صفحات ثقافية

أسـرار

null
عناية جابر
الغناء الجيد على ما أحسب، ليس الصوت الجميل في اكتماله مع اللحن والكلمة فحسب، فثمة دهاليز و»أسرار» يمتلكها بعض المغنين ويرسلونها في أصواتهم الشادية، راسمين مداءات غير مسبوقة، متحكمين في ذبذباتها الفاتنة. أسرار لا تُكتب ولا تُدوّن ولا يُمكن تعليمها للمغني. أسرار ليست تمتلكها الأصوات التي نسمعها اليوم.
«أحب أشوفك كل يوم، يرتاح فؤادي» غنّاها محمد عبد الوهاب سنة 1928، وبقيت حتى اللحظة يرتاح لها فؤاد سامعها من كونها الاستعراض الأغلى للعواطف المشبوبة، في شكواها اعتمالات عشقية تراجيدية. حين أسمعها، وخصوصاً في المقطع الذي يقول: «يا روحي راح عقلي».. أرجح رأسي في كل الجهات، في رغبتي الى تشتيت تلك العاطفة المعذبة.
في الحقيقية، دقة الأصوات واكتمالها لا يعنيني كثيراً، بل أكثر هو يُخيفني من طبيعته المثالية. تطيب لي الأصوات في دقة أقل، وعذوبة أكثر، وفيها من فتنة التعثر الإنساني وضعفه ما يقربها من القلب، تحل فيه ما إن تُرسل. محمد فوزي أحد هذه الأصوات مثلا، كذلك محمد قنديل وكارم محمود وليلى مراد وعبد الحليم.. والقائمة هنا تطول، وهذه من أكثر الأصوات جذباً للسماع، وتمتلك «الأسرار» التي ذكرت، ويُعجزنا فهمها.
عبد اللطيف أفندي البنّا، المعروف في عشرينيات القاهرة بميوله المثلية وغنائه بصوته النسائي، سرّ الأسرار كلها، ما ان تسمعه حتى تسقط أغنياته في قلبك وتعلق في مسامك، خصوصا في «ما تخافش عليّا» و»ارخي الستارة»! هل هي الحسية لزوم الغناء العربي وأحد مكوناته؟ هل هو الصدق والشغف بالغناء؟ المهارات؟ التقنية العالية؟ الدعوة والإغراء؟ أُحب ان أصدّق ان الغناء الجيد الذي يُعمّر في الأفئدة، هو ذاك المجبول بالشغف، ويُلمّح في آن إلى أن المقاربة الجسدية ممكنة، من دون جعلها يقيناً، وبكلمة أخرى تحميل الصوت كل عناصر الإغراء مع وعد غير مضمون، بالوصال.
تُغني أم كلثوم: «الليل يطوّل ويكيدني»، وتُنهي كل مقاطع أغنيتها بكلمتي: «غصبن عنّي». لن يسمع أحد كلمتين سريتين في الغناء، أكثر فتنة من كلمتّي: غصبن غنّي، كما جاءتا في هذه الأغنية التي مذهبها آهات.
هدى سلطان أيضاً في: «إن كنت ناسي أفكّرك» تُغني بصوت يقوم على خدمة المزاج أولاً، تغني راغبة في منح أكثر من صوتها، منح حبها الذي هو ارتداد حب السامع لها.
«الآه» الواحدة في أغنيات مثل هؤلاء المطربين والمطربات، هي ثنائية طبيعية للرغبة وللعاطفة في آن. أكتب الآن، في نوع معين من الأغنيات والأصوات التي تفتش عن منفذ للخروج من متاهة الوحدة إلى رحاب «الآخر» المعشوق. الوحدة، الحمل الثقيل ولا تقدر عليه إلا الأكتاف القوية. الإغواء طبيعة ثانية في بعض الأصوات (منيرة المهدية، ليلى مراد، أم كلثوم، والعراقية سلمى مراد) تُقيم توازنها في القلوب في لعبة إيحاء من جهة، واستحالة من جهة أخرى. هذه بعض براعة الصوت البشري، وجاذبيته المتفوقة على كل الآلات.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى