رحيل الشاعر والفنان التشكيلي السوري زهير غانم
الشاعر والتشكيلي الراحل زهيرغانم..تجربة إبداعية رائدة
دمشق: سانا
تمتاز تجربة الشاعر والفنان التشكيلي السوري زهير غانم الذي غيبه الموت منذ ثلاثة أيام في لبنان بالغنى والتنوع في مجالات الفن التشكيلي ونقده والأدب والشعر ونظمه فكان صاحب فعل تناغمي بين الفن التشكيلي والأدب.
وعلى امتداد سنوات عمره الإحدى والستين أثبت الراحل غانم حضوره في عالم الصحافة والإبداع الشعري والتشكيلي رسخه صدق وأصالة ذلك الإبداع تساندهما جرأة في الطرح ومقدرة على امتلاك مفاتيح التلقي سواء في التشكيل أو الأدب أو النص النقدي.
ولد الشاعر الراحل في مدينة اللاذقية عام 1949 وتخرج في قسم اللغة العربية من جامعة دمشق 1971 ثم توجه إلى بيروت ليعمل ناقداً فنياً وأدبياً لمدة ربع قرن قبل أن يعود إلى مسقط رأسه إثر أزمة صحية.
نشر زهير غانم للمرة الأولى قصائده في الصحف والمجلات السورية في مطلع سبعينيات القرن الماضي وأصدر خلال رحلته الشعرية أربع عشرة مجموعة شعرية منها /أعود الآن في موتي/1978/ و/التخوم.. 1979/ و/الشاهد../1985/ و/أحوال الشخص المتباعد 1989/ و/مدائح الأشجار../1990/ و/هديل الجسد اليابس 1991/ و/جهة الضباب 1995/ و/صخب الياسمين 1995/ و/في مجرة الرغبات 1999/ وزهرات وقبريات/و/ألفين شمس منتصف الليل2004/ و/يحبك من لا يحبك 2007/ ومياه المرايا 2009/ وقبل رحيله صدرت عن دار بيسان اللبنانية مجموعته الشعرية الرابعة عشرة /عبير الغيوم/ التي تميزت بقصائد التفاصيل والجزئيات وتلجأ أحياناً كثيرة إلى مقدمات شبه سردية.
عمل غانم محرراً ثقافياً في عدة مطبوعات دورية يومية وأسبوعية وشهرية في بيروت منذ عام 1984 حيث شارك في المقاومة الإعلامية للعدوان وللاحتلال الإسرائيلي عبر دوره كمدير تنفيذي في مجلة أمل 1985 إلى 1990 ثم في مجلة العواصف 1990 /1992 ثم ككاتب ومشارك في الصفحة الثقافية في صحيفة اللواء وعاد إلى قواعده في الحركة الثقافية في لبنان ليشارك في إصدار مطبوعتها مقاربات حتى وفاته.
وفي تصريح لسانا وصف الناقد الفني طلال معلا الراحل بالمبدع متعدد المواهب فقد امتاز بالجودة على صعيد النقد الفني والرسم والشعر عدا عن تذوقه الجيد للفن وانحيازه للمستوى الجيد منه.
وقال معلا: كان بيت الراحل غانم محطة وملتقى للفنانين والأدباء والشعراء الذين يهتمون بعقد الجلسات النوعية المعنية بقضايا الفن والنقد معتبراً أن غانم يعد اسماً سورياً مهماً عاش في لبنان أراد أن يعيش جو الأدب والفن الحقيقي فأنتج وقدم الكثير عن الفن والأدب في سورية ولبنان.
وفيما يتعلق بأعماله الفنية أوضح الناقد معلا أنها حملت سمة النضج ولاسيما أن صاحبها تشخيصي ذو إمكانية تعبيرية عالية ويمتاز بمقدرة لونية وإنشائية في اللوحة لكنه آثر أن تكون الكلمة صلة الوصل بينه وبين المجتمع فاتجه للكتابة النقدية ومن ثم الأدبية من خلال أعماله الشعرية.
أقام الراحل غانم عدة معارض فنية تشابه في مجملها إلى حد بعيد سواء في أفكارها وموضوعاتها قصائده التي اتكأت على العديد من المرجعيات الفلسفية والفكرية لتدلل على الكثير من مواجعه الداخلية حيث أقام العديد من المعارض الفردية والجماعية في سورية وبيروت ومدن أخرى.
ويشير الناقد سعد القاسم إلى أن الشاعر زهير غانم كان صديق الفن التشكيلي وواكب على مدى فترة طويلة من الزمن تجارب فنانين تشكيليين سوريين ولبنانيين حيث كتب عنها بلغة أدبية أنيقة تمزج إحساسه كشاعر بمقدرته الكبيرة على تذوق العمل الجمالي.
وقال القاسم إن الراحل غانم قدم في كتاباته نصاً إبداعياً أدبياً يحرص أن يكون موازياً للعمل التشكيلي الذي يكتب عنه.
آمن الراحل غانم بجدوى الشعر وحالته الإبداعية وتماهي صاحبه مع هموم الناس والقضايا الوطنية والقومية ولاسيما معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي فكان يؤكد على التزام الشاعر بالقضايا العربية العادلة وتحفيزه الهمم للنهوض والتضامن متفائلاً بالحالة التي يؤءديها الشعر عندما يعكس الشاعر في نصه الإبداعي هذه القضايا.
ولطالما أكد الراحل غانم على مقدرة الشعر في تشكيل جبهة مواجهة للاحتلالات من خلال استصراخه الضمائر وطرحه مفهوم الالتزام الإنساني وتشريح الظلم والعدوان تساعده في ذلك لغة الشعر وتعبيراته ومشهدياته الخاصة.
والشعر برأي الراحل غانم فعل مجترح من عميم كيان الشاعر وصميم قلبه وهو يتطارح موضوعاته الأثيرة لديه عفو الخاطر فلا يتصنعها ولا يفتعلها ولا يتقصدها بل هي في سيرورة وعيه ولا وعيه وكثيراً ما كان يردد أن الحب في أصل الإنسان فطرة وكذلك الانتماء إلى الوطن.
عاش زهير غانم حياة غنية صاخبة لكنه كان دائماً ميالاً للمنجز الإبداعي الجدي ذي المستوى العالي وعاشقاً للاطلاع والإحساس الفطري بالحقيقة وهذا ما يظهر في ما نشره نقداً وشعراً ونصوصاً ومقالات حيث كان ملماً بكل فروع الآداب والفنون شعراً ورواية ومسرحاً وفنوناً تشكيلية.
كيف يجوز لك أن ترحل ؟
صباح زوين
(لبنان)
عندما تكلمت معك يا زهير كان ذلك يوم الخميس مساءً. كنا في الثلاثين من الشهر، يوم واحد قبل رحيل السنة العتيقة ويوم واحد قبل رحيلك. صدمة كبيرة هي رحيلك عنا. للتو أخبرني أحد الأصدقاء وغرقتُ في عدم الإستيعاب. الصديق يخبرني وانا عاجزة عن التصديق. يا زهير يوم الخميس مساء هاتفتك لأعيّدك ولأشكرك على مجلة “مقاربات” التي وصلتني متأخرة وأنت سعيت جاهدا ً لأن تصلني، بعد انتظار طويل، فقط بضعة أيام قبل أن ترحل. هاتفتك بإسم صداقتنا الجميلة والقديمة يا زهير. لماذا رحلت دون إنذار وللتو سألت الروائي وصديقك الياس العطروني إن كنت تشكو من شيء وأكد أن لا، إطلاقا ً. لم تكن مبدئيا ً على موعد مع أي مرض ولا سابق إنذار لذلك، إلا أن قلبك خانك وكان عليك أن ترضخ لمصيرك. قيل لي إنك قلت قبل شهرين لأحد أصدقائك أن المعرض الذي أقمته هو آخر معرض لك وإن الكتاب الذي نشرته سنة 2010 هو آخر كتاب وإنك لم تعد تريد أن تكتب ولا أن ترسم. ما هو هذا السر الذي يلف الإنسان الذي يشعر مسبقا ً بأنه راحل، سرٌ لا يفهمه سوى من شارف على المغادرة، لكني اسألك لماذا يا زهير رغبت في الذهاب مبكرا ً ؟ كلنا نحبك لدماثتك ولطفك وخصوصا ً لنزاهتك.
نشرتَ 14 ديوانا ً ولم تكن يوما ً ملحاحا ً لدى الصحفيين من أجل الكتابة عنك. كنت واقعيا ً ورصينا ً في هذا الموضوع، وأذكر يوم الخميس، أي قبل موتك بيوم واحد، ومن دون أي سبب ولا مقدمة، قلت لي وكأنك تريد التأكيد على ما نشعر به جميعنا إن “الإعلام سطحي وغير مجدي. كل هذا هراء وما يبقى هو الكتاب الجيّد”. هذه كانت يا زهير كلماتك الأخيرة لي وللعالم أجمع ربما. أنت لم تؤمن يوما ً بالبهورات الصحفية، وأنت كتبت في الصحف مدى سنوات وإسهاماتك لا تحصى، لكنك كتبتَ بعيدا ً عن المنفعية التي نعرفها وتعرفها.
كنت يا زهير تنظر بموضوعية إلى الكتب وأصحابها، كنت تميّز وتغربل بجدية وتواضع وقلة إدعاء، كنت مثقفا ً من أجل الثقافة لا من أجل تفاهات أخرى لا علاقة لها بالثقافة. كنت غزيرا ً في الشعر كما في الرسم والمقالة، وما قمت به بمثابة إنجاز كبير لكنك غادرت باكرا ً جدا ً. كان عليك أن تبقى في شوارع بيروت، تنظر إلينا بدفء ولطف كلما التقيناك، ولم تكن سوى صادق مع نفسك ومع الجميع. لا أزال أراك جالسا ً في زاوية في الكافيه دو باري قبل اندحاره، لا تزال صورتك محفورة هناك، كل صباح، مع بقية الشباب والأصدقاء، يا للحزن يا زهير، يا للحزن على أناس أنقياء عندما يتركوننا لتبقى أمكنتهم شاغرة إلى ما لا نهاية.
مساء الخميس قلت لك “ينعاد عليك”، وأنا متيقنة من أنه سينعاد عليك. لم يمكنني طبعا ً أن أتصور أنه لن ينعاد عليك أبدا ً يا زهير.
زهير غانم: ذهب إلى موته
حسين بن حمزة
هو أحد شعراء السبعينيات في سوريا، لكنه لم يواكب التغيّرات التي لحقت بقصيدة السبعينيات نفسها. ظلّ زهير غانم (1949) ـــــ الذي ووري في الثرى منذ يومين في مسقط رأسه بسنادا في اللاذقية ـــــ ميّالاً إلى طبائع التفعيلة. في وقت ذهب فيه معظم مجايليه، ومن جاء بعدهم، إلى قصيدة سردية متخفّفة من البلاغات المعجمية والتهويلات الوجودية، ومحتفية بمشهديات الحياة الواقعية. الشاعر الذي أطلّ بمجموعة «أعود الآن من موتي» (1978)، أظهر صلات قوية بتراث القصيدة الإيقاعية وتجاربها المتعددة، وحاور ـــــ وإن بخفر ـــــ بدايات المنعطف الذي صنعته بواكير عدد من شعراء نهاية السبعينيات في سوريا. تجربة غانم ابنة زمنين شعريين.
لم تنقطع قصيدته عن الغَرف من تجارب الجيل الستيني. بقيت حائرة في البدايات، قبل أن تتواصل بنبرة وحساسية مختلفة عن أقرانه. ولعلّ إقامته الطويلة في بيروت، جعلت المسافة بينه وبين جيله تتّسع. هكذا، راحت قصيدته تتشابه مع نفسها، وتبتعد عن الطرق الجانبية التي سلكتها التجارب اللاحقة. في الحالتين، عاش صاحب «مدائح الأشجار» على الهامش، مكتفياً بحياة قليلة وشاقّة يتقاسمها مع أصدقاء الجريدة والمقهى والحانة. إلى جانب الشعر، كان زهير رساماً وصحافياً مواظباً. أقام معارض عديدة. كتب مئات المتابعات النقدية لمعارض تشكيلية، ولم ينقطع عن مجاراة ما يحدث في حركة الإصدارات الشعرية والروائية.
في ديوانه الأخير «عبير الغيوم»، كتب: «هذا زمن الموت الذي لا موت فيه/ غير موتٍ عابرٍ فينا وفي ليل المدينة (..) كنت ميتاً فاخراً وتلوتُ الفاتحة/ فوق روحي وأرحتُ القدمين/ من مشاويري وتربيعي لهذي الدائرة». كأنّ الشاعر الذي بدأ مسيرته بموتٍ افتراضي، راح يكتب غيابه الحقيقي ببروفات شعرية مبكرة. الموت ـــــ وكذلك الحب ــــ كانا المفردتَين الأكثر حضوراً في دواوينه الأخيرة. في ديوان «مياه المرايا»، قرأنا: «ما الذي أحتاجه حتى أموتَ/ غير حبٍّ لا أراه/ لهفتي فيه/ وأحيا في صداه». وفي مكان آخر، كتب: «أُساكنُ جثتي».
لم يُخفِ زهير غانم مرارته وخيبته اللتين تتناهيان إلى القارئ، وإلينا نحن الذين عرفنا صحبته وحضوره الخافت والموارب. كأن الشاعر الذي «عاد من موته»، أكمل «تربيع الدائرة» وذهب إلى «جهة الشعر» التي جاء منها.
الأخبار
زهير.. ونوارس الشمال
صفوان حيدر
ما الذي ستقوله النوارس للأسماك، والرياح لقمم الجبال، والأمطار لشوارع بيروت ومقاهيها، بعد رحيلك يا زهير؟! أحقاً، أخفيت عنا آلامك وأوجـاعك طــوال ثلاثة أيام، انسجاماً مع ثباتك على الألم، وقدرتك على الاحتمال، حتى عرفنا أنك دخلت دهليز الموت الأخير بعدما قلت لنا على التلفون: ـ أنا تعبان! كأن هذه الجملة خرجت من شفــتيك عنوة ورغم كبريائك ورغم جبروت احتمالك الأحزان والآلام التي عشتها معنا، وعشناها معك طوال ثلاثين عاما مضت، كنت فيها الشاهد والشهيد، الكاتب والكتاب، والشارح والناقد لعشرات المعارض واللوحات.. ومع من سيتشاجر عصام العبدالله حول نظريات علم الجـمال بعد غيابك؟ ومع من سيتشاجر حسـن عبد الله حول فقه اللغة وأسرار الصرف والنحــو والبلاغة بعد غيابك؟ وإلى فم مَن ستعطي خيرات الزين بونبونتها بعدما ننتحب قائلين: أواه يا ماما خيرات؟… وما الذي سأقوله للصديقة هدى في باريس مخففا أحزانها. هل سأقول لها إن زهير غادرنا وحيداً وفقيراً ومهمشاً.
ونحن اليتامى، شبان مقهى الروضة المسنين ما الذي سنفعله بالكرسي الذي كنت تجلس عليه بيننا كل ظهيرة. هل نترك عليه شالك الباريسي الأسود ومحفظتك الجلدية الممتلئة بالقصائد والمقالات وتصاميم الأغلفة لكتب ما زلنا نتنافس على إصدارها ونشرها، كأنما مراهقاتنا الأدبية فتـية دائماً ولا تهرم ولا تشيخ…
لم يرحل زهير غانم إلى اللاذقية بل سيبقى جالساً في مقهى الروضة، فأمواج بيروت هي نفسها أمواج اللاذقية وأوغاريت، ونوارس بيروت المتجهة جنوباً إلى صيدون وصور ستعود في كل أيلول، إلى أمواج اللاذقية وأوغاريت، وسنلتقي بزهير غانم في شارع الحمراء.
زهير غانم كَتَبَ قصيدته بريشةِ الرسّام
عابد اسماعيل
من بين شعراء السبعينات في سورية، يُعتبر الشاعر زهير غانم الذي رحل قبل أيام في بيروت عن 61 عاماً، الأكثر وفاءً لجماليات العبارة الشعرية، والأكثر حرصاً على أناقتها اللفظية والبيانية والمجازية، والأقلّ انشغالاً بتجريبية النصّ واستراتيجيات بنائه أو هدمه. وعلى النقيض من شعراء جيله، كعادل محمود، ومنذر المصري، وبندر عبدالحميد، وسهيل إبراهيم، وفؤاد كحل، وعماد جنيدي، وسواهم، ممن طغت على قصائدهم النزعة التجريبية، والاهتمام بشعرية الزائل والعابر والمجاني، والرغبة في كسر الأشكال التعبيرية السائدة، أراد زهير غانم أن يقارب القصيدة بوصفها لوحةً تشكيلية مكتملة، تقومُ في جوهرها على فسيفساء متقنة من الرّموز والصور والاستعارات، يتناغمُ فيها الشّكل مع المضمون، في وحدةٍ عضوية كلاسيكية، يمدّها إيقاع التفعيلة بثراء غنائي وموسيقي لافت، هو الفنّان والناقد التشكيلي أيضاً، الذي يرى في القصيدة لوحةً لغوية ناطقةً، متكاملة العناصر، ويرى في الرّسم شعراً صامتاً لا حدود له.
وبين اللّوحة، التي دأب على رسمها كفنان تشكيلي، والقصيدة التي واظب على كتابتها كشاعر، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، توزّعت عاطفته الشعرية، وتنوّعت مواضيعه وهمومه، وتطوّر أسلوبه، بدءاً من ديوانه الأول «أعودُ الآن من موتي» (1978)، الذي ينوء بأصداء غنائية ملحمية متأخّرة، متأتية من تأثره المبكّر برموز الانبعاث التمّوزية، التي كانت سائدة في حقبة الستينات، مع شعراء من أمثال خليل حاوي وممدوح عدوان ومحمد عمران، وانتهاءً بديوانه الأخير «عبيرُ الغيوم» (2010)، الذي يكشف عن نزوع صريح باتجاه كتابة الومضة القصيرة، المكثفة، التي تستثمر اللقطة الشعرية الخاطفة. وإذا كان شعراء السبعينات، في سورية، قد سعوا إلى إحداث انقلاب على شعرية الرؤيا التي كان يمثّلها أدونيس، بانحيازهم إلى شعرية التفاصيل أو الشفوية العارية، المتكئة إلى الحسّي والملموس والمرئي، مستلهمين جماليات القصيدة الماغوطية، فإنّ زهير غانم، إلى جانب قلة من أبناء جيله، كسليم بركات ونزيه أبو عفش ومحمود السيد، على اختلاف أسلوب كل منهم، آثر الابتعاد من الرؤيا الميتافيزيقية المحضة أو الاستسلام لإغراء الشّفوية المتخفّفة من البلاغة والمجاز، مفضّلاً خلق توازن تعبيري بينهما، فقصيدته تطير بجناحين هما التجريد والحسّية، على السواء. فالشاعر لم يتخلّ عن شغفه بالتشكيل اللّوني والإيقاعي والأسلوبي، مع دأبه على استدراج الطبيعة إلى شعره، من خلال وصف عناصرها وألوانها وإيقاعاتها، حتى في أكثر قصائده اتكاءً على الخطابية الهجائية. فالقصيدة لدى زهير غانم مزيجٌ مركّب من الرؤيا القائمة على الوعي الحدسي للعالم، وعلى الاحتفال البصري بالمرئيات، وهي قصيدة تتشكّل في البرزخ الفاصل بين فضاء التأمّل الذّاتي وحيادية الوصف الحسّي. من هنا فرادته كشاعرٍ ورسّام، يجيدُ حقّاً الرّسمَ بالكلمات، وإضفاء فصاحةٍ نادرة على جملته الشعرية، الموزونة إيقاعاً ومجازاً، كما هو حال لوحته، التي لا تقلّ رهافةً وانسجاماً.
وإذا كان أفلاطون في جمهوريته الفاضلة قد وجد تماهياً بين الشّاعر والرّسام، في ابتعاد كلّ منهما عما سماه الحقيقة العليا، وسقوطهما، بالتالي، في فخّ المحاكاة، فإنّ زهير غانم، في دواوينه الأربعة عشر، ومنها «التخوم» 1979، و «الشاهد» 1985، و «أحوال الشّخص المتباعد» 1989، و «جهة الضباب» 1992، و «مجرة الرغبات» 1999، و «شمس منتصف الليل» 2004، حاول أن يكون أفلاطونياً بامتياز، محاولاً جَسر الهوّة بين صوت الشّاعر وصوت الرّسام في داخله، متكئاً على حلمه وحده، وعلى ولعه في استدراج الرؤى والطيوف، والألوان، ممسكاً بالقلم كريشة أو بالريشة كقلم، نسجاً على منوال شعراء رسّامين معروفين، عرفوا كيف يزاوجون بين التركيب اللّغوي والتشكيل البصري، مثل وليام بليك وجبران خليل جبران، وسواهما. من هنا، قد تكون لوحة غانم الرسّام بمثابة القصيدة التي لم يكتبها الشاعر أبداً، والتي سعى، طوال حياته، إلى تدوينها، تارةً بالاتكاء على طاقة الصّمت، وطوراً باستثمار طاقة الكلام. وبين اللّون والحرف، كان لزاماً على الشاعر أن يلملم شظايا روحه، ويعيد تركيب صورته، مدمناً على اللّعب الفنّي، ومطاردة الصور والاستعارات والرموز، هو المتمكّن من اللّغة العربية، نحواً وصرفاً وقواعد، والحائز شهادة الليسانس في الأدب العربي من جامعة دمشق عام 1971. وحتى عندما يكون في أحلك لحظات قلقه، مفتوناً بصراعاته الداخلية، لم يكن غانم ليهمل شغفه بالتجريد، ناقلاً الفكرة إلى مستوىً تعبيري آخر، أعلى وأسمى، كما يوحي عنوان قصيدته «محاولة لتربيع دمشق الدائرة»، حيث يستثمر طاقةَ التحويل الشعري، وينظر إلى المشهد بعين الرّائي والرّسام معاً: «حتى الماء من بردى/ غدا حجراً يرن… وطحلبا/ والبرقُ أصبح خلّبا…». هذا النزوع إلى التجريد، المتأتي من موهبة الشاعر التشكيلية، نصادفه أيضاً في قصيدة «بيروت»، من ديوانه «جهة الضباب»، التي يسعى فيها غانم إلى رسم صورة أخرى لبيروت المكان، راصداً تلك الإشارات والبروق التي ترسم وجه مدينة أحبّها الشاعر، في السّراء والضّراء، وساهمت في تشكيل وعيه الجمالي والشعري على مدى ثلاثين عاماً: «جئتُ المدينةَ مثقلاً بهواي، رأيتُ أنّي في دجى الملكوت، أطرحُ ضيمَ أسئلتي، وأغفو تارةً، فلعلّ أغنيةً تجيءُ من الغمائم، تنفضُ الأركان والأسرارَ، تفتحُ في ضميرِ الماءِ ركناً للنّدى والزّهر، تفتحُ للرّبيع الدارَ، تجلبُ من سماء الموتِ سرب حمائم يهدلن في الأعراس». من الواضح أن المدينة، بشوارعها وناسها وأرصفتها ومقاهيها، تغيبُ كحالة حسّية، لكنها تحضر كلوحة تعبيرية خلاّبة، متحوّلةً في القصيدة إلى فيضٍ من الصور المتلاحقة، التي تبعثرُ وهجها في فراغ الصفحة.
وحتى عندما يتحدّث الشاعر عن الحبيبة، التي تحتل حيّزاً مركزياً في معظم قصائده، نجده مفطوراً على التجريد، وعلى تكثيف الإحالة واستثمار آليات التحويل والمونتاج والتلوين، فالحبيبة تنسحب كجسد، وتحضرُ كسراب يسكنُ فضاء اللوحة، كما في هذه القصيدة من ديوانه «شمس منتصف اللّيل»: «لكنْ أنتِ فوقَ الحبّ في لغتي، وأنتِ فصولي الخضراءَ، في هذا اليباسِ المرّ، لماذا لمْ أكنْ في حلمكِ الفنّي موسيقى… ولا شبحاً يخالطُ فَجْرَكِ المجنونَ في اللّوحاتِ، ألواناً على ضوءِ الشّموعِ». هذا الوجه الذي يتجاوز أنا الشاعر، ويتجاوز لغته، بل يتخطى الحبّ ذاته، معانقاً دورة الفصول، ومتسلّلاً إلى الحلم مثل فجرٍ يسكن اللّوحات، يكشفُ بوضوح عن إدمان الشاعر على النحت الفنّي، وعلى تنقية القصيدة من شوائب الفجاجة والمباشرة والمجّانية. كأنّ حياته المهنية كمحرّر ثقافي وأدبي، في أكثر من مجلة وجريدة في بيروت مثل «الناقد» و «النهار» و «الديار» و «اللواء»… وسواها، لم تزده إلاّ تمسكاً بعبارته البليغة، الملوّنة، المصقولة بعناية فائقة.
هذا الشاعر العاشق للفضاء العام، والمدمن على صخب المقاهي في شارع الحمراء، في بيروت، وعلى انتظار الأصدقاء، يوماً وراء يوم، ظلّ متمسكاً بفضائه الخاصّ كشاعر وفنّان تشكيلي، فبيروت المكان، في يومياتها وأحزانها وأفراحها، لا تفتأ تتحوّل في شعره إلى وهجٍ دافقٍ من الصّور والألوان والرؤى، حتى أن الصورة تصبح أكثر أهمية من الفكرة، وينداحُ المعنى الشعري، ويفيض على ضفاف اللغة، أو حوافّ اللّوحة، متخلّياً عن مركزيته المتوهّمة: «رأيتُ بيروتَ… تنهبُ الأمواجَ، تنهدُ كالنّدى والزيزفون، وتشرئبّ كما البتولا، آهةً بيضاء، يشهقُها الخواء، فتستحيلُ إلى انفجارٍ يرتدي هوسَ الزمان». بيروت، هذه المدينة المطلة على البحر، التي احتضنت الشّاعر، مثلما احتضنها، وأحبّته مثلما أحبّها، سترافقه إلى مثواه الأخير المطلّ على البحر ذاته، في قريته بسنادا في اللاّذقية، وستنبتُ في قصيدتِه زهرةً بيضاء لا تذبلُ أبداً.
«زهير غانم».. صديقاً إلى الأبد
بلال شراره
(قبل ان يضع ألوانه في بيت النار)
(قبل ان يستل ريشته ويمضي على خيله إلى ليله)
قبل ان يغلق لوحات معرضه الأخير:
«الوداع الأخير»
قبل ان يتهيأ للذهاب إلى موعد لقائه مع الشاعر جوزيف حرب ليسجل شهادته عن الوطن والشعر والحب.
قبل ان يعيد ترتيب مشهد نهاره مع الفنان التشكيلي فوزي بعلبكي.
قبل ذلك بخفقه لفظ «زهير غانم» أنفاس قصيدته الأخيرة عندما أصابته نوبة شعرية متوحشة في صدره جعلت قلبه ينفتئ ويمضي سريعاً إلى أحضان اللاذقية ووالدته ياسمين.
في لحظة الذبحة القلبية الشديدة التي زلزلت جسده انتبهنا ان «زهير غانم» يحتاج إلى استثناء كبير يمكنه من الاستشفاء على حساب وزارة الصحة وهذا الأمر أجازه وزير الصحة كرامة للشعر، ولكن الواقع الأليم ان «زهير غانم» عاش في لبنان شاعراً وفناناً تشكيلياً وناقداً حتى الموت دون ضمان صحي أو اجتماعي.
قبل أن نعود ونسلك الطريق إلى مغامرة ثقافية جديدة عبر «مقاربات» كان «زهير» عاتباً وليس حزيناً لأننا تأخرنا في نشر غسيل ألواننا ونصوصنا وأنغامنا في مطبوعة وتحدي موت الصحافة الورقية واثبات اننا نستطيع ان نمكِّن المبدعين من الصوت والصدى والضوء والظل في مكان أقوى من الموت.
يوم 30/12/2010 دخل «زهير غانم» «مستشفى الساحل» وكان لازال فيه نبض وفي اللحظات الأخيرة والعام السابق يلفظ أنفاسه سلكت روح «زهير غانم» الطريق إلى سورية ورفلت عبر أمكنة الجنوب التي أحبها: «صيدا وصور وبنت جبيل صعوداً إلى الجولان ونزولاً إلى حوران وتوقفت قليلاً في دمشق لتفرغ رئتيها من الماء وتملأهما بعطر الياسمين ثم تلقي نظرة أخيرة على قاسيون وتغادره إلى الساحل مروراً بحمص وصولاً إلى طرطوس وبسناده ـ اللاذقية.
غادر «زهير غانم» بيروت التي أحبها من القلب وافتتن بها وعشقها حتى الموت.
غادرنا «زهير» وفي يده العدد السنوي من «مقاربات» الذي اشتغله من الغلاف إلى الغلاف وحمله بفرح وقد حققنا فيه إنجاز مجلة للثقافة العربية فيها خلاصة صبرنا المعتق وخميرة أفكارنا وحقيقتنا الناضجة كفاكهة العقيدة.
الآن انتبهنا ان العمر ينتهي والقصيدة لا تنتهي.
ولكن ما نكثر الانتباه إليه الآن هو أنك كنت تعرفنا واحداً واحداً. تعرف من حيث أتينا والى حيث نذهب، تسألنا عن جديدنا وعن أولادنا، تفلفش ذاكرتنا، تجالسنا وتنعسنا وتغادرنا دون ان ننتبه إلى أين..؟
الآن انتبهنا أنك تغادرنا إلى الآن إلى «بسناده» في اللاذقية وقد استودعت بيروت كل نساء القصائد وكل الشبابيك المفتوحة على الفراغ وكل الشاطئ الذي غادره البحر إلى مغيب شمسك.
وحدك يا صديقي تستحق أحزاني التي تشبه أحزان والد «هيكتور» الذي جاور جسد ابنه المقتول المسجى فوق عربة الليو.
الآن أودعك باسم الزملاء الذين آخيتهم في «التصدي» و»العواصف» و»اللواء» و»مقاربات».
أودعك باسم الذين يعرفون قدومك من وقع خطوات قلمك على الورق..
وأودعك باسم الذين سوف لا ينتبهون كالعادة إلى غياب الحضور عن مقاعد الشعر والمقاهي من «الروضة» إلى «السيتي كافيه».
أودعك باسم الأيام الخوالي والأيام المقبلة حيث ستبقى صديقاً إلى الأبد.
آلـو زهيـر
قاسم قاسم
آلو زهير: أين أنت؟
: في اللاذقية
: إنما مضى أربعة أيام
: رحلت نهائياً، ولن أعود إلى بيروت
: لا أصدق، أهذه مزحة!
: لا، لا يا صديقي
: إذاً صارحني
: لن أخبرك المزيد
ولمن تترك شارع الحمراء، ومقاهيه، والروضة، والسيتي كافيه، والسباحة في عز الشتاء، ومعارض الرسم التي توحّدت معها، وجريدة اللواء، ومقالاتك اليومية في الفن التشكيلي، ومشاحنتك مع الياس العطروني، ومجلة مقاربات التي بدأت بتحريرها هل ستتركها أيضاً؟ سيزعل منك بلال شرارة، وأصدقاء العمر في المقهى هل أخبرتهم بقرارك المفاجئ؟
مع من سيشتبك الطبيب محمد شهاب الدين، وعصام العبد الله، ماذا يفعل عندما لا يراك يومياً، مع من سيتحدث ويعلو صوته؟ والمير طارق ناصر الدين وعلي سرور كيف نصالحك معهما، وشوقي بزيع وجودت فخر الدين ألا تريد لقلمك ان يبين جمالية نصيهما، وحسن العبد الله من يقف معه في طروحاته، هل تبقى خيرات الزين وحدها وهي لم تتعب من ألمك، وغادة المسافرة هل تعلم أنك أقفلت الخط، وفوزي بعلبكي من سيشاكسه في الفن، وصالح كيف سيتصرف، والشحرور، هل سيغرد عندما يعلم بعودتك وعلوية صبح ألن تحزن وأنت المبادر الأول إلى قراءة أعمالها، وعلي نصار الذي سيصدر ديواناً شعرياً هل أتاك الخبر؟
يا صديقي، أرجوك، ألا ترى ان غيابك مؤلم، للكتاب والشعراء والفنانين الذين حبّرت بإبداعهم مئات المقالات، حتى باتت غرفتك تضيء بنور قلبك.
يا صاحب القلم الكريم، حضورك على مدى أعوام لا ينسى بلحظة يا صديقي، مساء سنسير معاً في شارع الحمراء، نتدفأ بعيون الصبايا، نشعل قلوبنا بألوان مضيئة كروحك التي ترفرف في سمائنا، وداعاً يا صديقي الاسبرطي.
حقاً عاش
عباس بيضون
كنت أتفقد بالتلفون أصدقاء بعد ظهر العيد أو يتفقدونني بالطريقة ذاتها. خرجت من الجولة بخبرين محزنين: وفاة ابن صديق، شاب، ورحيل زهير غانم. يكفيني خبران هكذا. لم أكمل الجولة. حين وصل زهير غانم إلى بيروت قبل عدد غير محدود من السنوات بقي كما جاء. لهجته وطبعه وربما ملابسه كما كانت. لم يكن في هذه كلها ذرة من عصبية. ظل زهير السوري لكنه صار لبنانياً وبيروتياً بالبساطة نفسها، كان بينه وبين بيروت مساحة من اللغة ومساحة الفن ومساحة من العيش ولم يأتها زائراً بل جاء ليبقى وبقي في صحفها ومجالسها ومقاهيها إلى حمل أصدقاء من هذا البلد جسده الهامد إلى مسقط رأسه في سوريا. كان دائماً مع «الشباب» في الكافيه دو باري وانتقل مع «الشباب» إلى ليناس والسيتي كافيه والروضة. كان، دائماً ضمن عائلته اللبنانية وأحرص الجميع على أن يكون ضمنها وأول القادمين إلى اجتماعاتها. واليوم لا أعرف كيف ستكون من دونه وكيف يمكن أن ينعقد مجلس في غيابه وكيف يلتئم اجتماع من غير حضوره؟ ستجتمع «العائلة» على غيابه كما اجتمعت في حضوره، سيكون غيابه أول الوافدين وسيبقى في المجلس فجوة وانقطاع وسيعلم الجميع انهما محله ومكانه. سيعود بالبساطة ذاتها التي حضر بها. لن يعود شبحاً ولا حتى ذكرى. سيكون هنا بجسده الغائب وصوته المختفي. سيكون بطيبته وهدوئه وصبره، بل وبشعره ورسمه أيضا. سينتقل مع «العائلة» من الروضة إلى السيتي كافيه. الموت يربح أخيراً لكن الحياة تمانع. الصداقة تمانع، الصداقة المكسورة وهي الحب المكسور أكثر حضوراً في انكسارها. بل لا تتوهج بقدر ما تتوهج لحظة الانكسار. زهير، الذي رحيله صدع في القلب. صدع في طمأنينة اللقاء وفي أنسه. سيقول الجميع انه عاش، ويشهد الجميع انه عاش. الرجل الذي فنه الصداقة وربما مهنته. سيتألم الجميع لأن صداقتهم لم تسعفه وانه انخطف من بين ايديهم وخفية عنهم، وان واجبهم وربما طقسهم من الآن ان يبعدوا النسيان. داوم زهير على الحضور حتى كأن غيابه «سيبدو أكذوبة أو ان الحضور في غيابه سيكون ناقصاً. كان أحرص الناس على «العائلة» فكيف ستكون من دونه؟ ستكون من أجله وعلى اسمه، سينعقد ولو مجلس للحزن. سيحمل كأس اسمه، سيُكسر كأس على اسمه. سيقال عندئذ ان هذا تكريم الحياة قبل ان تغادر. تكريم الحياة بعد أن تغادر.
تحية الى زهير غانم
فيديل سبيتي
قال لي حين التقيته قبل أيام عدة في ساعة متأخرة من ليل شارع الحمراء: “أنتم الشباب ما زلتم، ولا بد، تتمتعون بطعم السهر”. بدا متعباً فيما يسند جسده الى الجدار ليلقي عليّ التحية الليلية، التي جعلته مبتسماً ربما لأنه التقى بشخص ما قد يحادثه، ولو لهنيهة، في محادثة سريعة حول مجموعة شعرية صدرت حديثاً او حول مفهوم النقد الشعري او في أي موضوع قد يخطر بباله في تلك اللحظة. قلت له: “ما زلت شاباً يا زهير. وأنت أكثرنا سهراً”.
بدا متعباً بينما يلقي جسده على الجدار ليكمل هذه المحادثة السريعة. قلت ربما يكون الوقت المتأخر وسهرة ليلية في حانة ما أو ربما نقاش حاد مع أحد أقرانه أو “أعدقائه” قد أتعبه وأرهقه.
قال مكملاً الحديث: “أقرانك الشعراء الشباب لم يثلجوا صدرنا هذه السنة بمجموعة شعرية عليها القدر والقيمة”. هكذا، بسخرية عالية من الذين أصدروا مجموعات شعرية من الشباب هذه السنة، وبسخرية من فكرة “الشعراء الشباب” نفسها. هكذا، بعينين لامعتين متعبتين وفم مفتور على بسمة ساخرة صفراوية. كان متعباً، ولكن السخرية التي في قلبه وعينيه مستيقظة حتماً. قلت له ساخراً أيضاً: “أي فتى ما زال يحبو شعرياً من جيل الشباب، يكتب أحسن من أفضلكم حين كان شاباً”. رفع ضحكة عالية، ألقى التحية وراح يكمل مسيره نحو… الموت.
في اليوم التالي اتصل فادي ناصر الدين ينبئني بالخبر المشؤوم: “لقد مات زهير غانم وها هم أصدقاؤه المقرّبون ينقلون جثمانه الى اللاذقية”.
صدمة حياة وصدمة موت في هذه الجملة. قبل ان أستوعب ان زهير قد مات، أعدته سريعا الى ذاكرتي مذ تعرفت اليه في إحدى الأمسيات الشعرية في “جدل بيزنطي” قبل خمس سنوات أو ست. قبل أن أتفرغ الى خبر موته، تفرغت الى خبر كونه من اللاذقية. لقد اعتقدته بيروتياً، لنقل “حمراويا”، نسبةً الى شارع الحمراء. رأيت في مقالاته النقدية في “اللواء”، وفي مجموعاته الشعرية، وفي لوحاته، هذا المكان، هنا بيروت، وتحديداً رأسها. ولكنه من اللاذقية. اذاً، كان يتقن دوره في الانتماء الى المنفى. اذاً، طوال ذلك الوقت كنت أتسكع مع أحد الذين نفوا أنفسهم الى بيروت فأصابهم عشقها بالشلل، فقرروا انتظار الموت فيها! كل ذلك الوقت، كنت أتسكع مع صعلوك طردته القبيلة أو طرد نفسه منها فأضحى جزءاً من المكان الجديد وكأنه منه أصلاً، لا تؤرقه مقولة “المنفى” السخيفة، ولا مقولات الغربة والترحال والذاكرة الأسخف!
تباً لهذا الحظ، أن تعيد الى الحياة ميتاً في لحظة علمك بموته.
اختلفنا كثيراً حول بيت المتنبي “على قلق كأن الريح تحتي/ أسيّرها يمينا وشمالا”. كنت أفضل “قلق” بفتح اللام. كان يقول إن المتنبي لن يكون غبياً الى درجة تجعله يفتح اللام، بل لا بد سيكسرها، لأن صفة القلق يمنحها لحصانه، أي أنه “على حصان قلق”، وكأنه ينقل أحاسيسه من جسده الى جسد الحصان، فيصبحان جسداً واحداً: الفارس وحصانه بجهاز عصبي واحد. وكان يقول إن الشاعر قلق هنا لأنه لا يستقر في مكان ولا على حال، وكأن كل العالم لا يتسع له، وكأن ما يفتقده أمر لا يعرفه ولن يعرفه، فهذا ما يجعل منه شاعراً. كان يشرح المتنبي بحسب ما يرى نفسه هو. بالطبع، كنت في النهاية أوافقه الرأي، فهو الشاعر وهو ناقد الشعر وهو المنفيّ وهو القلق. لكن حصانه أخذه هذه المرة الى هناك. الى محل كان موجوداً دائماً في لوحاته التي رسمها حين كان يبدّل القلم بالريشة.
حصان الموت أخذ جسده. الآن، موته بات كقلق المتنبي. ولكن أي حصان يمكنه أن يفرغ كرسيّه في شارع الحمراء، من روحه؟ ¶
ذكـراك التـي تهـب مثـل ريـحٍ بـلا ذئـاب
شوقي بزيع
إذن هو الموت يا زهير. الموت الصاعق الذي يضرب دفعة واحدة وبلا مقدمات. الموت الرحيم الذي لا يريد لضحيته أن تتآكل في فراشها ببطء او أن تتضاءل بالتدريج بين نظرات المشفقين ومباضع الأطباء. فمن كان بمثل صلابتك لا يطاله الموت الا بقلم مباغت في القلب أو بطعنة في الظهر تشبه الاغتيال.
إنه الموت يا زهير غانم الذي لم يكن أبداً في حسبانك ولم يكن مبرمجا في جدول يومياتك، وكيف لك أن تفعل ذلك وأنت المتوثب أبدا كالنمر في أدغال التهيؤات، والموشح بسمرة القراصنة وهم يبحثون عن طرائدهم في أعالي البحار وفي لمعان النحاس الذي لا يصدأ. أنت الأعزل من كل شيء الا من الشعر، فيما الشهوات تعول في بؤبؤي عينيك مثل ريح بلا ذئاب. أما وسامتك الرجولية البادية في ملامحك وتغضنات وجهك فكانت موزعة بالتساوي بين أغمار الحنطة وتلحظ الشبق في عيون النساء الجائعات إلى الحب. ولأنك كذلك فقد زينت لك نفسك أن تهيم على وجه العالم مثل «زكريا المرسنلي» في روايات حنا مينة، محولا روحك إلى عاصفة وجسدك إلى شراع.
لم يكن غريباً إذاً ان تختار بيروت من بين جميع المدن موطئاً لقدميك وميناء لقلبك الرجراج كسفينة بلا هدف. ولأنها المدينة التي تضارعك في الشهوة وتضاهيك في الصبر على الألم أشحت بوجهك عن نحيب الزيتون في جلول «بسنادا»، منحدراً من جبال العلويين التي تسند ظهر الشاطئ السوري، مقايضاً بهواء بيروت الجارح طفولتك وأهلك ومرابع صباك ومنحازاً بكامل تشردك إلى حرية باهظة الثمن إلى حد الارهاق. ولم تكن في الحقيقة تنحاز إلا إلى قصيدتك التي راحت تفور كاللهب في عروق المدينة او تسيل كالينابيع فوق أرصفتها الخائرة من التعب. صحيح ان كتاباً وشعراء عرباً كثيرين شــاطروك تلك التجربة الفريدة قبل ثلاثين عام وأن كثراً غيرك جاءوا لشحذ قصائدهم ولوحاتهم على سكـــاكين الألم ولكن السفن التي حملتهم بعد ذلك على ظهورها كانت خالية منـــك. فبيروت لم تكن بالنسبة لك نزلاً مؤقتاً او شقة مفروشة او محطة عابرة على طريق الفقدان بل كانت الملاذ والحبيبة والمأوى وملاذ أنفاسك الأخير.
ثلاثون عاماً مضت وأنت تجوب المدينة بقامة مستلة من الفولاذ وعينين زائفتين باتجاه المجهول، وتذرع مثل باعة اليانصيب أرصفة هدها التعب، وشوارع لم تكن رحيمة بك، ومكاتب صحف لم تعصمك مكافآتها القليلة من جوع ولم توفر لاقامتك سوى شقق بائسة مطلية بالكوابيس. غير ان كل ذلك لم يثنك عن اختيارك للمدينة التي أحببت والتي رأيت في مقاهي رصيفها الآهلة بالضحكات وجلسات النميمة البيضاء ما يعوضك عن شقائك المتعاظم وخساراتك المتراكمة. وكان لك مقعدك الدائم في جميع المقاهي التي أقفلت أبوابها في وجوهنا الواحد تلو الآخر بدءا من الاكسبرس والمودكا والويمبي والكافي دو باري وصولاً إلى مقهى الروضة حيث كان وما زال صديقك عصام العبدالله يدير مسرحه اليومي متنقلاً كالبدو الرحّل بين مضارب الكلمات. وفيما كنا نتراشق بالطرف والنكات ككرات الثلج كنت أنت تكتفي بالضحك وبعض المداخلات الخجولة والقصيرة. ورغم ان جعبتك كانت مليئة بسهام الذكاء اللماح فلم تكن تسدد نحو مجالسيك إلى رشقات من اللطف لا يتعدى وخزها ما يفعله شوك الورود في القاطفين.
لم ينتبه أحد يا زهير إلى الألم الذي يعتصر روحك. ربما لأننا لم نر فيك سوى صلابة في الجسد لم تكن تفسح لنا مجالا لرؤية الشقاء الذي كان ينخرك من الداخل. الشقاء المختبئ خلف صلابة الجسد الرياضي الذي طالما حسدناك عليه. الشقاء الذي كان يبري أحشاءك ويغلفها كالزجاج المطحون بسياج من الكرامة. أنت الذي ينزل إلى البحر في عز الشتاء مروضاً بجسده الفاتن هيجان الأمواج ونحن نرمقه بغبطة تقارب الحسد. والذي كان يمشي على يديه عشرات الأمتار فيما نحن نمشي على أقدامنا بتثاقل فاضح. أنت الذي لم يشك أبدا من وهن أو مرض أو صداع في الرأس، ولم يعرض أوجاعه على أحد فيما كدنا نحن نحول المقهى إلى مأوى للعجزة او عيادة دائمة يتعهدها برعايته كل من الطيبين محمد وهبي ومحمد شهاب الدين.
ولم ينتبه أحد يا زهير إلى كــرم لغتك المشــتعلة بالاستــعارات وإلى مقالاتك المحبة التي أغدقتها على الجميع من دون أن تنتظر تحية أو كلــمة عرفان. وكنت تصدر المجــموعة تلو الأخـــرى غير آبه بلا مبــالاتنا المريبة وإشاحة وجوهنا عن النهر الذي يتضور عطشاً إلى قطرة حب.
لم ننتبه يوماً إلى قصيدتك التي «تتصاهل» مع الخيول، وفق تعابيرك المترعة بالاشتقاقات. وحين كنا نأخذ عليك استسلامك المفرط لهيجان اللغة واندفاعها الجامح كنت تكتفي بنظرات العتاب المريرة وهي تتجمع كغيوم داكنة في سماء عينيك. ربما كانت اندفاعة لغتك الشعثاء لا تسمح لك بتنقية الزؤان المبعثر بين حقول الكتابة ولكننا تناسينا، عن عمد أو غير عمد، أن فوضى الغصون اليابسة لا تقلل أبداً من جمال الغابة وتناسقها الإجمالي. ولم ينتبه أحد منا إلى اللقى الثمينة التي تشع كالذهب في ثنايا المدينة التي أدماك حبها حتى الثمالة وأنت القائل «وتشهد هذي المدينة أني انتميت لها بعد جهد جهيد/ وما زلت أحسب خطوي على أرضها نعمة «تشبه الكارثة». ولا إلى غربتك المقيمة حتى الموت في عراء العالم حين قلت «وحدي أقول قصائدي بفم يموت/ وحدي كأن لا بيت لي/ لا أهل لي/ لا حب لي/ يغتالني هذا السكوت». ولا إلى صبرك التراجيدي على القهر والجوع. وانعدام اليقين الذي لا تنفك ألغازه إلا بخاتم الموت «أحيانا أجيد الشعر لكني أجيد الصبر أكثر/ ها هنا في القبر/ أعرف ما الذي يجري». ولم ننتبه لرثائك لنفسك وأنت تتخبط بين مستشفيات بيروت التي أخذك سحرها على حين غرة مختارا لجنازتك يوماً آخر غير ليلة السبت التي لفظت عند منتصفها آخر أنفاسك: «إذن مت/ والجنازة كانت كما قرر الراحلون نهار الخميس/ ولكن أضدادهم في الحنين ارتأوا أن تكون نهار الأحد/ وفي سحر بيروت يبقى لموتي شميم العطور التي لا تحد».
أخطأت حساب الأيام يا زهير ولم تخطئ حدسك بالموت. أما الجنازة فكانت من التواضع بما لا يليق بشاعر مثلك. وكما واكب جنازة بدر شاكر السياب أربعة فقط من أصدقائه المقربين الذين عبروا به من المستشفى الأميري في الكويت إلى مسقط رأسه في جيكور ذات شتاء غابر شاءت المصادفات ان يواكب جنازتك الخارجة من مستشفى رفيق الحريري الحكومي في بيروت أربعة مماثلون من أصدقائك هم بلال شرارة وخيرات الزين وعبير عربيد وكاتب هذه السطور. ومعنا ابنك الوحيد مهيار والفنان جمعة الناشف. ولم تكن الجنازة تسير الهوينا كما يليق بمهابة الجنائز بل كنا نتسابق مع النهار في شتاء غير ماطر لكي نقلّك إلى ضريحك مثل مغيب الشمس. ومع ذلك فلم يتح لنا الطريق الطويل وإجراءات الحدود الصارمة ان نصل إلى بسنادا الا بعد حلول الليل حيث لم يكن ينتظرنا عند الوصول إلى منزلك غير المكتمل سوى نفر صامتين من الأهل والأصدقاء. هناك لم يكن أحد ينبس ببنت شفة. لا عويل ولا بكاء باستثناء حشرجات مختنقة تصدر عن امرأة شبه مقعدة عرفنا أنها أختك. امرأة واحدة لم يثر بكاؤها النساء الأخريات، كما تمنى لنفسه مالك بن الريب، باستثناء النشيج المسموع لابنة أختك لجين الذي كان يصلنا عبر جهاز الهاتف الخلوي وهي تقطع الطريق الطويل من الحسكة، حيث تقيم، باتجاه بسنادا دون أن تستطيع الوصول في الوقت المناسب. وبعد أن غسلوك بسرعة ملحوظة وأدخلوك في رداء الموت الأبيض تركوا وجهك مكشوفاً لبضع دقائق لكي يتمكن من يشاء أن يلقي عليه النظرة الأخيرة. ومكننا للحظات حائرين بين أن نسدل ستار أعيننا على بهاء وجهك الأسمر كما ألفناه في الحياة وبين إلقاء النظرة الأخيرة على زرقته الرمادية المختنقة التي خطف منها الموت كل أثر للنضارة قبـــل ان نجازف بالخيار الثاني. بعد ذلك سرنا وراء الجنازة الخـــالية من الصــخب مئات قليلة من الأمتار وسط بيوت القرية الفقيرة وتحت ليل بلا أهلّة ولا نجوم.
انحدرت الجنازة الصامتة فوق طريق ترابية مليئة بالأحجار، ووسط الجلول المتدرجة المكسوة بأشجار الزيتون والزعرور والصبار كانت تتلألأ بعض المصابيح التي علّقها ذووك بين الأشجار لكي تضيء لهم الطريق إلى القبر ووريت الثرى يا زهير.
وحده قبرك المحفور تحت شجرة زيتون قديمة تدلت غصونها فوقك كقامات نساء ثاكلات كان يليق بك. ذلك القبر الذي تمنيته لنفسي والذي غبطتك عليه كان يطل على بحـــر اللاذقية المسربل بظـــلامه أســـفل المشهد متيحاً لك، لو أردت، أن تتلفت بالقلب باتجاه بيروت البعــيدة التي قلّ أن أحبها عاشق مثــلك والتي ستحتفظ بذكراك حتى زمن طويل.
زهير غانم عابثاً بالدجى
فوجئنا برحيل الشاعر السوري زهير غانم مع مطلع السنة الجديدة. الرجل الذي أمضى غير قليل من سنوات عمره متجولاً في بيروت، مقرّباً أنفاسه من سخونة قهوتها وشوارعها وأناسها وشعرائها وصداقاتها، كان له أن ينفخ آخر كمشة هواء في رئتيه، في أحد المستشفيات، عارياً من أي ضمان مادي أو صحي أو اجتماعي. هو الشعر ربما، الذي يبث كلماته كرذاذ سميك يخدِّر العينين، ويمنعهما من التحسب سوى للمخيلة، المعيشة بدلاً من الحياة. لم يرد زهير غانم سوى أن يمضي في الشعر والبحث تشكيلياً وأدبياً ومسرحياً قبل كل شيء. الكلمات لم تُطعمه خبزاً، ولم توفر له رعاية لازمة في الحد الأدنى لتشجيع قلبه المرهق على النبض. ولم يكن أمام أصدقائه سوى الصمت، والحزن، وأعمدة الصفحات. لكن، هل انتبهنا فعلا إلى غيابه، كشاعر وفنان؟ هل انتبهنا إلى قلبه المرهق وتشبثه بسنانير الكلمات؟ هل انتبهنا قبل موته إلى قصائده، وحبه لبيروت الإشكالية؟ هذه المدينة، التي أخفق الشعراء في تكريسها، تطل على الزمان مرةً واحدة فقط، وفي حالة من إثنتين: حرب، أو موت شاعر. ومع كل موت شاعر عربي عَبَرَ بيروت، تحضر هذه المدينة المتكثفة، وكأنها تمانع القبض على صورتها، وكأنها تسخر وتتملص من الظروف السياسية، فهي أكثر ديمومة، وأشد حرصا على غموضها، وهي محجة الجماليات، والديناميكيات والغياب. موت الشاعر قد يحفزنا للنظر في معادلة الموت والمخيلة، لكن حال موته في بيروت، تدفعنا للنظر داخل مثلث بيروت – الموت – المخيلة. من الذي يربح في آخر المطاف؟ لعلهم الشعراء. يحظون بقصيدة أخرى، ويخسرون رفقة. القصائد هي ما يتبقى، تقف منتصبة، مكثفة، وثقيلة كشواهد قبور الشعراء. لكن ما يبقى هي السلطة التي تختزن في الكلمات، والضحايا القلائل (محبو الشعر) الذين يجعلون من دواخلهم أرضاً تحتضن هذه السلطة، وتشرعنها. زهير غانم، شاعر يترك نقطة حبره الأخيرة، تحت ذيل علامة الإستفهام، في نهاية جملة تقلِّب الفن. شاعر يضاف اسمه إلى سجل ضحايا هذه التعويذة المسماة بيروت وزمنها الممطوط. ولربما أيقن ذلك منذ البداية حين كتب: “قد كان يكتبُ ما تعثّر/ كانَ يعبث بالدجى والهاوياتِ/ يفتت الأزمانْ/ كانَ هنا… وغابَ/ كأنه ما كانْ”.
م. م.
مازن معروف
لا نصدق
احمد بزون
نقصت الكأس التي تشربها المدينة كل يوم، ويشربها المقهى، وعيون القرّاء، وبات شارع الحمراء والشوارع المؤدية إلى غاليريات بيروت من دون خطوك. إنه ربع قرن ليس أقل، صارت أقدامك ختماًً، وانطبعت صورك على الواجهات الزجاجية، وتعوّد الهواء أنفاسك، وتعوّدنا أن تحزن لأن الجميع مقصرون بحقك، فالمدينة تأخذ من الجميع يا صاحبي، وتبدل جلدها كلما لمع بريق جديد.
ربع قرن من الكتابة في صحف بيروت، خصوصاً «اللواء»، التي لا يزال حبرك ينساب على صفحتها الثقافية. ربع قرن من الكتابة في صحف عربية أيضاً… ذرفتَ نهراً من الحبر، وغابة من الأوراق، وبحراً من الكلام، وزرعت أربع عشرة مجموعة من الشعر، وألوف المقالات، ولم تترك معرضاً تشكيلياً إلا أمعنت فيه تحليلاً، وزينته بقصائد نقدك.
أتعبتك بيروت، نعم. لكنك أنت القائل «وفي بيروت يرتاح الهوى». كنت تحلّق في المدينة بجناح أرهقه التعب وشجون الحياة وجناح يخفق دائماً بالحب. أتعبتك هذه المدينة المغوية، لذا لم تستطع فراقها بعينين مفتوحتين. كنت ذلك العاشق الذي تلوّعه المعشوقة ويقول «زيديني»، يملّ منها في المساء، ثم يستفيق صباحاً مشدوداً إلى حضنها.
كنت أكثر مثابرة من كل النقّاد الذين يتابعون المعارض التشكيلية من أبناء الوطن، تسبق الجميع، من دون أن تتسابق معهم، حريصاً ألا يفوتك ضوء لوحة أو إيماءة منحوتة. لم تدع فناناً يعتب عليك، ولا عملاً إلا علّقت قلمك عليه، ولا صالة إلا ملأتها بدورانك الصامت. وكم من الفنانين طبعوا كلامك في ألوانهم، ووجدوا في جملك زينة لكتبهم وكاتالوغات معارضهم، أو خزّنوا حبك لأيام آتية.
… ومع ذلك تقول بوجع طالما كررته في شعرك «ليس للموتى سوى الموتى». وقولك صحيح! لكن موتك لم يصلنا بعد، ولم يفرّ الدم من وجهك حتى نصدّق، ولا القهقهات غادرت آذاننا، ولا غسلْتَ زعلك من الأصدقاء تماماً، حتى إننا لم نودعك بعد، فمناديل الوداع ضاعت، وخطفوا جسدك في لحظة سهو، وما زالت إقامتك مفتوحة على البحر والبر. لم نقرأ الفاتحة، ولم نصدّق أنك صرت تمتلك شاهداً فوق رأسك، واسماً ورقماً كي يكون لك عنوانٌ جديد.
غداً، وكل صباح، عندما لا نجد مقالة لك في «اللواء» لن نصدق أنك حبستها في غرفتك، أو أنك لم تكتب، لن نصدق أنك نسيت الحبر. سوف نقرأ على زجاج الدمع ما لم نجده على جدار ورقة، نتذكر ما كتبته أمس، ونصدق أن حبره لا يزال طازجاً، بل نصدّق أن الحبر ينبض أيضاً.
زهير.. لا تصدق أنك متَّ، أو غادرت بيروت. لا تصدّق أن أحداً «سيولم جثتك للوقت والأسماك والغربان»، كما كنت تخشى أيام الحرب، أو أن الطرق التي كنت تهديها خطوك قد رحلت… لا تصدق أنك متّ، فأنت أرحت قدميك من تجوال يومي، وأسلمت أنفاسك لعتمة النوم، وما عدت تشقى بسماع أنين قلبك.
نم إذاً يا صاحبي.. غداً نقرأ مقالتك في فنجان قهوة، أو على جدار دمعة تحجرت في العين!
حسن جوني
يمرّ ببالي، زهير غانم، الناقد التشكيلي الآتي إلى مفاهيم اللوحة، من خلال تلمسه لمتاهات تطورها. لانه رسم ولوّن، وعرف كيف تتغلغل معاناة الفنان بالخطوط والألوان وصولاً إلى المشهدية المتكاملة..
يعني، ان زهير غانم، لم يكن ناقداً محايداً، بل هو عمليا ونظريا عرف كيف يواصل رغباته النقدية بما يفعل ويرى. رسم ولوّن كي يتذوق قبل هاجس الكتابة النقدية، وأدرك غريزة الفنان وامتثاله لرغباته الإبداعية ونبضها الجمالي.
كتب زهير غانم، بلغة عربية ذات نسيج مجسّم، دلتني لاحقاً على زهير الشاعر الممتلئة غنائيته بالشجن واضطراب المنفى وقلق المصير.
شاعريته التي تماهت وتقاطعت مع معرفته النقدية التشكيلية جعلت منه مثقفا ثلاثي الأبعاد.
زهير… منذ زمن بعيد، والحنين يلتهم عصبك ويشرذم حياتك مما جعلك عاشقاً مقيماً في سراديب منفاك لعل الموت الذي تقدم إليك مسرعاً ليصرع قلبك إلى الأبد ويهدم ما استعصى على مقادير الحنين الفتاك…
زهير غانم… وداعاً.