعد أن أصبح وزيرا في الحكومة. وعبر بارليف، خلال اجتماعه مع شارون في الجبهة، عن “عدم ارتياحه من الفجوة بين التعهدات والتنفيذ” من جانب شارون.
كذلك فإن بحث أزوف يقتبس من أقوال أدلى بها بارليف خلال اجتماع عقد غداة ذلك اليوم، وتحدث فيها عن فشل القوات الإسرائيلية في تنفيذ مهمة عبور القنال، وقال: “لم ننجح في وضع رأس الجسر بشكل مستقر. وكلا المسارين تحت سيطرة المصريين. وتم تشويش عمل قوات الفرقة 143 بشكل كبير للغاية. ولم يتم وضع أي جسر على الماء… إن ما هو موجود أمام المصريين عند الضفة الغربية ليس بالأمر الجاد ويشكل خطرا علينا”.
ويبدو أن شارون، الذي خشي من تهشم صورته “البطولية” في إسرائيل، هو أحد أسباب منع نشر بحث أزوف، والبحثين السابقين. لكن يبدو أن هناك أسبابًا أخرى بينها الصراعات الشخصية بين المؤرخين. فقد انتقد رئيس دائرة التاريخ في الجيش الإسرائيلي، البروفسور ألون كاديش، بحث أزوف وأشار خصوصا إلى أنه لم يراع المعايير الأكاديمية. بيد أن عميد جامعة حيفا، البروفسور يوسي بن أرتسي، الذي قرأ البحث السري كونه عضوا في اللجنة الأكاديمية لدائرة التاريخ، أكد في مذكرة داخلية أن “بحث الدكتور أزوف هو أحد أهم الدراسات التي كتبت عن التاريخ العسكري لإسرائيل”… ووصفه بأنه “دراسة ضخمة للغاية بحسب مفاهيم البحث التاريخي” كما أنه “يتميز بمعايير البحث الرفيع كافة”.
إزاء هذا، ليس من المبالغة التقدير بأن ملف حرب تشرين سيظل مرشحًا لأن يوفر مزيدًا من المعلومات والمفاجآت العسكرية والسياسية التي من شأنها أن تسلط الضوء على ما حدث في تلك الحرب، وأن تشكل أيضًا متكأ يُسعف كثيرًا في تفسير ما يحدث في الزمن الراهن.
نصّ تقديم العدد 53 من سلسلة “أوراق إسرائيلية”، والذي صدر في كانون الأول الفائت عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، وعنوانه: سيناريو “يوم القيامة”- محاضر الحكومة الإسرائيلية عن حرب تشرين 1973