وهكذا يهوى نظام كتمثال عملاق أُزيحت قاعدته
عبد القادر الجنابي
يحق للشعب التونسي أن يفتخر انه الشعب الوحيد الذي غيّر نظاما من دون مساعدة من أي جهة خارجية أو داخلية، أو من توصية حزبية، أو من قائد ما. بل خلت كل مظاهر انتفاضته من أي شعار إسلامي مدسوس واحتلالي معروف: إنها يقظة فجائية من كابوس اجتماعي؛ انتفاض رغبات مقموعة مدون في صفحة بيضاء… وهكذا كلّ شيء مفتوح لكل الاحتمالات. فالليل التونسي تشرق، أحيانا، فيه الشمس، من دون سبب. العفو، لسبب هو أن الشابي، الابن الشرعي لتونس الخضراء، كشاعر، مات شابا أيضا، لم يقل شيئا عبثا:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر…
وقد استجاب القدر فعلا. لماذا؟ لأن الشعب التونسي فهم أخيرا، وبعد 23 سنة من حكم (كان يتقلّب بين عدة وجوه تحررية وقمعية لكن في العمق كان ينطوي على وجه واحد هو الاستبداد)، ما قاله فيلسوف من القرن السادس عشر اسمه لابويتسي، في كتابه الشهير “إرادة العبودية”:
“أيها المساكين التعساء، ايتها الشعوب الغبية، أيتها الأمم البائسة بمحض إرادتها العمياء، عن خيرها، تتركون أرقى عائداتكم تسلب أمامكم، حقولكم تُنهب، منازلكم تُسرق وتُفرغ من أثاثها العتيق، التركة الأبوية. إنكم تعيشون على نحو لا تستطيعون معه القول بأنكم تملكون شيئا، يبدو الآن لفرح عظيم لكم أنكم لا تمسكون سوى نصف أملاككم وعائلاتكم وحياتكم. وكل هذا الضرر، هذا البؤس، هذا الخراب، لا يأتيكم من أعداء، إنما من عدو واحد، هو الذي تكبّرونه إلى هذا الحد، الذين تذهبون من أجله إلى الحرب بشجاعة باسلة، الذي لا تأبون أن تقدموا أنفسكم إلى الموت من أجل عظمته. هذا الذي يحكمكم إلى هذا الحد، ليس لدية سوى عينين أثنتين، يدين اثنين، جسم واحد، أي ليس لديه سوى ما لأحقر فرد من سمان مدنكم. إلا أنّ ما يميزه عنكم هو الامتياز الذي تمنحونه غرض تدميركم. من أين حصل على كل هذه العيون التي يتجسس بها عليكم، إن لم تعطوها إياها ينفسكم؟ كيف يكون له كل هذه الأيدي لضربكم، إن لم يأخذها منكم؟ من أين له هذه الأقدام التي يسحق بها مدنكم، إن لم تكن تلك الأقدام التي هي أقدامكم؟ كيف يمكنه التسلط عليكم إن لم يكن ذلك التسلط تم بواسطتكم؟ كيف يجرؤ الحمل عليكم، إن لم يكن بالتنسيق معكم؟ ماذا يستطيع أن يفعل إن لم تكونوا متواطئين مع السارق الذي ينهبكم، شركاء في جريمة المجرم الذي يقتلكم، وخونة أنفسكم؟ تزرعون ثماركم لكي يتلفها. تفرشون وتملئون منازلكم لتغذية سرقاته، تغذّون بناتكم لكي يجد لذته التي يسكر بها، تربّون أطفالكم لكي يسوقهم في حروبه التي هي أفضل ما يقدمه لكم، لكي يسوقهم إلى المجزرة، لكي يجعلهم وزراء مطامعه، ومنفذي ثأره. إنكم تحطمون أنفسكم بجهدهم، لكي يتنعّم هو بملذّاته. تضعفون أنفسكم لكي تجعلوه أقوى وأصلب؛ للجمكم. على أنه يمكنكم التخلص من كل هذه الإهانات التي ترفضها حتى البهائم ولا تتحملها، إذا ما حاولتم، لا التخلص منها، بل إرادة ذلك. صمموا على الكف عن أن تكونوا عبيدا وها أنتم أحرار. لا أقصد أن تدفعوا به أو تزحزحوه، إنما كفوا فقط عن دعمه وسترونه يهوى ويتكسر بحجم ثقله كتمثال عملاق أُزيحت قاعدته”..
كل ما قام به الشعب التونسي هو أنه قرر أن يكف عن مساعدة نظام؛ أن يصرخ “كفى”، فهوى بن علي كأي قشة في مزبلة التاريخ، بحيث حتى الذين كانوا يسندونه، كالفرنسيين، ابتعدوا عنه وكأنه مصاب بالجذام. للدكتاتور أيضا لحظة مأساة، حاله حال الآخرين.
مهما سيكون مصير بن علي، إلا أن السؤال الجوهري في كل هذا هو: هل، قرار هذا الشعب التونسي الزاخر بنخبة عَلمانية وثقافية وسياسية متقدمة قلّ وجودها في العالم العربي، بأن يكون ذا إرادة صاحية، سينتقل عدواه إلى… سوريا مثلا.
ايلاف