صرخة الهوية: في إشكالية الأكثرية والأقلية
محمد صابر عبيد
لماذا علينا يا ترى أن نبحث في كل مكان وزمان عن هوية ما؟ أية هوية. كأن الإنسان لا يمكنه العيش بلا هوية تنير دربه، وتريه تفاصيل وجهه ووضوح ملامحه وصفاء دمه، وتعزز وجوده المادي في الحياة. ثمة نكهة خاصة وحساسية خاصة وهواء خاص ولذّة خاصة في هذه الهوية المنشودة التي نبحث عنها دائماً، ومن دونها نشعر أبداً بالعجز والضياع والتيه والغربة وفقدان الترابط والتماسك والوضوح، وكأن نقصاً حقيقياً مروّعاً ينغصّ علينا حياتنا، ويقلّل أهميتنا، ويضعنا فوراً في مهبّ ريح رعناء وعمياء لا تلبث أن تقتلعنا من جذورنا بسهولة.
ما ضرورة الهوية المحلوم بها في عالم غامض ومعقّد يتقدّم بخطى لاهثة مجنونة نحو هوية المادّة التي لا هوية قبلها ولا هوية بعدها، حيث الاقتصاد الأرعن يتسيّد العالم ويتحكّم به وبمصيره ويحكم مسيرته بقبضة من حديد وصلب ونقود في كلّ مكان؟ ما ضرورة الهوية وهي عنصر معنوي وهلامي غير مادّي وغير ملموس ولا يباع ولا يشترى؟ ما ضرورة الهوية وهي لا تغني من جوع، ولا تمنع من خوف، ولا توفّر دواءً، ولا تصلح جهازاً كهربائياً عاطلاً في المنزل؟
هوية الأكثرية وهوية الأقلية نسقان متوازيان لا يلتقيان، ويمضيان في سبيلهما إلى ما لا نهاية، هوية الأكثرية هي الغالبة وهوية الأقلية هي المغلوبة. ربما هذه هي شرعة الحياة في أصل منطقها وحقيقة وجودها وتكوينها، تلك التي أخذت أشكالاً متعددة ومتنوعة منذ الإنسان البدائي وحتى الإنسان “الشابكي”، هوية الأكثرية هوية ضاغطة قاهرة متسلّطة، وهوية الأقلية هوية مضغوطة مقهورة مغلوبة على أمرها، مهما ادّعت هوية الأكثرية كذبة التسامح والديموقراطية والأحقية المتساوية للجميع في هوية مشتركة، ومهما أذعنت هوية الأقلية واستسلمت للأمر الواقع – نفاقاً ومداراة وتزلفاً -، إذ إن هوية الأكثرية لا ترغب ولا تسمح بتغيير واقع الحال مثلما إن هوية الأقلية تقتنص كل فرصة مواتية للانقضاض على هوية الأكثرية وتدميرها والبطش بسلطتها.
صوتان مضادّان
إن هذه الإشكالية المجحفة تصنع على الدوام صوتين متضادين، الصوت الأعلى المهيمن والسلطوي الطاغي، والصوت الأوطأ المستكين والباطني والمشحون بالكره والنقمة والحقد، ولا يوجد للأسف صوت يتوسط بين الصوتين يمكنه أن يشكّل منطقة حرّة بينهما، يكون في وسعه بمرور الزمن التقريب بين إيقاع الصوتين، وإيجاد نغمة مشتركة يلتقيان فيها، على أمل حوار مُجدٍ يقلل الفوارق ويزاوج بين الممكنات وينشئ قاعدة تواصل نظيفة وصافية وموضوعية، تمحو ما تيسّر لها من جنون التسلّط عند الأكثرية، وتفرّغ ما تيسّر لها أيضاً من بركان الحقد الذي يغلي في مرجل الأقلية بلا هوادة.
هوية الأكثرية هي هوية المطابقة والتطابق مع الذات، وهوية الأقلية هي هوية الاختلاف والتجاذب مع الذات، هوية المطابقة لا تسمح بالاختلاف وتمنع مجرد التفكير به، وهوية الاختلاف تجاري المطابقة وتجاملها ظاهراً، وتخزن نقمة عليها باطناً، ويظل الصراع الجواني العميق بين الهويتين قائماً وفعالاً ومضاعفاً باستمرار، يشعر به الجميع ويتناساه الجميع في الوقت نفسه، ولكلّ أسبابه المختلفة عن الآخر .
المحنة المركزية التي تضطهد هوية الأقلية وتمنح هوية الأقلية فعل السيطرة والهيمنة والإكراه الدائم، هي محنة اللغة. فلغة الأكثرية لغة لازمة ولغة الأقلية لغة مطاردة، لغة الأكثرية لغة متحركة ولغة الأقلية لغة ساكنة. ففي المجتمع العراقي مثلاً، المؤلّف من أكثرية عربية وأقلية كردية وتركمانية وكلدو أشورية وغيرها، كانت اللغة العربية ولا تزال طبعاً، هي اللغة السائدة على مدى سنوات طويلة مضت، وكل أبناء الأقليات لا بدّ لهم من إتقان العربية كي يتمكنوا من العيش، وكانت لغاتهم لغات منزلية لا يمكن استخدامها في الحياة العامة، قبل أن تصبح اللغة الكردية الآن – بعد ما حصل في العراق من تغييرات جوهرية بعد 2003 في بنية التشكيل الهرمي لإشكالية الأقلية والأكثرية – لغة شبه مركزية، أحسسنا الآن نحن العرب للمرة الأولى بالحاجة إلى تعلّمها. إذ كنت بعد هذه التغييرات في زيارة لمدينة دهوك، صغرى مدن كردستان، وسألت صبياً كردياً عن منطقة معينة في المدينة فأجابني بالكردية أنه لا يجيد العربية. وحين أخبرته أنني أدرك تماماً أنه يعرف العربية وقلت له أنت تعرف العربية فلماذا لا تجيبني، قال بثقة وتحدٍّ: ولماذا لا تتعلّم أنت الكردية؟
على الرغم من أن إجابة الصبي الكردي أقرب إلى العفوية والنقمة التي تشتغل على سطح الهوية، إلا أنها تعبّر عن صرخة هذه الهوية التي عرفت الآن طعم الحرية، وأصبح في إمكانها أن تعبّر عن ذاتها في أرضها ومجتمعها الذي كانت تتسيّده العربية في أدقّ مفاصله. وحين تأملت المشهد جيداً، شعرت فعلاً بالحاجة الماسّة لتعلّم هذه اللغة التي كان في متناولي تعلمها طوال سنوات كثيرة مرّت من دون أن ألتفت إلى هذه الحاجة مطلقاً، ولم تكن إجابة الصبي الكردي سوى درس عميق في صلب هذه القضية.
لا يمكن طبعاً وصف هوية الأكثرية كلها بالطغيان، إذ في وسعنا أن نقسّم القهر الذي تسلّطه على هوية الأقلية قسمين، الأول القهر المقصود الذي تمارسه طبقات معينة ذات طبيعة إيديولوجية مستفيدة فائدة مادية ومعنوية من هذه الهوية، حيث استقرّ نمط حياتها على الاستمرار في إدامة هذا القهر وتغذيته وتموينه بكل ما هو ممكن من أساليب المحو والإلغاء والتهميش، من أجل أن تبقى المكاسب التي تحصدها لقيةً ثمينةً لا يمكن التفريط بها أو التجاوز عليها أو حتى مناقشتها على أيّ مستوى من المستويات، والثاني القهر غير المقصود الذي تمارسه الطبقات الأقل أهمية في دائرة الأكثرية، إذ هي غير مستفيدة كثيراً من فداحة هذه الطبقية لكنّ السياق يرغمها على ممارسة قهر غير مقصود على هوية الأقلية بالرغم من تعاطفها معها ورغبتها في الانتصار لها.
إن اللعبة التي تشترك فيها الهويتان معاً هي لعبة السلطة -بكلّ ما تنطوي عليه هذه اللعبة من حيثيات وموضوعات وقيم وفضاءات وحساسيات -، وتقتسمانها على نحو عادل تماماً. فهوية الأكثرية هي الرأس وهوية الأقلية هي القدمان، هوية الأكثرية هي السماء وهوية الأقلية هي الأرض، هوية الأكثرية هي الأول وهوية الأقلية هي الآخر، ولا بدّ في النهاية من حاكم ومحكوم بحسب الأطروحة الثقافية التي تُعامَل بتقديس هائل لا يمكن الإخلال بقدسيته من لدن شعوب هذه الإشكالية.
تذكّرني هذه اللعبة القاسية الأليمة بنكتة إيديولوجية بسيطة في عمقها وعميقة في بساطتها، تروى عن مجموعة مجانين احتلوا جزيرة، فأول مجنون وطئ أرض الجزيرة قال أنا فخامة الرئيس، وثاني مجنون احتل منصب رئيس الوزراء، وتتابع المجانين في التقاط الحقائب الوزارية واستيزارها حتى انتهى الأمر إلى آخر مجنون ذي حظّ عاثر راح يفتش “بجنون” (!؟) عن حقيبة وزارية شاغرة فلم يجد، عندها صرخ بسؤال منطقي موجّه الى الحكومة الموقّرة وقد أخذ كل مسؤول فيها موقعه بجدارة: وأنا ماذا عساي أن أفعل بلا حقيبة وزارية؟ ردّ عليه الجميع بروح عالية من تسلّط الأكثرية وجبروتها: هل يعقل أن تعيش حكومة بلا شعب؟ إذاً، أنت الشعب.
ثنائية المركز والهامش
تأخذ إشكالية هوية الأكثرية وهوية الأقلية فلسفتها القهرية من ثنائية المركز والهامش ذات الطابع السوسيو- إيديولوجي، فثمة مركز دائماً يحظى بكلّ شيء يدور حوله الهامش الذي يعيش على الفتات والبقايا والأسمال، وأطروحة المركز والهامش أطروحة فلسفية في الأساس اشتغل عليها العقل الغربي ولا يزال بالرغم من أن ديريدا فكّك هذه الثنائية ونقدها بآليات منهج التفكيك في كتابه الشهير “الكتابة والاختلاف”، غير أن استنساخ هذه الأطروحة في المجتمعات العربية جرى على أوسع حجم ممكن منذ زمن بعيد، اجتهدت فيه الأكثرية على تكريس هذه الرؤية القاهرة لكبح جماح الأقلية من جهة، وللاستمتاع من جهة أخرى بمكاسبها ومتعها ولذائذها إلى أقصى درجة ممكنة ومتاحة وبلا حدود .
هوية الأكثرية بمرور الزمن وتتالي التجارب، تؤسس مجموعة مركزية من التقاليد الضاغطة والحاجبة والعازلة، تعمل على تعزيز هيمنتها وفرض سلطتها بقسوة على هوية الأقلية، وغالباً ما تستخدم اللغة العربية في معظم المجتمعات العربية سلاحاً فعّالاً في تركيز هذه السلطة في منطقة اللسان، للتقليل من أهمية غير العرب في ميدان قيادة دفّة المجتمع وصنع مستقبله، وذلك من خلال التأكيد أن اللغة العربية هي هوية الأكثرية في المجتمعات العربية ولا يمكن غير العربي التمكّن منها، بل الكتابة والإبداع فيها، على النحو الذي أصبحت فيه اللغة العربية هدفاً لحقد الأقلية وميداناً حياً ورحباً ومناسباً للحرب الباردة بين صوت الأقلية وصوت الأكثرية.
لعلّ من أبرز ردود فعل الأقلية على الأكثرية في ما يتعلق بممارسة الأشكال الإبداعية لمبدعي الأقلية، هو التشبث الصميمي بالأشكال الإبداعية الثانوية، بوصفها وسيلة خلاص وهوية هامشية مميّزة، بعيداً من الأشكال المركزية التي تدين بالولاء الكامل لهوية الأكثرية، وسعي المبدعين المنتمين إلى فئة الأقلية إلى تشكيل ثقافتهم وإبداعهم ورؤيتهم التي تسمح على نحو ما بتأكيد هويتهم، والاجتهاد في خلق طرافة نوعية خاصة في هذه الأشكال الإبداعية الثانوية التي يمكن أن تلفت الانتباه إلى أنها ثورة ثقافية داخلية عميقة على أشكال الأكثرية الإبداعية، من خلال إيجاد بديل مختلف من صوت الأكثرية وإيقاعها ورؤيتها وحساسيتها ونظامها الفني والجمالي المستقرّ، إذ إن جماليات التعبير في الأشكال الإبداعية الثانوية (أشكال الأقلية) تخترق النظام ولا تبحث عن استقرار أو هدوء أو مطابقة أو مثال، بل على العكس تماماً فهي تسدد لكل هذه المفاهيم سهاماً نارية مسمومة تستهدف إصابة مقتل فيها، وداخل هذا الفضاء القلق بالذات تنتعش هويتها المتفردة.
آداب الأقلية وفنونها
فعلى هذا الأساس يمكن القول إن هناك شعر الأقلية وسرد الأقلية وتشكيل الأقلية وسينما الأقلية وغيرها، وهي في حاجة إلى فحص نقدي ثقافي عميق ورصين ومسؤول يكشف عن طبيعة هذه الأنواع الإبداعية ويضعها في مسارها الصحيح، ويؤكّد انتماءها على نحو يكتسب فيه كلّ نوع شخصيته وهويته في سياق الأنواع الإبداعية السائدة، وبذلك يتمّ الكشف عن حالة إبداعية تعكس وضعاً ثقافياً ورؤيوياً وإيديولوجياً له حضوره القار، ولا سبيل إلى تجاوزه أو إهماله أو التقليل من شأنه مهما كانت الظروف والأسباب .
عمل مثقفو الأقلية وأدباؤها على التصدي للغة الأكثرية من داخلها والسعي إلى اختراقها عبر التمكّن الكبير منها، ومن ثم الانقلاب عليها وتفكيك هيمنتها. فشاعرٌ مهم مثل سركون بولص، أحد شعراء الأقلية الكلدوآشورية في العراق (من جماعة كركوك الأدبية الشهيرة) كتب شعره بالعربية (لغة الأكثرية)، لكنه اتجه إلى كتابة قصيدة النثر في وقت مبكّر، على الرغم من أنه يتقن علم العروض العربي، وفي وسعه الكتابة على أصول الشعرية العربية المعروفة، سواءً على الشكل التقليدي أم شعر التفعيلة، لكنه آثر قصيدة النثر لأنها نموذج الأقلية، وكان على الصعيد الإيقاعي يكتب في بعض قصائده مقاطع شعرية على بحور الخليل لكنه يسعى إلى إعدامها إيقاعياً، على النحو الذي يظهر لك هذا المقطع عند قراءته كأنه خالٍ من أي وزن شعري مع أنه مكتوب على بحر شعري عربي أصيل، ومن ثم في القصيدة نفسها يكتب مقطعاً بلا وزن ولا قافية (قصيدة نثر)، ويحشده بالإيقاع، بحيث تشعر عند قراءته كأنه مكتوب على أحد بحور الشعر العربي لبروز غنائية واضحة وظاهرة فيه، في محاولة لتأكيد نزع خصوصية الأكثرية في الانتماء إلى قصيدة عربية مكتوبة على بحور الخليل منذ أكثر من أربعة عشر عقداً من الزمن، وهو نوع من إعلاء صوت الأقلية على صوت الأكثرية بطريقة فنية لا تلفت الانتباه كثيراً.
من الأساليب الأخرى في هذا السياق العمل على توسيع هامش العاميات والتركيز عليها بديلاً من الفصحى في المدوّن الكتابي، إذ سعى بعض مثقفي الأقلية في العراق إلى محاولة ترجمة بعض مسرحيات شكسبير إلى العامية العراقية، وأذكر أن أحد أصدقائي من هؤلاء مثلاً حدّثني أن جبرا إبراهيم جبرا كان من المشجعين على هذا التوجّه أحساساً منه بهذه المحنة، وهي محاولة أخرى لتنحية سلاح مهم من الأسلحة التي تستخدمها هوية الأكثرية ضد هوية الأقلية، عبر التركيز على فصاحة اللغة العربية لأنها هي هوية الأمة وعنوان تقدمها وتطورها وأصالتها.
الوطن بوصفه مفهوماً ذهنياً
الوطن بوصفه مفهوماً ذهنياً هنا يرتبط عادةً باللغة، فمن لا لغة له لا وطن له، ولغة الأكثرية هي وطنها ـ بكل ما ينطوي عليه المعنى من مركزية واستحواذ ـ ولا وطن آخر لغيرها في المكان ذاته. لذا فإن أزمة البحث عن وطن بديل يمثل واحداً من أهم هموم الأقلية وأصعبها وأخطرها، ولعلّ التاريخ العربي يشهد على هذه الأزمة الحقيقية حين ذهب الكثير من أدباء الأقليات ومثقفيها إلى التفقّه في اللغة العربية وعلومها وفنونها حتى تفوّقوا على أهلها، في سعي حثيث ومحموم لتجاوز هذه الأزمة وتفتيتها وتأكيد أحقية جودة اللسان والبيان في وطن اللغة لبناء اللغة ولغيرهم، إذ إن ممارسة اللغة على هذا النحو البارع والمتفوّق أعاد الاعتبار الى الأقليات في عصور كثيرة في التاريخ العربي، وحصد أدباء الأقليات ومثقفوها مواقع ومناصب سيادية استثنائية عوضّت نقص الهوية، لكنهم كانوا يتحينون أي فرصة ممكنة للتعبير عن هويتهم المقموعة الساقطة في اللاشعور حتى وهم يتسيّدون مناصب ومواقع عليا داخل بيت الأكثرية.
إن العودة إلى شعراء العصر العباسي غير العرب وقراءة سيرهم وأشعارهم قراءة ثقافية فاحصة، ذات صلة بهذه الرؤية، ورصد إشكالية هوية الأقلية في طرائق تفكيرهم ورؤيتهم في الحياة والأشياء وموقفهم من العالم، يكشف على نحو عميق وأصيل فاعلية سعيهم الجارف إلى تفتيت القيم الاعتبارية الكبرى في مجتمع الأكثرية وثقافتها وتشجيع الخروج والتمرّد عليها، وقد نجح بعضهم في تفكيك صلادة البنية التقليدية التي تعود لملكية الأكثرية، وفرض نموذج التمرّد والثورة وكسر شوكة الهيمنة والتسلّط عبر وسائل كثيرة بعضها مباشر وبعضها الآخر غير مباشر، حتى أضحى لهم حضور وتشكيل وبصمة ومنهج وفضاء ورؤية تحسب لهم في غفلة من صوت الأكثرية القاهر الذي لا يسمح – حين يعي – بأيّ خرق في أركان منزله المحصّن مهما يكن بسيطاً.
أما على الصعيد المهني الاجتماعي فإن هوية الأقلية تتمثل في انتخاب مستويين متناقضين من المهن التي يمتهنها أصحاب هذه الهوية، تمثّلَ المستوى الأول في اختيار المهن المفصلية العليا ذات الطابع الاقتصادي المميّز، فمعظم صاغة الذهب والمشتغلين في حقل تجارته مثلاً هم من الأقلية، وعلى العكس من ذلك اتجه القسم الآخر منهم إلى المهن الحقيرة الدنيا، وكأنهم شاؤوا من خلال اشتغالهم في منطقتين متناقضتين تأسيس حضور مهم في أقصى منطقة الثراء، وتحقيق حضور آخر في أقصى منطقة الفقر، لتكريس وجود ما يحيط بالمجتمع من أقصاه إلى أقصاه، هم فعلاً في أمس الحاجة إليه.
عن الحس الفاجع
لا شكّ في أن تحليل هذه الثنائية تحليلاً ثقافياً وفكرياً وفلسفياً عميقاً عبر قراءة هذه الظواهر كلها على هذا النحو، سيكشف عن نتيجة قاسية تنتهي إلى أنّ حسّ الأقلية حسّ فاجع ومدمّر، وأن كل القوانين والدساتير لم تنتبه بما فيه الكفاية إلى الجانب المسكوت عنه في هذه الإشكالية المريرة التي عاشتها الأقليات ولا تزال تعيشها بمرارة كبيرة، ولا سبيل في ما يبدو إلى معالجتها على نحو أكيد وموضوعي منصف.
إن استقراءً دقيقاً وعلمياً محايداً يمكن أن يكشف عن حقيقة كارثية هي أنه لا وجود لأكثرية ديموقراطية في أكثر المجتمعات تحضراً وعبر العصور كلها، إذ إن الأكثرية تسعى بوعي منها وحتى بلا وعي إلى تكريس نموذجها على حساب الأقلية دائماً، فهي محكّ هيمنتها وتسلّطها وجبروتها. إنّ هوية الأقلية على هذا الأساس ضرورية لهوية الأكثرية، إذ من دونها تظل هوية الأكثرية بلا حدود وبلا معنى تقريباً. وبحسب نظرية التحدي والاستجابة التاريخية فإن وجود صوت الأقلية الواطئ والراضخ، هو الذي يكشف عن علو صوت الأكثرية وتسلّطه.
لذا فإن الأكثرية تحقق وجودها بديكتاتورية الهيمنة والتسلّط والصوت العالي، إذ هي تنظر إلى صوت الأقلية بوصفه ميدان اختبار حيّاً لقوة هذه الديكتاتورية وفاعليتها في التسلّط والهيمنة وفرض النموذج، وتتعامل معه تجريبياً بوصفه مختبراً لكشف كفاءة صوتها وصلاحيته وحجم إنجازه، وهي تعيد النظر في صوتها على أساس طبيعة الاستجابة التي تحظى بها في هذا السياق.
إنّ ثقافة الأكثرية على هذا الأساس هي ثقافة سلطوية وأبوية بطريركية عليا لا تهبط إلى الأسفل مطلقاً، لا يمكنها التخلي عن تراثها ومنجزاتها حتى وإن برز فيها أفراد متحررون ديموقراطيون راغبون في التغيير، لأن هذا التراث اكتسب درجة التقديس والصيرورة التاريخية والاجتماعية والفلسفية، وراح أفراد ثقافة الأكثرية المترفون ينعمون بمكتسبات كبيرة جداً في الحياة ليس من السهل التنازل عنها أو التقليل من منجزها، مهما شعر الديموقراطيون من أفرادها بظلمهم للآخر.
المجتمعات العربية الحيّة على مرّ عصورها هي مجتمعات أكثرية وأقلية، ولم تخرج في كل عصورها خارج هذه المعادلة الصعبة العصيّة على الحلّ. وعلى هذا فهي متّهمة دائماً بسياسة التمييز بين الأكثرية والأقلية، مثلما أن العرب أنفسهم في المجتمعات الغربية حيث هم يلعبون دور الأقلية يعانون من المأساة نفسها، ويشربون من الكأس نفسها، وقد حشرتهم الأكثرية في هامش مظلم.
يمكن النظر إلى مصطلح المحاصصة الطائفية والتقسيم الفئوي للمناصب في العراق ولبنان وفي بلدان عربية أخرى مثلاً، بوصفه حلاً ديموقراطياً شكلياً لإعادة الاعتبار الى الأقلية، لكنه في سياق آخر هو تكريس لها وتثبيت لدعائمها ونشر ثقافتها والتقليل من خطورتها على النحو الذي يخدم الأكثرية أيضاً.
إن وعي هذه الإشكالية وعياً ثقافياً صحيحاً يمكنه أن يصل إلى حقيقة مخيفة إنسانياً، تتمثّل في صعوبة تحقق ديموقراطية المؤسسات والمجتمع المدني، مقابل هيمنة السلطة الرعوية على المجتمع الناقص المدنية دائماً، في ظلّ معادلة ناقصة وشائكة وظالمة لا يمكن فكّ شفرتها بسهولة.
المعادلة تضع الرعاة من الأكثرية في طرف والرعية من الأقلية في طرف آخر، كل الحقوق للأكثرية ولا حقوق للأقلية، لصوت الأكثرية الفضاء كله ولصوت الأقلية الهوامش والظلال الميتة والزوايا المهملة، التي تضمن للأكثرية مساحة ملائمة تبتعد فيها الأقلية عن مركز القرار ومنطقة الثروة .
إلى متى يا ترى تبقى صرخة الهوية ملوثة بالدم ومشحونة بالقهر تلطّخ وجه السماء العربية بالعار والفجيعة والظلم؟ ¶
النهار