حتى نستحق الخبز أصلاً
د. عبدالوهاب الأفندي
(1) كنا حتى قبل انتفاضات المغرب العربي الأخيرة نؤمن بأن الحديث عن موت وسلبية الجماهير العربية هي، بحسب مقولة مارك توين حينما قرأ نعيه في الصحف، ‘خبر مبالغ فيه’. وهناك تهمة أخرى متداولة للجماهير العربية بأنها لا تتحرك إلا عندما تمس أمورها المعيشية. فهي مستعدة للتعايش مع الاستبداد وغياب الحرية، ولكنها لا تتحمل غياب الخبز. وهذه أيضاً مقولة تنقصها الدقة، ولا تعطي الصورة الكاملة.
(2)
ابتداءً لا بد من التذكير بأن مقولة الأخ عبدالباري عطوان رئيس تحرير ‘القدس العربي’ حول الانتفاضات المغاربية الأخيرة بأنها انتفاضات كرامة لا خبز ينطبق على كل الانتفاضات التي سميت في الماضي انتفاضات خبز في دول عربية عدة في السبعينات والثمانينات. ذلك أن مشكلة الخبز وغلاء الأسعار تكون مجرد القشة التي تقصم ظهر بعير الصبر عند الشعوب. فلو كانت الأنظمة المعنية ديمقراطية لما قامت انتفاضات أساساً. ومن السذاجة أن يقال أن مئات الآلاف من المواطنين يعرضون أنفسهم للقتل طلباً لرغيف العيش، وإنما تنفجر الغضبات الشعبية لما هو أكبر من ذلك.
(3)
لقد وقعت فوق ذلك انتفاضات شعبية لم يكن الخبز فيها حاضراً أصلاً، مثل الانتفاضة السودانية في تشرين الاول/أكتوبر 1964، التي وقعت في فترة ازدهار اقتصادي لم تشهد البلاد قبلها ولا بعدها مثلها، وكذلك أم الانتفاضات العربية، انتفاضة فلسطين عام 1987، ثم الانتفاضة الثانية عام 2000. وما يربط بين هاتين الانتفاضتين هو اليأس من دور النخبة السياسية في وقت تجاوزت فيه الأحوال حد الاحتمال. ففي السودان تولت النقابات والحركة الطلابية ومؤسسات المجتمع المدني زمام الأمور مع عجز وشلل النخبة السياسية، وفي فلسطين شكل اليأس من منظمة التحرير الفلسطينية التي انتقلت إلى تونس وتحولت إلى مؤسسة بيروقراطية لإصدار البيانات العامل الأهم في تفجر الغضب الفلسطيني وقرار الشعب أن يأخذ الأمور بيديه.
(4)
الأنظمة العربية (وإسرائيل) تساهم من حيث لا تقصد في تفجير الانتفاضات، لأنها تجتهد في تدمير أطر المعارضة الشرعية وقنوات العمل السياسي الطبيعي. وإنما يصبح الخبز هو الشرارة لأن الأنظمة كذلك تتعامل مع أفراد الشعب لا كمواطنين، وإنما كمستهلكين، لأنها لا تريد دولة مواطنين وإنما مزرعة حيوانات لا مكان فيها للكرامة الإنسانية أو الحقوق. ولهذا السبب فإن تقصير الدولة في توفير الخبز يخل حتى بالمعادلة التي ارتضتها هي، وبالتالي ينهي وفاق الحد الأدنى معها.
(5)
الطريف أن الأنظمة في مناوراتها للبقاء في السلطة تغير قواعد اللعبة كل مرة. فإذا انتفضت الشعوب طلباً للخبز كما حدث في الجزائر وتونس والأردن وغيرها في الثمانينات، فإن الأنظمة تطرح الإصلاح السياسي كمناورة. أما إذا انتفضت الشعوب طلباً للحرية والديمقراطية، فإن الأنظمة تعرض الخبز والوظائف، وتبذل الرشاوى للنخب. وفي الحالين لا يحصل الشعب لا على الخبز ولا على الحرية، وإنما يفرض عليه اللهاث بلا انقطاع بين صفا الحرية ومروة الخبز، ولكن بدون تحصيل الأجر والثواب.
(6)
لكسر هذه الحلقة المفرغة لا بد أن تقرر الشعوب ألا تطلب من الأنظمة لا الخبز ولا الحرية، وإنما تسعى لانتزاع حقها في إدارة شأنها بنفسها وألا تقبل وصاية الفئات التي نصبت نفسها ‘ولي أمر’ للشعوب. لأن الشعوب لو ارتضت لنفسها صفقة الأنظمة بالعيش في مزرعة للسوائم فإنها تكون غير مستحقة للخبز، فضلاً عن الحرية. فالشعوب هي الأصل، لا الأنظمة.
(7)
الإشكالية ، كما الحال دوماً، هي في دور النخب التي لم تغب وتغيب نفسها عن نضال الشعوب فحسب، بل تجتهد كذلك في التثبيط ثم في التآمر على سرقة ثمرة الكفاح الشعبي. فها نحن نرى في تونس نفس تلك النخب تخرج من جحورها بعد أن قال الشعب كلمته لتطرح نفسها وسيطاً وشفيعاً لضمان استمرار الأوضاع على ما كانت عليه مقابل تغييرات تجميلية لا معنى لها، ولا يستفيد منها غيرها، حتى تمر العاصفة ويعود البطش.
(8)
إذا كان لا بد من تغيير حقيقي فلا بد من تجاوز هذه النخب العاطلة، وأن تفرز الانتفاضات قياداتها الخاصة بها كما حدث في الانتفاضة الفلسطينية، وألا تقبل أنصاف الحلول أو العودة إلى مزرعة الحيوانات. فما تحتاجه الدول العربية هو تجديد كامل للبنية السياسية، وتغيير تام لقوانين اللعبة، بإنهاء العهود التي يكون فيها الخبز والحرية معاً منحة من الحاكم. لقد حانت الآن فرصة التغيير، ولا بد من رفض العودة إلى المستنقع بعد أن خرج الركب منه وخلفه وراءه. وعلى النخب، إن أرادت أن يكون لها المكان، اللهاث للحاق بالشعوب التي أرادت الحياة فاستجاب القدر، لا أن تتنافس من أجل تقديم خدماتها لإعادة الركب إلى الخلف.
القدس العربي