صفحات ثقافية

الليـل والكتـابـة

null
ابراهيم محمود
بالنسبة للكثير من الكائنات الحية، الإنسان ضمناً، يكون الليل عالم النوم والاستراحة لها، حتى يأتي نهار جديد.
بالنسبة للكاتب أو الفنان، ليس الموقف كذلك، ثمة سعي إلى اعتبار الليل أو جعله عالم الإبداع المنتظَر.
ما هذا الذي يحفّز الكاتب على التمسك بالليل، وبعد انتصافه بوصفه ساعته التي يعلِن فيه حضوره الآخر؟
يبدو الليل لدى البعض وربما أكثر، ذلك الزمن الاستثنائي الذي يستشعر فيه أحدهم أنه ليس كأي كان من حوله.
في الليل الذي يوحّد ما بين الجميع بقانون نومه، يكون الكاتب المنتظَر للآخر فيه صانع قانون اختلافه الحيوي.
في تلك العلاقة القائمة بين الليل والكتابة، لا يمكن رسم وشائج القربى بينهما بدقة الرياضي، إنما يمكن استشراف جانب من الألفة الشديدة الخصوصية، ألفة ممضيٌّ عليها من قبل الكاتب الذي يسترسل بسرده الخاص وعبره.
حين ينام الآخرون يفيق هو، وحين يفيق لا يعود من ليل، إنما الدخول في زمن يتدفق وفق إيقاع كتابته الخاص!
كيف قيّض للكاتب أن يكتشف في الليل ذلك الآخر فيه؟ رغم أن الكتابة في الليل، وإلى وقت متأخر منه، لا تُعد قانوناً، أو بمثابة علامة فارقة تميّز الكتاب جميعاً، لكن جعل الليل عالم الكتابة المنتظر يستدعي مساءلة هنا.
ليليّو الكتابة
يُحال الليل إلى العالم المفارق للإنسان من خلال عتمته. إذ ما إن يحل الظلام، حتى يكون ذلك إيذاناً بالخلود إلى الراحة، إلى التوقف عن العمل في المجمل بالنسبة لمن يعمل مسترشداً بضوء النهار، وفي الليل يجري سريان فعل قوى أخرى، فعل حيوي آخر، لكن التأهيل للحياة يعلّم المرء التنويع في تذوقها في التعبير عن الذات بطرق شتى، هي ذاتها تسمّي الليل حقيقة أو مجازاً، وكأن الآخذ من الليل هو العامل بالإضافي مستقلاً عن البقية..
ثمة محاولة للدخول في منعطف تاريخ مختلف، جهةَ تحويل الليل إلى عالم آخر، أن يكون ملاذاً ما للكتابة، وربما مأخوذاً برغبات الكاتب، ومن ذلك أن يكون حلمه الذي يعاش على الورق وقد سجّل بوعي منه. إنه النظام الذي بموجبه يعمل الكاتب، لكن ليس كما يتصرف الآخرون من حوله. إنه لسان حال الساعي إلى إحلال نظام مغاير من العلاقات بين الكائنات، بينه هو نفسه والذين يتعامل وإياهم نهاراً، أو في الليل، لكنه يكون في حالة يقظة تامة، وربما شديدة التركيز، بينما من يحيطون به فهم ذاهبون في سبات عميق، إنه بومة منيرفا التي تتبصر الليل، كما النسر المتبصر للنهار من مسافة قصية، وفي عمله هذا يكاد يشتق لنفسه سلسلة حيوات متتابعة تعمل على الضد مما هو عليه في الواقع. إنه لا يعود الآخر المتخيَّل، والممكن لقاؤه على الورق أو في الكتابة فقط، وإنما من يسهل الشعور به بصفته من لحم ودم وقوة مائزة نافذة في الجوار، إنه قوة موقوتة إنما من أجل الحياة كما هو سر عمله.
ثمة هواية الكتابة باعتبارها ارتحالات لا تتوقف طوعَ حياة ملؤها المغامرة وعدم الإقامة في رقعة معينة، وداخل نمط حياتي معين، كرمى كتابة مغايرة: إبداعية، الإيحاء إلى الآخرين بأن ثمة إمكاناً لإرجاء الموت نفسه، لتعميق الحياة وجعلها أكثر قابلية للتذوق والاحتفاء بها… ذلك هو التحدي الأقصى للموت وتلقينه دروساً حياتية حقة.
في كتابه عن «بلزاك: سيرة حياة»، يكتب ستيفان تسقايغ (والآن، إذ أخلدَ الآخرون إلى الراحة وقرَّ قرارهم سيؤون أوان العمل بالنسبة لبلزاك. الآن، إذ يحلم الآخرون، آن الأوان عنده ليستيقظ..).
حلم الآخرين جماع قواه الكامنة في الكتابة، واستسلام الآخرين الطوعي أو دونه لليل، هو استلهامه الليلي لما يباغتهم به. إنه الإفصاح عن أن المعطى عن الليل ليس مطلقاً، إنه الشعور الغريزي الاعتيادي وللكاتب غريزة أخرى ترفع من سقف غرائزه جملة وتفصيلاً وهو في مهب مشاعره الليلية، في قيامته على نفسه العادية، ومصادقة ذلك اللاتناهي الذي يشكل أبعد من حدود اليوتوبيا. الليل جمهورية أفلاطون المشرَّع بابه لمن يتقن لغته هنا.
أحبَّة الليل في الكتابة، كائنات تمارس تشكيلاً لا يهدأ أو يستقر لنفوسها ولعالمها، في زمن يُستدعى بطرق مختلفة، تكون كفيلة بإبراز مدى تفاني الكاتب منهم كإنسان حي بكامله، وسرعة نفاذه في اللامرئي في ما يتقدم به إبداعياً.
في العديد من أعمال غادة السمان الروائية، تتم الإشارة إلى هذا الزمن غير المفكَّر فيه، أي إلى ما يلي الليل في منتصفه. إنها إماطة اللثام الفردية عما هو مختلف، بغيةَ كتابة مختلفة. إن بومة منيرفا هنا تحصي فظائع النهار، أو تتلصص على النيام، وتحيل إليها تلك المادة المسماة أدباً حياً، إنه النهار الذي يستطيع الليل تعميق مساره.
ويظهر الليل أيضاً دخولاً في محاكمة مع الذات، وتبويباً لقواها الناطقة وهي على درجات، حيث يتقاطر العالم داخلها عموماً، دون وجود ذلك الضجيج الملازم لها نهاراً. إنه المفرد والجمع، الكل والجزء في حوار مركَّب.
إن يوسف القعيد في روايته (شكاوي المصري الفصيح «نوم الأغنياء»)، ينهي روايته، وهو يعلن عنها من خلال سارده الروائي منذ الصفحة الأولى (نظر في ساعته. الثالثة والنصف صباحاً.)، لكنه الليل الذي يعني استمرار فعل قانونه في الكائنات وربما اكتمال نضجها، والبشر ضمناً، حيث إن الظلام يتلبس الأشياء، بينما أشياء الكاتب تعلن عن تنوع أنشطتها وقد استحالت مخلوقات أو كائنات تملأ العالم بصخبها، أو عنفوانها، أو سيرورة حيواتها.
القعيد لا ينهي روايته، إنما يشير إلى بداية فعلها، حيث يكون الصباح الوشيك التجلّي انتظاراً لقارئ يحسن رؤية المكتوب على الورق. إن الكاتب الذي يستهدي بالليل منطلقاً من قوى رائية فيه، هي شخصيته التي يلتقيها في أوقات دون أخرى، ليس أكثر من روح تغمر عالمها، لأن أطلس الكاتب يكون منظوراً إليه في كامل جهاته، رغم وطأة ثقله، لكنها القوى النفاثة داخله من تتولى مهام الكشف وتسمية الأشياء على قدر طاقته الإبداعية.
وفي العلاقة المثيرة للشبهات عند أولي أمر الليل، وهم الذين يقررون مصائر البشر في مجتمعاتهم، ثمة مقاربة لتلك الخطورة اللافتة في عمل الكاتب الليلي: إن قيامه الليلي وهو في صمت مشتعل في غرفته، لا يتوقف عن بث أصواته التي يأتلفها، عن تدبيج رسائل مقرَّرة بأهميتها مسبقاً، إلى من يعمل على الضد مما يقوم به.
إنه الشعور غير القابل للوصف في كتابة، قد تصبح عادة في هذا النطاق، ولعلها كذلك، فما يصعب وصفه هو الوحيد الجدير بالتقدير، حيث تغيب فيه وباسمه الحسابات، إذ لا تتحدد فيه لحظة معينة، ثابتة للكتابة، إنما لحظة الكتابة التي تصبح نزيلة القرطاس، وتلك التي تأخذ صيغة نهائية معينة، كما هو شأن الليل الذي لا تُرى فيه الأشياء، وتلك بدعته وبراعته في تكوين شمائله الطبيعية، ليكون في مقدور الكاتب معايشة تكوين مختلف دائماً لما يصفه، أو لمن يعهد إليهم سلطة سرد متجددة، وإلا لما كان الليل ليلاً، بسّره وغموضه والمنسوب إليه خرافياً.
إنه الجامع بين طبائع تراهن على ما هو نهاري في المتن، بين قوى مدمّرة وأخرى تمارس كبحاً لجماحها.
فالذين يزهقون أرواحاً، ويكتمون أنفاساً، ويتهددون آخرين في هذا الزمن المقطوع والمقلق، كما لو أنه زمنهم تحديداً، يجدون أنفسهم في مرمى من يطلق سراح تلك الأرواح، أو يمنحها فرص حياة أخرى، أكثر مما يتصورها القيّمون على مصائر الناس وأحلامهم. إنه صراع غير مفكَّر فيه، أو غير محسوب – ربما – بين من ينفّذون المقرَّر في كتاباتهم النهارية أو تلك التي وصلتهم بعدتها المرعبة، والذين يجعلون من كتاباتهم الليلية، ما من شأنه تطهير النهار، ما يبقي النهار أكثر قابلية للعيش فيه، وأقل انشغالاً بالمخاوف والكوابيس…
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى