عنف الفتن في وجوه متعددة
سليمان تقي الدين
لا يجدي القول: الفتنة مشروع إسرائيلي أميركي. يكاد يكون الأمر تبريراً لأنفسنا وتنصلاً من المسؤولية عن مواجهتها، وعن مساهمتنا في توفير الظروف لوجودها.
منذ عقود، ونحن كعرب، فقدنا المبادرة لصناعة مستقبلنا. لم نتقدم خطوة واحدة في أي مجال لمعالجة مشكلات تتصل بتقدمنا الاجتماعي. حالنا في كل مكان بين قمع سياسي رسمي وإرهاب ثقافي سياسي وأمني وغوغائية. استجبنا ونستجيب لكل الضغوط الخارجية والسياسات الدولية التي ملأت الفراغ العربي وتجرّأت في القرن الواحد والعشرين على التعامل معنا بلغة الاستعمار الجديد مستهدفة إعادة تشكيل وجودنا في نظام إقليمي، وعلى هويتنا وشروط عيشنا، ووضع اليد على مواردنا وأمننا واستقرارنا.
تخلّينا عن طموحنا المشروع في التحرير والوحدة تحت ذريعة الواقعية، في عالم تجاوز فكرة الثورات والتحرر الوطني ورسم لهما سقوفاً بتوازنات دولية قاهرة. لكن انكفاء العرب على ذواتهم وتحريم المسّ بكياناتهم ودولهم وأنظمتهم تحوّل إلى ركود تاريخي أطاح بكل تراثهم الوطني وإنجازاتهم وأخرجهم من العصر. صادرت الدول العربية الماضي والحاضر والمستقبل، وحكمت على شعوبها بالعزوف عن الحراك والمشاركة، وسدّت أمامها سبل العمل من أجل حياة أفضل. راكمت عقود القمع السياسي والترويض وإلغاء أية مساحة للحرية خارج مساحة الاقتصاد المصادر للعوائل والنخب والمغامرين والتجارة السوداء، راكمت ثقافة موازية ماضوية عاجزة عن استيلاد أفق بديل. ثقافة تغتذي من شرعية الموروث السلبي لتقاوم لا شرعية الحاضر السلبي.
لدينا أشكال متعددة من المقاومات لكن ليس لدينا حركة تقدمية عربية. ندافع هنا أو هناك ولكن نستخدم القوة التي لا تشرك المجتمع الأوسع في أهدافها للنهوض بالكرامة الوطنية والإنسانية. بيئتنا السياسية مشوّهة اليوم بطفيليات «العنف المقدس» الذي يسهل استعماله واستخدامه وتحويره وتوظيفه في المشروع النقيض، أو لمصالح اللاعبين الكبار في مصير المنطقة. لم نشكّل بعد حركة استقلال وطني، ولا حركة تحرير وطني، ولا مشروع نهوض له مرتكزاته ورؤياه وأدواته، فكل هذا الصراع الحافل بالبطولات والتضحيات يتم استيعابه في آلة دولية ضخمة تتلاعب برصيده ووزنه وأهدافه. يباشر الاحتلال الأميركي خروجه من العراق لكننا لا نعرف كيف نزيل آثاره وتداعياته، بل نحافظ ونبني على وقائع هي جزء من أهدافه. لم نعد أمة مشطّرة، بل نحن شعوب تتشطّر أقاليم وجهات وإثنيات وطوائف ومذاهب وقبليات سياسية تتكوّن على عصب الهويات الصغيرة الإيديولوجية المستحدثة.
كل الحداثة التي كسبناها من نضال نصف القرن الماضي ذهبت هباءً في انبعاث القبلية السياسية، في اليمن والسودان ولبنان ومصر التي كادت أن تكون يوماً أمة في ذاتها. رمزيات السياسة والعنف والحوادث «الفردية» أو «المفتعلة» ليست مهمة لذاتها كتفجير قطار أو زرع عبوة في بلد يعيش في إجماعات وطنية. السياسة القامعة والعنف المانع للتفكير وللحرية بكل أشكالها، صارا نمطاً من أنماط حياتنا وثقافتنا. ونكاد ندعم القمع الرسمي السلطوي حتى لا نقع في الفتن والفوضى، عملاً بقاعدة «سلطان غشوم خير من فتنة تدوم». هذه الخيارات التي لا تنطوي على معنى الحرية، هي التي تحكم سلوك معظم الناس الرهائن بين المطرقة الغربية والسندان الداخلي. وفي مكان ما من هذا المشهد تأخذ الجماعات شرعية الانطواء والانعزال والتحزب للإطار الفئوي كشكل من أشكال أمنها وحمايتها. لا نعيش اليوم في «الماضي» ومساوئه فقط، بل نعيش الماضي المصفّح والمقوّى بآلة الحداثة والتكنولوجيا ووسائلها المعاصرة.
نحن لا نتقاتل بالسيف، بل بأشد أدوات القتل الأعمى الجماعي. نحن لا نتبارز في تكافؤ من الفرص، بل في تقاتل غامض تديره مؤسسات كونية وتتحكّم بما يصدر عنه من ردود أفعال وانطباعات ومشاعر وتخيّلات. مسرح من الرعب والغموض يلف لبنان منذ خمس سنوات وظيفته أن يشتّت الرأي العام، وأن يعبث بالتضامن والمشتركات. تتدخل الحروب السرية لمخابرات الدول، تفتعل الحوادث، وتواكبها موجة من التأويلات والمواقف، فيخرج الجمهور فاقداً الوجهة التي تعينه على الاختيار والقرار.
نحن شعوب ودول مشغولة بأمنها، بلعبة الخوف واللااستقرار لكي تنصرف عن هموم إنسانية أخرى، وكي تستنزف مواردها، ويجري ابتزاز ثرواتها، وتبقى أسيرة تحديات تجاوزها كل العالم من حولها. ثروة العرب، وأمن العرب، في يد أميركا ومن ضمنها «ولاية إسرائيل».
لا شيء في هذه الأمة يحمل معناه الحقيقي اليوم. لا أحد من الفاعلين في المستوى الكبير يفتح أفقاً لنهضة أو نهوض ويفهم أن القوى المتقدمة في العالم تتعاطى معنا كشعوب هرمة عاجزة ولا تعترف لنا بحق الاجتماع في كيان حر ومستقل، وبحق العمل من أجل الخروج من هاجس الأمن إلى طموحات التقدم الاجتماعي.
وحدها حركة تقدمية عربية جديدة مستقلة يصنعها المهمّشون عن منظومة السلطات التي تدير مجتمعات بكاملها، دولاً وتيارات وتستدرجها خارج الزمن المعاصر، تستطيع أن تعيد جدول أعمال مختلفاً يجمع الكرامة والحرية للأرض والإنسان.
العنف التكفيري الذي يقدّس نفسه ليضرب الآخر في الرأي أو الموقف أو الانتماء لا يستهدف فئة أو جماعة إنما يستهدف المجتمع ويشوّه ويعطّل فكرة التغيير ولا يخدم إلا الممسكين بقرار الشعوب في الداخل والخارج لتأييد التخلّف كمقدمة لتأبيد السيطرة. العنف الفتنوي يلبس وجوهاً متعددة لمشروع واحد.
السفير