الاعتقال والتخوين تعبير عن ميزان القوى
الاعتقال إخراج مؤقت وأحيانا دائم للكائن من الحياة، وترك ذاته مرمية ككتلة مهملة، أو رقم زائد في مكان أسمه السجن، والسجن أحيانا يكون زنزانة أو أي مكان آخر، يستطيع تغييب الكائن، عما يميزه عن الحيوان، ورغم ذلك يحاول السجين تحويل حياة السجن إلى رمز من رموز إنسانيته الغائبة. ينجح أو يفشل،
يكون هذا الفعل خلاقا وصحيحا أم يضحك به على نفسه، من أجل تحقيق الحد الأقل من العادي في تجاوز الوضعية النفسية المقهورة. إذن اعتقال الكائن هو في وجه من وجوهه تعطيل كينونته، وتحويله إلى فاعل حيواني فقط. أما التخوين فهو شبكة من الملفوظات، التي تتراكم بفعل قوة السلطة التي تقف خلف هذه الملفوظات، أو بفعل قانون يمثل سلطة الملفوظات هذه، فإذا كان الطرف الذي يمثل قوة السلطة هنا، هو نفسه طرف ضد القانون، يصبح الحديث عن شريعة الغاب كما يقال صحيحا تماما، وبدون مبالغة، بدليل أن قرار الاعتقال يكون عادة بتوجيه شفهي،واستمرار التوقيف لأشهر دون أي نص قانوني أيضا يتم وفق التوجيهات الشفاهية نفسها التي تتحول بحكم العادة، والقوة العارية، إلى توجيهات ذات طابع مقدس.
وهذا يحدد فارقا مهما بين الدولة وبين السلطة الأحادية، فالأولى مهما كانت هدفا مثاليا تبقى وسيلة، ولكن الثانية بفعل تراكم أحاديتها مستندة على قوة لا قانونية، تتحول إلى هدف مقدس. هدف مقدس بحد ذاته، والقداسة هنا فعل محايث لتجاوز أي قانون، وهذا ما يريده أصحابها والقائمين عليها. يقول صاحب السلطة ببساطة: اعتقلوا فلان، يعتقل خلال دقائق ومن بعدها أحيانا يتم البحث عن مبررات نصية، وفي غالب الأحيان لا يحتاجون لهذه المبررات النصية. الاعتقال سمة من سمات حالة الحرب بين طرفين- ربما عدوين- ولكن هنالك ثمة اعتراض، وهو اعتراض مفهوم، ويتعلق بحق الدولة في ممارسة هذا الطقس القانوني المسمى اعتقال وبالتالي محكمة و حكم وسجن. هذا إجراء تقوم فيه الدول بحق مرتكبي جرائم يعاقب عليها القانون، وليس أي قانون بل هو قانون الدولة المعنية، ولكن عندما تصبح الدولة جزء من جهاز سلطة واحدة، و شخصانية، فإنها تتحول إلى منفذ لرغبة هذه الشخصانية، ولا يعود لها السيادة القانونية التي هي سمة أساس من سمات الدول. فالدولة لا يوجد في جدول أعمالها مطلقا اعتقال معارض سياسي على رأيه، هذا أمر فقط هو من اختراع السلطة التي تعتقل الدولة نفسها قبل مواطنيها، واعتقال الدولة يبيح لهذه السلطات إرسال كل من يختلف معها إلى السجن، حتى لو كانت الدولة نفسها، لهذا هي تركن الدستور على رف عتيق وتتعامل بقوانين الطوارئ التي تتيح رفض العمل بأي قانون أصلا، وهذه ميزة قوانين الطوارئ أنها، في بلدان معينة تتحول إلى ممارسة اللاقانون. وهذا وجه على أساسه: نرفض العمل بقوانين الطوارئ المعمول بها.
إن أخطر مصير يواجه الدول هو العمل وفق اللاقانون. وهذه قضية حسمتها البشرية منذ زمن بعيد بتجربتها وحسها العملي ومعارفها الإنسانية. ولكي نتأكد من أن الاعتقال هنا يتم بين عدوين في حالة حرب، يجب النظر إلى الطرف الآخر من المعادلة، وهو الطرف المتعلق بأيديولوجية التخوين، وشبكة ملفوظاتها العاتية. والتي تستطيع تجريد أي كائن من أية قيمة مهما كانت، لا تجد هكذا أنواع من السلطات، طريقة لتبرير الاعتقال إلا بالاتهام بالخيانة، والخيانة لمن وضد من؟ إذا كانت الدولة بما تعنيه من رمزية معتقلة، وإذا كان المجتمع عرضة لمزاج شخص واحد، والتاريخ يتم بناء على حالة من الارتجال، فمن تخون المعارضة إذن؟
الاعتقال والتخوين وجوقة المخونين، إنها جزء من ميزان قوى في حالة حرب، لهذا على نخب الاعتراض السياسي، أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، إنها مسألة موازين قوى في النهاية، فهم هؤلاء المخونون وسلطتهم يحق لهم استخدام كل شيء من أجل هدفهم وممنوع عليك كمرشح دائم للاعتقال والتخوين أن تستخدم أية وسيلة من شانها أن تحميك من الاعتقال. البساطة هي التي تقودنا إلى القول أنه لا يوجد في العالم سلطة ليس لها جوقة من المطلبين والمزمرين، وهم يقومون بهذا الفعل ليس لأن قناعاتهم هكذا فقط، أو يمكن أن تكون هكذا، ولكن من يقبل أن يكون مطبلا ومزمرا لسلطة ما هو بالأساس شخص يقال عنه( أنه يعرف من أين تؤكل الكتف) كما يقال بالمثل الشعبي. ليس مصطلح انتهازي قابلا لاستغراق المعنى هنا، أبدا بل هو قابل فقط لشرح وجه من وجوه، هذا الفعل الخلاق! في معرفة من أين تؤكل الكتف، وهذا طبيعي أن نراه من مواطنين عاديين أذلهم الخوف، وطبيعي أن نراه عند مثقفين، لهم رأي يستند على جملة من الرمزيات التي تفقد معناها بدون يافطات التخوين، القومي أو الطبقي. وبدون أن يكون هنالك آخر خائن، فإنهم يشعرون بخواء أيديولوجياتهم. هذه الأيديولوجيات التي ترمز بعضهم، ولا ترميز بدون (تزمير هو التصفيق للسلطة!) ليحيطوننا علما، من أين استقوا أن معارضة لسلطة شخص واحد تتحول إلى خائنة؟ ألا يحق لأي كائن من كان أن يقول: أنه ضد سلطة هذا الشخص أو ذاك الذي يقرر مصيره نيابة عنه وبالقوة؟ ونحن هنا لا نتحدث في السياسة، بل نحاول أن نستوعب ما يجري من اعتقال ومن تخوين، ولا نتحدث عن سلطة معينة في لا بلد، بل نتحدث عن هذيانات، أنتجتها في مخيلتنا المريضة، أننا أمام سلطة تقرر مصير بشر في لا بلد.
وعلى هذا نقول أن الاعتقال والتخوين جزء من حرب وبالتالي يجب النظر إليها كميزان قوى، ولا يحق للمعتقل أو المخون، أن يلجأ لأية وسيلة من شانها تحسين وضعه داخل ميزان القوى هذا. وتنتهي الهذيانات عندما يصدر الحكم على المعتقل، وينسى في سجن مهمل، ويبقى في الخارج جوقة التخوين، وتتحول بدورها لمعارضة تخاف على وضع اللا بلد من التحول إلى وطن.
ايلاف
2008 الأحد 17 فبراير