لحرّيةٍ صار اسمها.. تونس
” لا وجود للحرّية كمعنى مستقل بل أن ما يوجد هو البحث المتواصل عنها, و هذا البحث المتواصل هو ما يجعلنا أحراراً ”
كارلوس فوينتيس
فاجأ الشعب التونسي العالم أجمع, القريب منه و البعيد, بل و فاجأ نفسه أيضاً حين تحدّى القوة و البطش و العنجهية و التسلّط و كسر شوكة الظلم و هزم الطاغية.
سقطت شرارة الغضب, تلك التي أشعلها محمد بوعزيزي عندما أضرم النار في جسده بعد أن سدّ عسس الطاغية و خدمه كل أبواب الحياة الكريمة بحدّها الأدنى بوجهه, سقطت شرارة الغضب على هشيم الإحساس الخانق بالظلم, بالكبت, بالعذاب, على هشيم السخط من الفساد و الاستبداد, على هشيم التطلّع للعدالة الاجتماعية و الحق و الحرّية.. سقطت الشرارة على الهشيم و اشتعلت نار انتفاضة شعبية دخلت التاريخ من بابه الواسع المشرع الدفتين محمولةً على أكتاف كل أنصار الحرّية و أصدقاء الثورة الذين أصبح لديهم رمزٌ جديدٌ و علم جديدٌ و عاصمة جديدة… كلها تُختصر باسم وحيد: تونس.
…
تكسّرت حجج من اعتبر أن الشعوب العربية لا تنتفض إلا للاحتراب الطائفي و لا تعرف الحركة إلا بأوامر و توجيهات زعيمٍ أو قائد.. هؤلاء يقفون اليوم حيارى أمام الإنجاز التونسي: لا رجال دين و لا إيديولوجيا و لا قادة و لا أحزاب, بل أن كل هؤلاء كانوا يركضون لاهثين محاولين اللحاق بالانتفاضة المنطلقة كغزالٍ في سهلٍ ربيعي أخضر.. كلّ من خرج ليهتف ملئ صدره ضد القهر و الطغيان و الظلم كان قائداً, غضبه كان إيديولوجيا و الخبز الحرّ الذي يريد كان هدفاً, و وصل الصوت و سقط الطاغية… و كانت تونس.
…
ما زالت انتفاضة الياسمين التونسي في ساعاتها و أيامها الأولى و ما زال استخلاص النتائج و تأكيد التوقعات يكاد يصبّ في خانة التنجيم.. لم ينتهِ العمل بعد, لا بل أنه قد بدأ للتوّ. يتعرّض الشعب التونسي لتحدٍّ كبير في مسيرته لإعادة بناء دولته على أساس ديمقراطي و إنساني و حر و ضمان دستور وطني يضمن حقّ كل مواطنٍ في أن يحيا بكرامة و حرّية, و هناك من لا يريد لهذا الإنجاز أن يكتمل, لا يريد لتونس ألا أن تكون نسخة عن ما حولها من استبداد, لا يريد أن يكون هناك مستيقظٌ حرك في مهجعٍ مليء بالنيام.. أمامكم آلاف التحديات يا شعب تونس العملاق, اهزموها كما هزمتم الطاغية و استمروا في ملحمة إدهاش العالم و إثار انبهاره (و حسده و غيرته), ما أجمله من استفزاز..!
…
و ماذا نقول عن الطاغية ؟!
منذ أسبوعين أو أكثر قليلاً خرج منفوشاً منفوخاً كالطاووس الذي تعاطى الكوكائين و هو يهدر مهدداً جموع “الخونة و اللصوص و المرتهنين للخارج و المجرمين”, و بعد استمرار الاحتجاجات و تصاعدها و سقوط الشهداء و الجرحى الذي لم يزد الشعب إلا إصراراً على التخلّص منه عاد ليظهر متأتأً خائفاً مرعوباً كفأر وسط شارع مزدحم بالسيارات و هو يرجو الشعب البطل الرحمة و المغفرة و يحلف أنه قد “فهم”.. ! مشكلة هؤلاء الطغاة أنهم ينالون مرادهم بالقوة و البطش لكن غباءهم يجعلهم يعتقدون أنهم قد نجحوا في خداع و تضليل و استغباء الشعوب.
الشعوب أذكى بكثيرٍ مما تعتقد النخب, و أذكى بكثيرٍ مما يتمنى الطغاة و عسسهم..
و فرّ مذعوراً على طائرة الخيبة و الهزيمة أمام الحق و العدل و الحرّية, و رقصت طائرته “رقصة الطاغية المخلوع الأخيرة” بين المطارات التي تغلق بوجهها قبل أن يشفق عليه أحدٌ و يستقبله..
ما شعور الطاغية عندما أغلق ساركوزي مطاراته بوجهه و رد الإليزيه على طلب الاستقبال بما يشبه الـ “كش برّا و بعيد” ؟ ماذا نفعته “صداقته” للغرب و لمشاريعه السياسية و الاقتصادية؟
قد يفكر أحدهم: ألم يتعلّم مما جرى لأسلافه؟ ألم يتعلّم من شاه إيران و من جميع طغاة أفريقيا و أمريكا اللاتينية الذين كانت أبواب حلفائهم أول ما أُغلق في وجههم؟ لا, لم يتعلّم ممن سبقه و لن يتعلّم اللاحقون منه.. السبّاحون المتهوّرون و سائقو السيارات المجانين و الطغاة لا يتعلمون لأن هناك شيئاً في تركيبتهم يجعلهم يعتقدون أن ما حصل للسبّاح الغارق أو السائق المهروس تحت حطام سيارته أو الطاغية المخلوع لن يحصل لهم أبداً.
…
لقد قدّمت تونس الكثير من الدروس التي يجب على كلّ المعنيين أن يحفظوها و يفهموها..
للشعوب المسحوقة.. درب الحرّية شائك و لكنه مفتوح, و عندما تتكلّم إرادة الشعب فسيخرس الطغاة مهما تغوّلوا, و جاءكم الدرس من بلد أبو القاسم الشابي الذي سبق و بشّر: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة…”
للطغاة.. كنّا نقول سابقاً أنكم مشروع “شاوشسكو” (الذي لا يتذكره بالخير إلا القذافي), الآن يجب أن نقول أنكم جميعاً مشروع “بن علي” نرجو له أن يتم و بسرعة.
للدول الغربية.. وصفاتكم الاستشراقية المتعالية و تحالفاتكم المحلّية مع طغاةٍ محليين يسهّلون لكم مصالحكم السياسية و مصالح شركاتكم الاقتصادية لا تتعارض مع قيم الإنسانية التي أبدع فيها المفكرون و الكتّاب الأوروبيون الذين ترعون قبورهم و تزينونها على العلن و تدوسون على بطون ذكراهم و ذاكرتهم في السر (و أحياناً في العلن أيضاً) فقط بل أنها وصمة عارٍ لن يمحوها الزمن بل سيزيدها ترسخاً.. أنتم شركاء في الطغيان و الاستبداد و زاوية في المثلث الذي سينكسر قريباً فوق رؤوسكم و رؤوس شركائكم.
…
هنيئاً لتونس.. و هنيئاً لنا بتونس
….
الصّورة: شرارة انتفاضة الشعب التونسي الشهيد محمد البوعزيزي
(المصدر)
http://www.syriangavroche.com/2011/01/blog-post_16.html