أسمهان : أيقونة وأسطورة
دلور ميقري
1
صوتٌ شجنٌ ، فيه رنينُ ذهَبٍ ثمين . سحنة ٌ ساحرة ، مثل لمعة الماس ، تنطق فيها لحاظ من مخمل ، مخضوضر . وقامة ٌ رشيقة ، تترسّمها قسماتٌ دقيقة ، منحوتة بعناية خالق ٍ متولّه ؛ خالق ، شاءَ هذه المرة أن تكون رسالته للبشر ، الفانين ، كلماتٌ منغومة ، خالدة ، وَحْيُها شفاهٌ رقيقة ، مُحمرّة ـ كالشقائق . أيقونة الفنّ هذه ، الموشاة بإسم ” أسمهان ” ، ما فتأتْ مُقدّسة ً من لدن مريديها وبالرغم من مرور ما يزيد على عقود ستة من أعوام فقدان صاحبتها ، المُبكر ، إثرَ حادث مفجع . في وقت الحادث ذاكَ ، ( عام 1944 ) ، كانت أمّي ما تزال بعد طفلة ، على أعتاب عقد سنواتها الأول ؛ هذه الأمّ ، نفسها ، من دأبتْ إلى الآن على التأثر حدّ سفح الدموع ، في كلّ مرة يبث فيها التلفاز تسجيلاً لإحدى أغنيات تلك المغنية ، التي أضحتْ بالأسطورة أشبه . ولم يقتصرَ الحالُ هذا ، الموصوف ، على ” الشوام ” ـ الذين نسِبَتْ أيقونتنا إلى جماعتهم المصرية ، المهاجرة ـ بل أنّ ذلكَ إنسحبَ على شعوب منطقتنا ، المترامية بين بلاد الرافدين وموطن الأطلس . من هذا الأخير ، على سبيل المثال ، كتاب كبار ـ كمحمد شكري والطاهر بن جلون ـ نستقريءُ عياناً من قراءاتنا لأعمالهم ، الأدبية ، مدى شعبيّة أسمهان ، الغامرة . فما كان إتفاقا ، إذاً ، أن تنتمي لذلك الموطن أكثرُ المطربات شبهاً بأيقونتنا صورة ً وصوتاً ؛ وأعني بها عزيزة جلال ، التي خسرها أيضاً الفنّ ، مبكراً ، إنما بسبب ” موضة ” التحجّب والإعتزال ، المُصممَة على مواصفات الفحولة الخليجية . لا بل إنّ الشغفَ بالمطربة السورية ، الساحرة ، قد شغلَ على ما يبدو قوماً آخر من الجيران : ثمة أسطورة ، يتداولها الأكرادُ بحماسة ، تعيد جذر سلالة آل ” الأطرش ” ، التي تنتمي إليها أسمهان ، إلى عشيرة جبلية كبيرة ؛ هيَ ” الأتروشي ” ، متوزعة في إقليم كردستان ، العراقيّ . هذه الأسطورة ، على كلّ حال ، ما كانت إلا لتذكرنا بحقيقة تاريخية ، مثبتة ؛ أنّ آل ” جنبلاط ” ، وهم أهمّ العائلات الدرزية مقاماً ، إنما يعودون بأصلهم إلى سلالة أمراء كرد ، أيوبيين .
2
” كان قلبي عليلْ / وما لوهش خليل ”
هكذا تقول كلمات مطلع الدور ، الشهير ، المُختلج به الدهرُ ؛ الدور الرائع ، الذي كان حاضراً في تلك الليلة الحارّة ، الشاهدة على أول لقاء بين أم كلثوم وأسمهان . هذه الأخيرة ، كانت وقتذاك في ميعة مراهقتها ؛ فتاة فاتنة ، نضرة الملامح ، تبث المضاضة والحسرة في فؤاد كلّ صبّ يقع بهوى صورتها وصوتها ، على السواء . كوكب الشرق ، المُحتفلة ليلتئذٍ بعيد ميلادها ، كانت ولا غرو مفتتنة بضيفتها الصغيرة ، الساحرة ، تشجعها بين الفينة والاخرى على إنشاد المزيد من روائع عبقريتها . في تلك الأمسية ، بحسب شهادة الشاعر أحمد رامي ، بدَتْ أسمهان في غاية التحفظ والخجل ، حدّ أنها تواضعاً وتأدباً كانت تؤدي أغنياتها وهيَ مقتعدة عند قدمَيْ الكرسيّ الوثير ، المنذور لملكة زمنها . ما كان تزلفاً وتماحكاً شعورُ مغنيتنا ، الصغيرة السنّ ، بحضرة أم كلثوم ، الناضجة ؛ بما أنها كانت تعدّها فعلاً بمثابة المثال ، المُلهم ، فضلاً عن إعجابٍ لا يُحد بفنها وأدائها وشخصيتها . لندع جانباً تلك الأقاويل ، عن مَيْل كوكب الشرق الأنثويّ ، فمما لا ريبَ فيه أنها شملتْ أسمهان بعطفها ورعايتها ، على الأقل في باديء الأمر . تشديدنا على مبتدأ العلاقة تلك ، مبعثه ما صار الآن معروفاً عن الجفاء الذي دبّ بين المطربتين ، العظيمتين . وهوَ الجفاء ، المُستهلّ بتحيّز أسمهان للأسلوب التجديديّ في الموسيقى والغناء ، المشتدّ العود وقتئذٍ بفضل محمد عبد الوهاب ؛ خصم أم كلثوم ، التقليديّ . حتى بعد حادث رحيل فنانتنا ، الغامض ، فإنّ كوكب الشرق ، ولسببٍ لا يقلّ إبهاماً ، دأبتْ على مقتِ فريد الأطرش وكانت تكيدُ له في كلّ مناسبة سانحة ، وبقيت على ذلك المسلك ، العدائيّ ، حتى رحيلها هيَ الأخرى عن عالمنا . في ذلك العيّ من الأقاويل ، المُدبّج في حينه على صفحات الصحف ، ما كان بالغريب أن يبرزَ إسمُ كوكب الشرق بصيغة المشتبه ، فيما زعِمَ أنه تدبيرُ حادث موت أسمهان . ولكن قبل بحث معميات رحيل فنانتنا هذه ، الأبديّ ، يجدر بنا أن نعودَ لبدايات رحلتها في الحياة .
3
لكأنما قدَر الهجرة ، العَسِر ، كان مُتلبّساً مصير أسرة أسمهان . والدها ؛ الوجيه النبيل ، المنتمي لآل ” الأطرش ” ، المُتمتعين بالحظوة كسلالة أمراء ؛ هذا الوالد ، وجدَ نفسه يشدّ الرحال من ” جبل الدروز ” ، الواقع إلى الجنوب من دمشق ، كيما يلتحق بوظيفة قائمقام إحدى البلدات المركونة بدورها في جنوب الأناضول : من هذه المنطقة ، ذاتها ( كردستان التركية ، حالياً ) كان أجدادُ المخرج أحمد بدرخان ، الأمراء ، قد إرتحلوا أيضاً منفيين إلى الشام ومصر ؛ وهوَ المخرجُ الرائد ، الذي تزوجته فيما بعد أسمهان . ففي مستهل القرن الجديد ، العشرين ، المؤذن بتحوّلات كبيرة ، سيهتزّ ويتداعي رويداً العرشُ العثمانيّ ، الهمايونيّ . إبتدِهَ الأمرُ بخلع الخليفة عبد الحميد وإقرار الدستور . بيْدَ أنّ الأمير الدرزيّ ، وإثرَ خلافٍ مع الإتحاديين الطورانيين ، المغرقين بالشوفينية والتعصّب ، كان عليه شدّ الرحال مجدداً والإبحار إلى جبل لبنان ؛ أينَ موطن زوجته . هذه الأخيرة ، كانت إمرأة حسناء ، رخيمة الصوت ، تنتمي لعائلة وجهاء دروز لبنانيين ، معروفة . ها هيَ بعيدَ أعوام اخرى قليلة ، وقد أضحتْ مهجورة من لدن الزوج ، ستركب البحر ثانية ً ، متوجّهة ً هذه المرة إلى مصر . عندئذٍ عليها كان الفرار بأسرتها ، الصغيرة ، بعدما فشلتْ الثورة السورية ، التي قادها كبير آلهم ؛ سلطان باشا الأطرش . ما كان مصادفة إختيارُ موطن النيل ، الجميل . إذ وبفضل أسرة ” محمد علي باشا ” ، الحاكمة ، كانت مصر قد صارت زمناً وجهة ً لكلّ لاجيء ، هاربٍ بروحه ، أو حريته ، من إستبداد الأتراك وبطشهم ؛ كاتباً كان أم صحافياً أم فناناً . هنا في القاهرة ، ومنذ مبتدأ العشرينات من القرن المنصرم ، كان على أيقونة ” آمال ” ( الإسم الحقيقي لأسمهان ) أن تخطط خلودها بعنايةٍ ، وشياً وألواناً وتكويناً . أسرتها السوريّة ، الكريمة المحتدّ ، ستجدُ مرتعاً لها في حيّ ” الفجالة ” ؛ أكثر محلات المدينة بؤساً ، ليعتاد أفرادها من ثمّ على التأقلم مع الفقر والثورة عليه ، في آن . بالرحيل عن الوطن ، فقدَتْ الأمّ إذاً الغنى والوجاهة . على أنها كانت من الذكاء والنباهة ، لتدركَ الثروة ، الحقيقية ، الممنوحة لأسرتها الصغيرة : الفنّ .
4
آمال ؛ هيَ الفتاة الشقراء ، الفائقة الحسن ، المقدّر لإسمها أن يكون مَرقوماً ، أبداً ، في سجل الخالدين بنعت ” أسمهان ” ، منذ ذلك النهار القاهريّ ، الجميل ، الذي جمعها بالملحن داوود حسني . إنه المبدعُ الأصيل ، ذو الجذور اليهودية ، من كان في زيارة للشاب الموهوب ، فريد ، حينما تناهى لأذنه المُرهفة صوتُ أخته الساحر ، المُنطلقَ بغتة من حجرة المنزل ، الاخرى . كانت الأمّ ، راعية الأسرة الوحيدة ، قد سبق لها ورمَتْ جانباً بتقاليد الأمراء ، المُحافظة ، مُنطلقة ً في طريق الفنّ سعياً لتحسين حال عائلتها مادياً . صوتها العذب وإجادتها للعزف على العود ، جعلاها محط إعجاب الكثيرين من هواة الطرب الأصيل . وإذاً ما كان على الإبنة ، بدورها ، إلا السير على درب الإبداع نفسه تأثراً لخطى والدتها وشقيقها . من جهته ، فإنّ محمد عبد الوهاب ، الموسيقار المتأثر بشدّة بالثقافة الأوروبية ، كان أول من تنبّه إلى إمكانيات أسمهان ، الهائلة ؛ إن كان لخامة صوتها العظيم ، المُعجّز ، المنتمي لطبقتيْ ” سوبرانو ” و ” ميتسو سوبرانو ” ـ بحسب المعايير الغربية ـ أم كان لناحية ملامح وجهها ، المُفعمة بتعابير غاية في الشفافية والحزن والرقة والرفعة ، تتغيّر مع كلّ إنتقال في مساحة الصوت أو في مفردات النغم ، المؤدى . وبالرغم من قلة الألحان ، التي جمعتْ بين أسمهان وعبد الوهاب ، إلا أنه أثرَ فيها بقوّة ، وخصوصاً في تثقيفها بالموسيقى الغربية . فضلاً عن أنّ ” موسيقار الجيل ” هذا ، قد منحها فرصة العمر حينما أوقفها نداً أمامه في أوبريت ” مجنون ليلى ” ؛ رائعة الشاعر أحمد شوقي ، التي قام بتلحينها وبطولتها . لن نغمط هنا ، طبعاً ، دورَ الشقيق الأثير ، فريد ، في صقل موهبة فنانتنا ؛ هوَ الملتزم بدوره التجديدَ في اللحن والطرب ، كما نستنفضه في تعقب آثاره الفنية ، الخالدة . إنّ تبَنّي الشقيقيْن هذيْن ، الصاعدَيْن ، للحداثة في الموسيقى والغناء ، نحيله على بساطة رأينا إلى منبتهما الأصليّ ، الأول : لقد نوهنا ، فيما مضى ، إلى حقيقة هروب الفنانين السوريين ، المتواتر ، إلى أرض الكنانة ، تخلصاً من جور الحكم العثمانيّ المُستبدّ وتخلفه وظلاميته . لا غروَ ، والحالة هكذا ، أن ينجذب هؤلاء ، في موطنهم الجديد ، إلى كلّ تجديدٍ في الإبداع ، وأن يشيحوا بوجوههم للمحافظة والجمود والتزمّت : كذلك كان الحالُ بالنسبة لهذه الأسرة من شوام مصر ، على الأقل ، والتي قدّمتْ إثنيْن من أهمّ عباقرة الفنّ في القرن العشرين ؛ أسمهان وفريد الأطرش .
للحديث صلة ..
خاص – صفحات سورية –