الحاكمية لله: كيف تجرؤ على رفض عقوبة الرجم ؟
الطاهر إبرهيم
لم يُقْبض رسول الله محمد (ص) وينتقل إلى الرفيق الأعلى، إلا وقد اكتملت الشريعة الإسلامية، مصداقا لقول الله سبحانه وتعالى: “… اليومَ أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا…”
-الآية 3 من سورة المائدة). وعندما نقول اكتملت الشريعة الإسلامية، فإنما نعني بذلك العقيدة والعبادات والشريعة بما فيها الحدود. ولا يطعن في ذلك الاكتمال اختلاف الأئمة المجتهدين في تفاصيل تلك الكليات. فنشأ عن ذلك مذاهب الأئمة الأربعة (أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل).
وقد جاء الإسلام ليحفظ على الناس الكليات الخمس (الدين والنفس والعقل والعرض والمال). وفي حفظ هذه الكليات الخمس شرع الإسلام حدودا واضحة، حتى لا يأتي قوم فيجتهدوا اجتهادا خاطئا فينتهكوا المحرم. في اعتقادي أن الحدود الإسلامية كانت السياج الذي يحمي الكليات الخمس من العدوان والتضييع: إما بالتخويف من عذاب النار يوم القيامة، أو بتشريع الحدود. فكان حد شارب الخمر الجلدَ ثمانين جلدة لحفظ العقل، وكان حد السارق قطع يده لحفظ المال، وكان حد (الجلد والرجم) لحفظ الأعراض، وكان القصاص من قاتل العمد لحفظ نفس الإنسان من القتل… “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب” (الآية179 من سورة البقرة).
ولأن الإنسان أحرص ما يكون على نفسه، فقد كان من أهم هذه الكليات هو حفظ النفس التي جبل الإنسان على الحرص على حفظها بعيدا عن القتل. لذلك لا يعقل أن يكون حدٌ من حدود الإسلام مدعاة لانتهاك حياة النفس البشرية، ما يعني أنه لا تناقض بين حفظ النفس وإقامة حد الزنى –جلد البكر ورجم الزاني الثيب- الذي شرعه لحفظ أعراض المسلمين. لذا فإن إقامة الحد لا يكون انتهاكا للنفس البشرية بغير مقابل مكافئ في قيمته البشرية.
وإذا كان قتل النفس البشرية من دون موجب هو عدوان على حياة الإنسان، والإسلام أَمَر بالحفاظ عليها، فإن العدوان على أعراض الناس هو عدوان شرع له الإسلام من العقوبة ما يمنع هذا العدوان. استطرادا فإن انتهاك الأعراض يؤدي في ما يؤدي إليه، إلى اختلاط أنساب الناس، ولا أحد يقبل أن ينسب إليه ولد ليس من صلبه (يروى أن شابا أراد الزواج من فتاة فقال له والده لا تفعل لأن هذه الفتاة أختك وأمك لا تدري. وقد تكرر رفض الأب مع فتاتين أخريين للسبب نفسه. وعندما شكا الولد لأمه الأمر، قالت له: تزوج أي فتاة شئت منهن لأنك ابن رجل آخر وأبوك هذا لا يدري).
دعاني إلى التقديم بهذه المقدمة الطويلة أن الناشط في حقوق الإنسان هيثم مناع كتب مقالا تحت عنوان “جريمة الرجم بين الفقه والتاريخ وحقوق الإنسان” نشر في “النهار” يوم الخميس الواقع فيه 30 كانون الاول الماضي، أوقع فيه نفسه في أخطاء ومغالطات كثيرة، ظنا منه أنه يدافع عن حقوق الإنسان التي تصدى للدفاع عنها.
على أنه يجب أن نشير إلى أن حد الزنى – رجما أو جلدا – في عهد النبي محمد (ص) وعهد الخلفاء الراشدين لم يتم إقامته إلا باعتراف الزاني نفسه من دون إكراه. وعدا عن ذلك فيتوجب شهادة شهود أربعة عدول، يشهد كل واحد منهم: (أنه رأى عضو الرجل الذكري في عضو المرأة الأنثوي كما يرى الميل في المكحلة. وأنّى للشاهد أن يرى ذلك والرجل يتغشى المرأة؟).
وحتى المرأة المحصنة المطلقة أو الأرملة، إذا ظهر عليها علامات الحمل فهناك اختلاف في تطبيق حد الرجم عليها. إذ يمكن أن تحتج أنها اغتصبت رغما عنها وسكتت خوف الفضيحة. والمعوّل عليه هنا هو قول رسول الله (ص): “ادرؤوا الحدود بالشبهات”.
ومنذ أن أقيمت دولة الإسلام في المدينة المنورة، فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم خلفاؤه الراشدون من بعده وهذا ما أكدته المذاهب الأربعة المعتمدة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل). أما ما ذكره الكاتب عن فتاوى أناس (الشيخ سعيد حوى يرحمه الله والشيخ أبو زهرة يرحمه الله والدكتور حسن الترابي) فهؤلاء أفراد قلائل لا تلزم آراؤهم إلا أنفسهم، والمعول عليه هنا هو قول جمهور العلماء (المذاهب الأربعة). وقد قال مالك رحمه الله: “ما منا إلا من رَدّ ورُدّ عليه إلا صاحب هذه الحجرة”،وأشار إلى الحجرة التي كان يرقد فيها النبي محمد (ص).
وتعليقا على ما أورده كاتب المقال من حوار بين الشيخ محمد أبو زهرة يرحمه الله والشيخ يوسف القرضاوي يحفظه الله على هامش مؤتمر ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة في مدينة البيضاء في ليبيا عام 1972 من أن الشيخ أبو زهرة كان يقول بنسخ حد الرجم: فأولا هذا القول لايلزم إلا الشيخ أبو زهرة. وثانيا فقد ذكر الكاتب أنه “ما إن انتهى الشيخ أبو زهرة من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور” ما يدل على انفراده بهذا القول.
وذكر الكاتب أن الشيخ يوسف القرضاوي حاور الشيخ أبو زهرة فقال: (جاء في الحديث الصحيح: “البكر بالبكر: جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب: جلد مائة، ورجم بالحجارة”. قال أبو زهرة: وماذا تأخذ من هذا الحديث؟ قلت: تعلم فضيلتك أن الحنفية قالوا في الشطر الأول من الحديث: الحد هو الجلد، أما التغريب أو النفي، فهو سياسة وتعزير وهو موكول إلى رأي الإمام، ولكنه ليس لازماً في كل حال) انتهى. العجيب الغريب أن كاتب المقال مناع علق على كلام القرضاوي بقوله: (معنى ذلك أن للحنفية وهم أحد مذاهب أهل السنة الأربعة رأياً في رجم الزناة يخالف رأي بقية المذاهب) (انتهى تعليق كاتب المقال). ولا أدري من أين جاء الكاتب بهذا الاستنتاج بأن الأحناف يخالفون بقية المذاهب في الرجم؟ والقرضاوي ذكر أن الأحناف “يجلدون ثم يرجمون” كما هو واضح من الرواية التي ذكرها الكاتب آنفا.
نميز في اعتراض كاتب المقال على حد رجم الزاني المحصن بين حالتين: فإما أنه اعتراض على ثبوت حد الرجم شرعا، وقد بينا أن الاعتراضات التي ساقها الكاتب هي اعتراضات من أفراد قلائل لا تقف على قدمين أمام إجماع الأمة، هذا أولا. وثانيا: أو أن الكاتب يرفض الرجم، ويعتبره حداً قاسيا في حق الإنسان الذي يقام عليه الحد. وهذا رفض لأمر شرعه الإسلام، سواء أكان بالآية التي نسخ تلاوتها وبقي حكمها، أو بنص ثابت عن رسول الله (ص). علما أن حديث نبي الله (ص) حكمه كحكم الآية: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى” (سورة النجم). عندها يكون الكاتب قد رفض أمرا معلوما من الدين بالضرورة، ونعتقد أن مناع لو فَقِه خطورة ذلك لما تجرأ عليه.
أخيرا: ما الذي دفع كاتب المقال – وهو يتكلم في انتقاد حد الرجم – ليقحم الإخوان المسلمين في مقاله فيقول: (ولم تنجُ حركة الإخوان المسلمين من هذه المقاربة التقليدية. فحتى اليوم، وبعد 56 عاما على إعدام عبد القادر عوده، ما زال كتابه “التشريع الجنائي في الإسلام” غير قابل للمس عند أتباعها)؟ فكيف يعدل الإخوان في كتاب لم يأذن لهم مؤلفه في تعديله؟
هوامش وتعليقات
أولا: لا تمل جماعات حقوق الإنسان في الغرب ومن تموّلهم، من التفتيش عن كل ما من شأنه أن يثير الغبار حول شريعة الإسلام، حتى وجدنا بعضهم تذرف عيناه الدموع شفقة على خروف العيد الذي يذبحه المسلم أضحية في عيد الأضحى في فرنسا، وربما يسمع عن مئات الألوف ممن قتلتهم آلة الحرب الاميركية في العراق وأفغانستان فلا يطرف له جفن.
ثانيا: إن الكاتب وصف في مقاله إقامة حد الرجم بأنه جريمة، فجاء عنوان المقال: “جريمة الرجم بين الفقه والتاريخ وحقوق الإنسان”. وهذا تجرؤ على الله بما لا يليق. وما كان لحد إسلامي من حدود الله أن يكون جريمة وقد شرع لمكافحة الجريمة. ولو أن الكاتب تمعن في ما جاء في عنوان المقال لعدل عن هذا العنوان إلى تسمية أخرى فيها إجلال لله تعالى.
ثالثا: لا تتوانى جماعات حقوق الإنسان عن القدح والذم في حق المملكة العربية السعودية، لأنها الدولة التي تأخذ قوانينها الجنائية من التشريع الإسلامي، خصوصا في الحدود. وهذا ينغص على تلك الجماعات عيشها. لذلك فهي تهاجم السعودية – كما فعل كاتب المقال – في إقامة الحدود الشرعية خصوصا حد الرجم للزاني المحصن.
وإني أشهد أنه خلال إقامتي في السعودية على مدى ثلاثة عقود لم أسمع أو أعلم أنه أقيم حد الزنى – رجما أو جلداً- على رجل أو امرأة لصعوبة – وربما استحالة- وجود أربعة شهداء يشهدون: “كالميل في المكحلة”.
رابعا: مقال الكاتب مناع مليء بكلام فيه هجوم على رؤساء ماتوا، وحقهم الترحم عليهم، وحكومات أقل ما يقال فيها أنها تحاول حماية بلادها من الانفلات الأخلاقي الذي تدعو إليه جماعات حقوق الإنسان، ولا يخلو المقال من كلام لا يليق. ولولا خوف الإطالة لضربت الأمثلة على ما وجدته خارج حدود المألوف في المقال.
(عضو قيادي في حركة الاخوان المسلمين السوريين – مقيم في الخارج)
النهار