طبائع مصر
صبحي حديدي
كلما ألمّت بمصر نائبة وطنية ـ والعمل الإرهابي البشع الذي تعرّضت له كنيسة القديسين، في الإسكندرية، ليلة عيد الميلاد، كان واقعة مأساوية بالغة الخطورة ـ تذكّرت نصّاً قديماً قصيراً، وسارعت إلى تقليب مجلدات كتاب موسوعي حديث. أمّا النصّ فهو ما جاء في سفر ‘الخروج’ من وصف لأوبئة عشرة حاقت بمصر جرّاء اضطهاد الفرعون لبني إسرائيل: تحويل ‘مياه المصريين وأنهارهم وسواقيهم وآجامهم وكل مجتمعات مياههم لتصير دماً’، فيموت السمك وينتن النهر؛ ضرب جميع تخوم مصر بالضفادع، فيفيض النهر ضفادع تصعد وتدخل إلى بيت الفرعون ومخدعه وسريره، وبيوت عبيده وتنانيره ومعاجنه؛ ضرب تراب الأرض، ليصير بعوضاً؛ إطلاق الذُبّان، على الشعب والبيوت والأرض؛ إلحاق الطاعون بالمواشي؛ ذرّ رماد الأتون في السماء، ‘فيصير على الناس والبهائم دمامل طالعة ببثور’؛ إمطار ‘بَرَد عظيم جداً، لم يكن مثله في مصر منذ يوم تأسيسها’؛ جلب جراد ‘يغطي وجه الأرض حتى لا يُستطاع نظر الأرض’؛ إسدال ظلام دامس، فلا يبصر أحد أخاه؛ موت كلّ الأبكار، من ‘بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكر بهيمة’.
وأمّا الكتاب الموسوعي فإنه ‘شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان’، للمفكر المصري الكبير الراحل جمال حمدان (1928 ـ 1993)، حيث تتكفل أربعة مجلدات بتثبيت الخلاصة المزدوجة التالية: 1) صحيح أنّ العلم البسيط يمكن أن يفسّر الأسباب الطبيعية والفيزيائية وراء هذه الأوبئة ـ الأعاجيب، ويستقرىء موقعها في المخيّلة التوراتية أوالميثولوجية للمنطقة؛ ولكن من الصحيح أيضاً أنها لا تُفسّر ولا تُستقرأ بمنأى عن عبقرية المكان الإستثنائي الذي كان مسرحاً لها. وفي مفردات تلك العبقرية ثمة نهر النيل، بادىء ذي بدء، الشريان المائي الفذّ الذي يضخّ الأرض بالطمي والغموض والرهبة والأعجوبة؛ وثمة عبقرية المصري، الذي كان دائماً الضحية الكبرى لتلك الأوبئة التوراتية، في مختلف المواقع والأشغال: من الصيادين والعبيد والرعاة، إلى الواقفين خلف التنانير والمعاجن وأحجار الرحى، في الشوارع والدساكر والسهوب، على سقالات الأهرامات وأدراج المعابد، في بيوت الطين والطوب، دون إغفال الأبكار في القماط.
وإذا كان ‘الخروج’ هو سفر الرهبة والدماء والضفادع والجراد وقتل الأبكار، فإن عمل حمدان الفريد هو السفر النظير لمصر النظيرة، وهو فصول ثرّة متكاملة من التأمل الشاقّ والتفكير الجسور والتركيب الجدلي والخلاصات الثاقبة؛ وهو استقصاء متعمق في العلاقات الوثيقة، الخافية قبل تلك الظاهرة، بين الجغرافيا والتاريخ والانتخاب الطبيعي والجيو ـ سياسي، وبين ثقل المحيط والموضع والموقع، وفلسفة المكان والكائن، في الزمان الفعلي الصلب والجارح والواضح. ولم تكن مصادفة أنّ الصيغة الأولى المصغّرة للكتاب (256 صفحة) صدرت في عام 1967، لكي تكون ردّاً سريعاً على حال الإنهيار المعنوي والروحي والتاريخي التي سادت في أعقاب الهزيمة. ولم يكن غريباً أنّ حمدان ـ في الصيغة الثانية (قرابة 500 صفحة)، والثالثة (قرابة 3000 صفحة) ـ يتفادى الوقوع في أحادية دراسات مماثلة كتبها أستاذه سليمان حزين، حول البيئة والموقع؛ وفي مآزق كتب تأسيسية أخرى مثل ‘تكوين مصر’ لشفيق غربال، و’أصول المسألة المصرية’ لصبحي وحيدة، و’مصر ورسالتها’ لحسين مؤنس، و’سندباد مصري’ لحسين فوزي.
ولقد أوضح حمدان أصول مصر على النحو الجلي التالي: ‘فرعونية هي بالجدّ، لكنها عربية بالأب. غير أنّ كلا الأب والجدّ من أصل مشترك ومن جدّ أعلى واحد، فعلاقات القرابة والنسب متبادلة، وما كان الإسلام والتعريب إلا إعادة توكيد وتكثيف وتقريب. ولهذا فإن التعريب، وإن كان أهم وأخطر انقطاع في الاستمرارية المصرية، إلا أنه لا يمثّل ازدواجية بل ثنائية. فلا تعارض ولا استقطاب بين المصرية والعربية، وإنما هما اللحمة والسداة في نسيج قومي واحد’. وهو لا يكتفي بإزالة الإلتباس حول التجانس الطبيعي بوصفه صفة جوهرية في البيئة المصرية، بل يعمّق تحليل الركائز الجدلية التي تجعل هذه الصفة مظهراً عابراً للحضارات: ‘ليس سهلاً أن نركز الشخصية الإقليمية في معادلة موجزة، لا سيما إذا كانت خصبة كشخصية مصر. فمصر، وإنْ كانت جزيرة صحراوية بالموضع، فإنها بالموقع إقليم مرور وعبور، في قلب الدنيا وعلى ناصية كلّ التيارات الحضارية والثقافية. إنها برج أو مرصد، يغطي العالم القديم برمّته، ولهذا فلم تملك مصر أن تنعزل قطّ عن تيارات التاريخ وحركات الحضارة’.
وفي حقبة مبكرة، لم تكن فيها مصطلحات الإسلام السياسي قد استقرت على مدلولاتها الراهنة، كتب حمدان: ‘الصحوة الإسلامية التي تتحدث عنها الجماعات المتطرفة ماهي إلا صحوة الموت أو رقصة الذبيح، بعد طول احتضار استمر قرناً أو قرنين. وهي صحوة نفطية مبعثها البترول المجنون ليس إلا’. وكما فشلت أوبئة التوراة العشرة في المسّ بالخصائص العبقرية التي تصنع شخصية مصر، فإنّ نوائب الدهور التي تعاقبت، وكان آخرها استهداف كنيسة الإسكندرية، لن تكون أشدّ من نصال جديدة تتكسر على نصال عتيقة. ويستوي، هنا، أن تكون الجريمة رقصة ذبيح مصري، أم لعبة شيطان خارجي، إذْ من طبائع مصر أن تبقى منطقة وصل وفصل في آن، بحسب جمال حمدان.
خاص – صفحات سورية –