انتظار النخبة في محطات النزاعات الطائفية
أحمد جابر
يضج ميدان السياسة بخطب أقطاب الطوائف وفرسانها، والى جانب الكتل الأهلية الحاشدة، وتحت ظلال سيوفها، تتحرك “هوامش سياسية مستولدة” يوكل اليها أمر الانشغال، والمشاغلة، بمسائل دنيا، يأبى “الشرف الطوائفي الرفيع” عن الخوض فيها! هكذا يُعقد لواء السياسة في لبنان لمفردات “حشود الاستنفار”، ومع السياسة هذه، يُسترهن المستقبل اللبناني، ويُعتقل الاجتماع اللبناني الوطني. فالاجماع التوافقي ليظل الشأن العام موزّعا على “أشتات جمعية” تنزل في دار إفتراق، وتسكن فجوة يتسارع اتساع فجواتها. في إزاء الحرب الطائفية “الباردة هذه”، يصمت من هم خارجها، مثلما يترقب البعض منهم جلاء غبار نتائجها. يطلق على أولئك المنتظرين اسم أهل النخبة أو جماعة المثقفين، الى تسميات أخرى توحي تمايز هذه الفئة، لجهة وعيها، ولا فئويتها، وسعيها الى ما يتجاوز ايجابا واقع الحال السائد.
لكن ثمة معان ودوافع وافتراضات تكمن خلف وضعيتَي الصمت والكلام لدى هذه الفئة من اللبنانيين، المقيمة على انتظار قلق، أو النازلة عند حكم المراقبة والتعليق من بعد، أو المترقبة لتطور ما، يجعل ذواتها “المنعزلة” جزءاً من آليات حراكه على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
يمكن تلخيص ما جرت الاشارة اليه بكلمة واحدة هي “الدور”، والسؤال عن إمكانات حصوله، وعن ماهيته، أي مدى “مفصليته” وأهميته، أي كل ما يقرر حركات “المتميز” السياسي- الثقافي، وسكناته.
لنا أن نفترض أن الاحجام “النخبوي” على علاقة بإعتبارات شتى، منها: الشعور بالعجز في إزاء ضخامة الاحداث الجارية، والتردد في الاقدام على مباشرة عمل ما، والاحباط والشعور باللاجدوى، والموافقة بالسكوت على المشهد السياسي السائد، وتحيّن الفرص، والتزام مقولة “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”، إذاك، ينال من “تأنّى ما تمنّى”! على أيّ من هذه الوجوه يجمع “النخبوي” بين صفات التخلي عن وظيفته المفترضة، وبين الاتهام الذي يمكن أن يرمى به، مثل التملق والتزلف، والمحاباة، وإنتهاز الفرص والجبن. أي، بكل ما يتعارض مع مضمون تحصيله “النخبوي” وقيم هذا التحصيل الجوهرية.
على خطّ معاكس، يصير الكلام “النخبوي” ضروريا، إنطلاقا من الدور النقدي الأساسي، الذي يجب أن يكون منطلق المساهمة وهدفها في الوقت ذاته. يلعب النقد المأمول في هذا المعرض، دور تفكيك لغة الخطب وبنيتها، لردّها الى اصولها، ويعرّي “البرامج” من غلفها ليعيد تقديمها الى “العامة” على صورتها الأصلية.
ويقيم منظومات تحليلية وقيمية مكان مثيلاتها السائدة، ويدقّ باب الحرية في التفكير والتأويل، وفي الشرح والتعليل، في مواجهة “التكليف الإلهي” الذي تمارسه الطوائف اللبنانية، من دون أن يرفّ “جفن عقلها” أو يهتزّ “وجدان منطقها”.
من المفارق ألا يقع المراقب، على ضجة “سياسية نقدية” تتناسب وضخامة الضجيج الذي يصدر عن اليوميات اللبنانية، ومن المستهجن أن يسيل كل هذا الحبر عن الريادة، فكراً وثقافةً واعلاماً، فيما يسود الصمت حيال هذا الارتداد نحو كل ما هو معاكس لهذه الريادة، ونحو كل ما يمهّد السبل للاجهاز الأخير عليها، ومما يدعو الى الشعور بالاسف والخسران، تشظّي إمكان بناء “نخبة عابرة” وتناثرها نتفاً تبريرية، على أعتاب “الكيانات الطائفية”، وضمن أروقتها، وفي الدروب العسيرة المؤدية الى ردهاتها الخلفية.
تأسيسا على واقع الحال اللبناني، تنهض ملاحظات عيانية، لها تجسيداتها المحسوسة ولا تشكل تعديا على جوهر الحقيقة، إذا كان المقصود مداناة الوصف للموصوف، أو مقاربة اللغة لموضوعها، دونما كبير “عُجمة” أو إيغال في صناعة لفظية.
“كأس” الملاحظة العيانية الاولى تنضح بعجز “النخبة” اللبنانية عن التأسيس لوعي مخالف عابر للكيان. فلقد حال دون ذلك إنغماس “النخبويين” في خلافات المشكلات البنيوية اللبنانية، على خلفية إفتراقية نهلت من “المخزون الأهلي” فبنت في الغالب على حيثياته، ولم تفلح في الافلات من سجن الارث الاجتماعي، مثلما أخفقت في كسر قيود “التكرار” المنقول على شكل بديهيات “وطنية”.
ملاحظة عيانية ثانية تعلن عجز النخبة، أيضاً عن إنتاج قواسم مشتركة، تُستنبت من “الأرض الطائفية الخاصة” وتكون لها مقوّمات الحياة ضمن الأراضي الطوائفية الأخرى. نستطيع بذلك أن ننسب الى “النخبة” فشلين: الأول مؤداه التقصير عن الارتفاع فوق بنية الأهل، بالاستناد الى “أجنحة فكرية مفارقة”، والثاني جوهره غياب القدرة على إضافة بعض “الريش الغريب” الى أجنحة “الأهل” على سبيل التنويع والتلوين، الذي لا يخدش أصل “الطائر الطائفي” الأصلي، ولا يموّه منبته الاجتماعي.
عدم إصابة النجاح، وطنيا، والقعود دون اشتقاق لغة مشتركة ذات حيثية “محلياً”، جعلا سلوك النخبة أقرب الى التماهي مع مسالك “الأهل”، وأزالا مسافة التمايز المفترضة، وأفسحا في المجال أمام “دور نخبوي” من نوع مختلف، قوامه التنظير لـ”الأهل” وتبرير سلوكياتهم، والذود عن حيوية مصالحهم، كما جرى تحديدها على يد “الفئوية السياسية والحزبية” التي تقود حياة أولئك “الأهل” وجمهورهم. صارت النخبة ألسنة متعددة للخطاب الجامد الوحيد.
لقد انفرط عقد بعض المحاولات “النخبوية” العابرة التي حاولت حياة في حقبات مختلفة من عمر السياسة في لبنان، كان أبرزها تلك التي استمرت حتى عشية الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، ثم تداعت تباعاً بعد ذلك التاريخ. لقد سقطت تلك التجربة، تحت وطاة هجمات الداخل الأهلي أولا، وتسارع سقوطها بمساهمة من ابنائها أيضا. كانت الهشاشة جامعا مشتركا لحيثيات “علمانيي” تلك الحقبة، ولقابلية مجتمعهم الهجين لاستقبال براعم “موجات الحداثة”. جاء رد الفعل على سقوط المحاولة على شكل انهيارات نخبوية، عامة وخاصة، فأصاب التداعي الأحزاب مثلما نال من الافراد، وأحال الجميع على “انتظارية” تتجدد مع كل موسم، وعلى أوهام تتغذى من وعود محطات سياسية لبنانية متتالية.
لقد راهنت “النخبة” على الحرب الأهلية وعلى زوالها، وانتقلت من حلم الرئيس الراحل بشير الجميل، الى ربيع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الى دولة “قسم الرئيس إميل لحود” ثم كان لها الاستيقاظ ما بعد خروج “السوريين” من لبنان، مثلما كان لبعضها الغفو الهانئ في اسرّة وجودهم. وحتى تاريخه لم نقع على قراءة نخبوية لمعاني انتخاب الرئيس ميشال سليمان. والسؤال: ألا يزال الأمل المخادع رفيق النخبة؟ ألا تزال أحلام الدور، تهدهد سرير أيامهم؟ مرة أخرى يطيش سهم النخبة، لأنها تحرث في غير أرضها، لذلك يظل حصادها زؤاناً! ¶
ملحق النهار الثقافي