إدوارد سعيد
سعد محيو
ليس هناك كتاب شرقي في العصور الحديثة هزّ الغرب كما مؤلف إدوارد سعيد “الاستشراق”. نقول العصور الحديثة، لأن الشرق سبق له أن كان النور الذي أشرق على الغرب حين كان هذا الأخير غاطساً في لجج القرون القروسطية المظلمة، فقدم له التراث الهيليني على طبق إبن رشد الفضّي، وعلمه طب ابن سينا (الذي بقي مرجعه العلمي طيلة قرون عدة) وثقفه بفلسفة الفارابي، وعقلانية المعتزلة، وكشوفات جلال الدين الرومي وابن عربي وباقي عباقرة التّصوف الإسلامي.
“الاستشراق” لإدوارد سعيد، الذي احتفى العالم قبل أيام بالذكرى الثلاثين لصدوره العام ،1981 سار في منحى معاكس: بدل تعليم الغرب، عمل أنّبه وعنّفه بسبب تعصبه ومركزية ذاته وامبرياليته، وأيضاً بسبب لا علميته ولا موضوعيته. وهذا ما أثار عليه عاصفة غربية لما تهدأ بعد من الحنق والغضب والإدانة. عاصفة تتجلى في عشرات الكتاب والدراسات التي صدرت مؤخراً، والتي ينحو معظمها إلى محاولة تشويه القيمة العلمية ل”الاستشراق”.
لماذا هذا الحقد على كتاب واحد، في غرب ينتج سنوياً ملايين الكتب التي يدين العديد منها استعماريته وتجاوزاته ضد الحضارات الأخرى؟
لسبب واحد على الأرجح: إدوارد مسّ عصباً حساساً للغاية في أسنان الغرب، حين أماط اللثام عن أمرين متلازمين: الأول، مدى لا موضوعية علم الاجتماع الغربي في إطلالته على “الآخر”. وهذه تهمة لا يستطيع العالم الأول الغني والقوي والمتباهي بإنجازاته العلمية التكنولوجية الهائلة أن يقبلها من شخصية عالمثالثية ولو تلقّت هذه دروسها في جامعاته. والثاني، مجادلة إدوارد بأن علاقات القوة غير المتوازنة بين طرفين، تشوّه المعرفة وتسفر عن “امبريالية ثقافية” تطل على “الآخر” الشرقي بصفته بربرياً وعنيفاً ولا عقلانياً يشبه عقله عقل الأطفال أو حتى القرود.
هذان الكشفان جعلا إدوارد سعيد هدفاً مفضلاً للحملات العنيفة، ليس فقط خلال حياته بل أيضاً بعد مماته. وهذا الدافع هو نفسه الدافع الذي تحدث عنه “الاستشراق”: احتكار الغرب للحقيقة وتغييبه الشعوب والحضارات الأخرى عن اللوحة الفكرية والثقافية (وبالتالي السياسية والاقتصادية) العالمية. فما يقوله الغرب عن الشرق أو يراه فيه، بما في ذلك “الآخر” الخطر والمتأخر، يجب أن يقبله هذا الأخير على أنه الحقيقة العلمية الوحيدة.
وقد جاءت كل تطورات العقد الماضي لتثبت تماماً هذه النقطة الأخيرة. فالرئيس بوش غزا العراق وهو يدرّس جنوده وضباطه كتاب “العقل العربي” لمؤلفه رفائيل باتاي الذي ينضح عنصرية ضد العرب. والبابا بينديكت استنطق امبراطوراً بيزنطياً ليعلن عبره أن الإسلام دين لا عقلاني على عكس “المسيحية الهيلينية”. ومشروع المحافظين الجدد الأمريكيين في الشرق الأوسط الكبير، قام برمته تقريباً على الفكرة بأنه يتعين على الغرب “تطوير” الشرق بقوة السلاح وعنف الفوضى الخلاّقة. ثم إن الممارسات “الإسرائيلية” ضد الفلسطينيين بعد اتفاقات أوسلو كانت، كما يعترف المحلل “الإسرائيلي” ناتان ميندل، تطبيقاً حرفياً لاستنتاجات إدوارد بأن الفكر الاستشراقي الغربي (والحركة الصهيونية أحد منتوجاته) لا يعترف بوجود الشرقيين كمخلوقات جديرة بالاستقلال والاحترام.
بالطبع، الممارسات العنصرية الامبريالية كانت موجودة قبل ظهور الاستشراق. لكنها بعده باتت أكثر عرضة للانكشاف الفكري ولم يعد في وسع الغرب الاختباء داخل عباءة تفوقه العلمي لتبريرها بوصفها “عبء الرجل الأبيض”، أو المهمة الحضارية للغرب في الشرق، أو لكونها تجسيداً لرسالة إلهية كما الأمر في أمريكا.
إدوارد سعيد نسف كل هذه الركائز الفكرية، فحقت عليه لعنة الغرب. لكنها في النهاية لعنة مباركة، يكفي إدوارد معها أنه نجح في تحويل تعبير “الاستشراق” الشهير، إلى تهمة خطيرة يجهد الجميع للتنصل منها.