زهرة … و طاسة شرف ؟!
هّي فتاةٌ لم تتجاوز الثالثة عشر ربيعاً , كانت أصغر إخوتها سنّاً … مؤخراً و ليس ببعيد تزوجت شقيقتها التي تكبرها بثلاث سنوات من ابن عمها , الذي أسكنها في بيت صغير متواضع مجاورٍ لبيت أهله الذي يقع في الجهة الأخرى من القرية … أقرب منه للنهر الكبير .
شقيقة زهرة لازلت صغيرة السن و زوجها لا يكبرها كثيراً و ليس من عائلة ميسورة الحال كما و معظم سكان القرية , فكانوا بحاجة لكل مساعدة مادية أو عينية .. من أهل الزوج .. أو أهل الزوجة أو من كل ما تجود به أنفس الكرام .
أم زهرة .. و يكفيها من صفة أن تكون والدة , لم تبخل على ابنتها بشيء مما زاد عن حاجة أسرتها , بل و تقاسمها و زوجها قوتَ أبنائها التسعة … فكانت ترسل إليهم بين الحين و الآخر , كل ما يفيض عن حاجتهم من أكل و شراب و ذلك بوضعه في طاسة نحاسية كبيرة ثم تعطيها لزهرة صغيرة القوم و بالتالي خادمتهم طوعاً , لتقوم بإيصاله إلى بيت شقيقتها …
*************************
في إحدى المرات , بينما كانت زهرة عائدة من بيت شقيقتها بعد أن أوصلت لها طاسة مليئة بالدقيق . و في منتصف الطريق حيث كانت تغني و تصفق … خطر ببالها أن تضع الطاسة الفارغة .. تحت كنزتها لتفسح ليديها الصغيرتين أن تصفقا على أنغام أهزوجة سمعتها مؤخراً في عرس أختها …
شاء القدر , و سوء الحظ العاثر لزهرة المسكينة .. أن يلمحها أحد أبناء القرية ,
الذي صدف مروره من ذات الطريق .. حيث شاهدها .. يتقدمها إنتفاخ الطاسة المخفية تحت كنزتها … فخُيل إليه و نفسه المريضة بأنها حامل ؟! .
لم يمضي مساء ذلك اليوم , إلاّ و كان الخبر قد عم جميع سكان القرية .. زهرة حامل ؟
*************************
في ذات المساء من ذلك اليوم المشؤم , إجتمع أفراد أسرة زهرة من الذكور و في مقدمهم والدها و شقيقها الأكبر يتباحثون و يتشاورن في أمر الطامة الكبرى التي نزلت على رؤوسهم بما شاع و إنتشر في قرية الجهل هذه ..
غير بعيدٍ في غرفة مجاورة جلست والدة زهرة ترتجف من الخوف و الرعب على فلذة كبدها .. بعكس زهرة التي لم تفهم ما يدور حولها . كانت الأم المسكينة تخفي وجه ابنتها بوشاحها و تلفها بيدها ضامةً إياها إلى صدرها بقوة , حتى كادت أن تعيدها إلى قلبها …
زهرة هي الأخرى .. كانت ترتجف كحمامة مذعورة يطاردها باشقٌ في ليلة شتاءٍ باردة , و قد إختفى جسدها النضّر بين ثانيا لباس والدتها الفضفاض , فكانت تبكي بشدة لبكاء أمها … دون أن تعرف السبب !!!! .
إجتمع إخوتها الخمسة و والدهم في غرفة الشر الجانبية بعد أن أغلقوا على أنفسهم باب العقل و الإنسانية بإحكام شديد . لم يطل الإجتماع كثيراً … كان قراراً حاسماً و بلإجماع … الفتاة بريئة و طاهرة كماء السماء , لكنه لا يكفي : لقد رنتْ طاسة الفتاة و تردد صداها في كل أنحاء القرية و لن يوقف رنيننها إلاّ دماء فتاة عذراء تُراقُ على مذبح وثن الجهل الأحمق .
إنتصب الشقيق الأكبر واقفاً على قدميه , متكفلاً بتنفيذ الحكم , وسط تنافس شديد بين إخوتهم , كلٌ يريد أن ينال هذا الشرف المعتوه ..
إتجه هُبل الأكبر إلى زهرة الصغيرة .. تلك الباكية بحضن أمها , دون أن تعيّ ما يدور حولها , و بأن نصيبها من الحياة على مفترق دقائق قليلة . شدها بعنف من جديلتها السمراء فطارت من حضن أمها كما الريشة في مهب الريح لتستقر خارج الغرفة ليس بعيداً عن عن عتبة الباب و الرحمة .. سقطت على الأرض الحزينة و ليس في يدها سوى غطاء شعر أمها الذي أبى أن تغادر زهرة و هي وحيدة .. ثم إنقض عليها بخنجره الظالم ليجز عنقها الغضّ و البريء من كل ذنب و إثم على تراب الأرض الحزين … إنتفض جسدها عدة مرات دون رأس ناثراً دماءها البريئة على وجه أخيها و أبيها و بقية شهود الوثن من سكان القرية الذين كانوا ينتظرون من خلف جدار منزل أهل الشهيدة .. ليقينهم بتنفيذ الحكم بذات الليلة .. إذ لم يعتد أهل القرية أن يبيتوا على ضيمٍ أبدا .
تهلل وجه أبيها و أشقائها فرحاً و سرورا .. في سكون ليلة التسبيح هذه , تعالت أصوات العيارات النارية من أنحاء متفرقة من القرية إبتهاجاً بإستعادة الشرف المسلوب بهتاناً . زغردت نساء القرية دون أمها و شقيقاتها …. لقد تم غسل شرف القرية الذي لم يُمسُ أصلاً … إنتفضت الأرض رعباً و قهراً فهي قد أقسمت منذ نشأتها الأولى بأن لا تشرب دماء الشهداء و الأنبياء … سال دمها نحو باب المنزل كمن يريد أن يهرب من فداحة ما حدث … تابع جريانه حتى جدول الماء القريب لينسل بين قطرات ماءه حياءاً و خجلاً من أفعال بعض من ينسبون أنفسهم للبشر قبل أن يتلاشى و يختفي على تراتيل النجوم و الكواكب و حزن القمر ..
*************************
على عُجالة تم دفنها جسدها في ذات الليلة .. و حتى قبل أن يبرد و يستكين … لم يُغسل جسدها البريء كما الشهداء … رُميت في حفرة القبر بكفن رثٌ بالٍ ممزق …. كان أبيض منذ لحظات قبل أن يصبغه دمها الطاهر من كل أثم ……. حاول الكفن أن يعترض فالجثة لم تبرد بعد و الدم يواصل نواحه من جسدها الغضّ … فات الآوان , بدأ التراب ينهال عليه و ما يضم بين طياته من كل جانب حتى إختنق و إختفى في غيهب الأرض الحنون .
صباحاً : كانت علائم السرور على وجه كل من تُصادفه في هذه القرية , إلاّ أمها و شقيقتها .. التي أقسمت بأن لا تأكل شيء مصدره أهلها و لو إضطرها الأمر لأكل التراب …. بل أنها رمت الطاسة في النهر بأقصى ما ملكت من قوة
حول القبر الصغير الدافئ .. بكت الأم بغزارة و الشقيقات الثلاثة معها … حتى هدئَ جسد زهرة و إستكان … قصّت الأم جديلتها التي تعتز بها كثيراً من جذرها , و وضعتها على قبر زهرة و غادرت … تائهة في الصحراء … فلم يسمع أحد عنها خبر و إلى الآن .
إحتفل كبير القوم في مضافته بوالد زهرة و أشقائها , أفرد صدر المكان للأخ الأكبر .. هُبل القرية و ظالمها الأشد .. تقدم المهنئون منه و قبّـلوا رأسه و تباركوا بيده و خنجره … و أقسم الكثير منهم بأن أول ولد سيأتيه سيسميه على اسمه تيمناً و تبركَ , كما أقسم معظمهم أن لا يسمي أي إبنة قد تأتيه … زهرة . فكانت قرية ملعونة جرداء بلا أية زهرة
أراد القدر أن يخّلد زهرة .. فكان المثل القائل : رنتّْ طاسة … البنت … و هو تعبير عن إنتشار الفضيحة و التي يجب غسلها بالدم .. حتى و إن كانت … مجرد إشاعة أو أقاويل صادرة من هنا أو هناك ….
قصة حدثت ذات يوم … في مكان ما … شرق أو جنوب المتوسط
http://walidsham.wordpress.com