الانحطاط الدموي!
الياس خوري
اسوأ رد فعل على جريمة كنيسة القديسين ماري جرجس والأنبا بطرس في الاسكندرية هو الخوف والاستعطاف والاستجداء. عندها يكون القتلة قد حققوا هدفهم، مثلما حصل بعيد مجزرة كنيسة سيدة النجاة في بغداد.
الخوف والاستعطاف ومشهد نصارى بلاد العرب في ذلّ الدم والموت، ليس نهاية للمسيحيين في هذه البلاد، وهم من سكانها الاصليين، ولم يصنعهم مبشرون او مستعمرون، بل كانوا في معظمهم ضحايا التبشير الاستعماري، بل هو نهاية للفكرة العربية نفسها، حيث تحلّ المجزرة كلغة تخاطب وحيدة، وتتوالد المذابح، وتجد الاكثريات نفسها في مواجهة الاقليات قبل ان تنقسم على نفسها وتتذابح.
لغة هذا العنف الأعمى ليست ابنة صدفة ما، بل هي نتاج انحطاط فكرة الدولة وانحلالها، وعودة الى همجية ما قبل الدولة.
السؤال اذاً ليس موجها الى المسلمين، كل قراءة لهذا العنف الطائفي الوحشي باعتباره صراعا بين المسلمين والمسيحيين هي قراءة خاطئة وتصب النار على زيت الجريمة. المسألة ليست صراعا، اذ من يصارع من في العراق؟ اوهل قبط مصر طرف في الصراع؟ المسألة هي ما سبق للأمريكيين ان اعلنوه عشية غزو العراق، من انهم يريدون اعادة هذا البلد الى العصر الحجري! هنا يجب ان تبدأ قراءة هذه الوحشية التي تسعى الى تهجير مسيحيي العراق وخلق مناخات الجنون الطائفي في مصر.
هذه العودة الى العصر الحجري لها ثلاثة اسماء: الديكتاتورية الداخلية والغزو الخارجي والصيغة الاسلاموية التي انتجها النفط الوهابي.
ثلاثة عوامل تصبّ في مكان واحد اسمه الانحطاط، وتأخذ المشرق العربي الى انحلال دوله وسيادة لغة الدم على حياته اليومية. وهي عوامل تشبه الاواني المستطرقة، فتتداخل عناصرها، وتضيع ملامحها.
بدأت حكاية هذا الانحطاط عام 1948، وتبلورت عام 1967. في المرحلة الأولى اعلن المشرق العربي عجزه عن صوغ آليات عقلانية لاحتواء المشروع الصهيوني وصدّه في فلسطين، وقاد هذا الى تسلّم الجيش السلطة. وفي المرحلة الثانية انهزمت الجيوش التي لم تخرج من هزيمتها بعد. فانكسرت حرب تشرين 1973 في السياسة، ودُمّر الوريث الفلسطيني للحركة الوطنية العربية في سياقات معقدة لعبت الديكتاتوريات العربية دورا اساسيا فيها. وانطوت المرحلة باحتلال همجي للعراق قاد الى الانحلال الأخير للدولة القطرية، وتحولها الى ادوات بيد الخارج من جهة، والى انظمة فاقدة لأي شرعية اخلاقية او سياسية، ولا سند لها سوى القمع العاري، من جهة أخرى.
وفي هذا السياق شهدت قضية النفط العربي تحولا جذرياً، فتمّ سحب شعار نفط العرب للعرب من التداول، وصار النفط اداة لتطويع الثقافة والاعلام، وشكلا للصدقات التي تؤبّد التخلّف. واجتاحت الثقافة الخليجية بأشكالها المختلفة، وخصوصا بشكلها الوهابي المدى الثقافي العربي برمته.
هذه هي علامات هذا الزمن العربي، وهي علامات لا تهدد المسيحيين او الصابئة أو اليزيديين او غيرهم من الأقليات الدينية الا بوصفها علامات تهدد النسيج المجتمعي العربي بأسره وتدفع به الى التوحش.
لذا فان السؤال لا يتعلق بشجـــــب او ادانة المجـــزرة بلغة غائمة، كتلك التي استخدمتها الحكومتان العراقية والمصرية، ولا بدموع التماسيح التي تذرفها وسائل الاعلام الامريكية، بل هو سؤال عربي اولا، وقضية تتعلق بحاضر هذه المنطقة ومستقبلها.
لقد ثبت بالملموس، وبالتجربة التاريخية المريرة ان التنازلات والانبطاح امام اسرائيل والولايات المتحدة، تقود الى نتائج كارثية. وهذا ما تشير اليه التجربة المصرية منذ كامب ديفيد. اولى علامات الكارثة هو استفحال الديكتاتورية وتحولها جمهوريات وراثية ومجموعة من ملوك الطوائف، فقدت شرعيتها الثورية ولم تجد شرعية جديدة، ما يقود الى انغلاقات اجتماعية في ظل استحالة التغيير، والى استشراء عنف فكري وديني هو مقدمة العنف الدموي.
كما ثبت بالملموس، ان البديل الثقافي للانهيار الشامل للأنظمة الانقلابية، والذي يتمثل في هيمنة الثقافة النفطية، التي تجمع ما بعد حداثية متوحشة الى انغلاق في الهوية، هي الوصفة الجاهزة لتعميم الانهيار. فالأصولية المعولمة لا اهداف سياسية ملموسة لها، انها قوة تدمير ذاتي، تستكمل ما عجز الغزو الخارجي عن انجازه.
ان هذا العنف الفالت من عقاله، وهذه المجازر الطائفية، هي تعبير عن انسداد ثقافي وسياسي واخلاقي شامل لا يقود الا الى الحطام. حطام اجتماعي وانهيار اخلاقي وسيادة خطاب غرائزي لا رادع له.
من العبث ان ننتظر حلا قبل ان نكتشف سبب المشكلة، والمشكلة تقع هنا، في انسداد النظام السياسي العربي من جهة، وتبعيته للقوى النيوكولونيالية من جهة ثانية، هنا نكتشف كيف يتحول العجز جريمة، وتتحول الغرائز الباحثة عن هويات وهمية، الى هوية دموية قاتلة.
لا شكوى ولا استعطاف.
المسألة تتعلق بمصير شعوب هذه المنطقة، آن اوان التحرك من اجل ايجاد حل جذري، يبدأ من نقطتي الديمقراطية ومقاومة الهيمنتين الاسرائيلية والامريكية، بأفق وطني، وكل كلام آخر هو اضاعة للوقت.
القدس العربي