نبدأ من جديد
الياس خوري
في المؤتمر الذي عقده المركز الاعلامي (سكايز) في بيروت 16-17 حزيران، شعرت ان مشروع مؤسسة سمير قصير الثقافية بدأ في التبلور. فالمؤسسة التي نشأت بعيد اغتيال الصحافي والمؤرخ اللبناني في الثاني من حزيران 2005، وجدت صوتها، وبلورت رؤيتها. ذكرى الصحافي الشهيد تعيش في العمل من اجل الحاضر والمستقبل، وفي التمسك بقضية الحرية، والدفاع عنها. فبعدما امتزج حبر الحرية بدم الأحرار، لم نعد نملك سوى خيار واحد، وخيارنا لا لبس فيه: انه الدفاع عن الحرية في هذا المشرق العربي المنكوب بالاستبداد والاحتلال، من اجل صناعة افق جديد للمقاومة، وتحويل ثقافة الحرية من شعار الى ممارسة يومية.
مشينا انا وصنع الله ابرهيم في شوارع بيروت، وكان الروائي المصري مصابا بما يشبه الدهشة وهو يرى كيف استعادت المدينة شكلها وشيئا من وهجها، بعد شهر من ايام الدواليب المحترقة وقعقعة السلاح. قال شيئا عن حيوية اللبنانيين، فأجبته ان هذا المشهد الذي يخفي ظاهره باطنا مترجرجا هو سمة المشرق العربي اليوم. اذكر اني قلت شيئا عن الأمل، فابتسم الرجل النحيل، ولم يجاوب. من الصعب ان يكون الأمل قاسما مشتركا لأيّ لقاء يجمع المثقفين العرب في هذا الأيام. فأنت إما يائس ومحبط، وانت ترى كيف ينحدر التاريخ بك، وإما جزء من هذا الانحدار، وتعيش في نعمة الهاوية التي يصنعها البترو دولار والاستبداد.
خفت في بداية المؤتمر، من ان يفترسنا الأسى، ونجد انفسنا، بدلا من صوغ رؤية للدفاع عن الحرية، نغرق في بؤس رثاء انفسنا والبكاء على اطلال حريتنا الضائعة.
لكن خوفي تبدد لحظة بدأ المؤتمر، واكتشفت في مساهمات زملائي من الكتّاب والباحثين والباحثات اللبنانيين والعرب، ان المعركة هي حول الكتابة نفسها. اي حول امتلاك القدرة على بلورة فكر نقدي انطلاقا من التجربة الملموسة. وهذا ما رسمته الندوة الأولى عن الرقابة وحرية الابداع الثقافي والفني. بدأ صنع الله ابرهيم بحكاية روايته “تلك الرائحة” مع الرقابة المصرية. مزيج من الفكاهة السوداء وغباء الرقيب، جعلا من النص الذي قرأه الروائي المصري اشبه بمقدمة ضرورية لاعادة قراءة تاريخ الرقابة العربية على الأدب في وصفها مجموعة من البنى الكاريكاتورية، التي لم تستطع ان تؤثر في مسيرة الابداع الروائي. اما مداخلة الشاعر السوري فرج بيرقدار فحملتنا الى تجربة السجون الطويلة في سوريا، واقتنعنا مع الشاعر، بأن سجين الرأي يأخذ الحرية معه الى خلف القضبان، وبأن البلاد كلها تصير سجنا حين يكون احرارها في السجون.
المخرج المسرحي اللبناني روجيه عساف نقل القضية الى حيز آخر، وطرح اشكالية العلاقة بين حرية التعبير والتعبير عن الحرية، منطلقا من التجربة اللبنانية ومن غياب التعبير عن الحرية في الواقع اللبناني المأزوم والذي تهيمن عليه البنى الطائفية. اما المخرج السينمائي السوري اسامة محمد فكانت ورقته الممتعة اشبه بسيناريو لفيلم تهيمن عليه الكوميديا السوداء، واخذنا في رحلة من فريق كرة القدم في اللاذقية الى اروقة مؤسسة السينما السورية. نص يسخر فيه الابداع من الرقابة، وتقهقه فيه الحياة، وهي تعلن انتصارها على آلة القمع.
في اللحظة التي نستعيد فيها ثقتنا بالكلمة والكتابة، يبدأ الأمل. يكفي ان نبدأ من هنا. فحيث تكون الكتابة والابداع تكون الحرية. لسنا في حاجة الى اكثر من ذلك كي تكون البداية ممكنة. لذلك قتلوا سمير قصير وجبران تويني، وزجّوا ميشال كيلو ورفاقه في السجون.
على رغم الموت والسجن فالكتابة اقوى، لأن القاتل لا يعرف ان الكلمة لا تموت ولا تسجن، بل تحيا في الآخرين وتتجدد كل يوم.
البداية ممكنة من هنا، لكنها في حاجة ايضا الى رؤية نقدية جذرية. الدفاع عن حرية الصحافيين هو ايضا دفاع عن شرف المهنة وصدقيتها وآفاقها المفتوحة.
في الندوة الثانية حول “المدوّنات والاعلام البديل”، رسم جمال عيد صورة مشرقة عن الدور الذي تقوم به المدوّنات في مصر ولبنان والعالم العربي، بحيث صار كل مواطن قادرا على ان يكون صحافيا على طريقته. وقدّم الصحافي السوري محمد العبدالله شهادة نادرة ومؤثرة عن الانترنت في سوريا تركزت حول تجربة “الدومري السوري”، وهي احدى اهم المدوّنات العربية واكثرها جرأة، وكان مصيرها الاحتجاب، ومصير كتّابها الشباب السجن. وعرض الصحافي الاردني محمد عمر لواقع المدوّنات في الأردن، راسماً حدود هذا الأفق الاعلامي الجديد، كما اشار رئيس الجلسة وسام سعادة الى تلاعب المخابرات بالمدوّنات وتحويلها اداة للشتم والاتهام والقتل. اما رزان غزاوي فتحدثت عن المدوّنات في وصفها فسحة شخصية.
لم يكتف الشاعر عباس بيضون في ندوة “السلطة والصحافة” بطرح اشكالية اعمدة الجمهورية المهددة، او بتحليل الضعف الذي يكاد ان يتحول وحشا يلتهم جمهورية الضعفاء، لكنه صنع من هذا الواقع الهش املاً، عبر كلامه عن التقاء الكلمة بالشارع، حيث “غدت الصحافة متحدة بمثالها، ودم سمير قصير وجبران تويني كانا عمادة هذا الاتحاد”. وقدّم صقر ابو فخر مداخلة حول واقع الصحافة الفلسطينية، اما ورقة عمرو سعد الدين فركّزت على بعض قضايا ملاحقة الصحافيين في الأردن، كما قدّم كمال العبيدي ورقة بانورامية حول محنة الحريات الصحافية في العالم العربي.
الجلسة الختامية في المؤتمر بدأت بمداخلتي روبير مينار (مراسلون بلا حدود) وكريستينا ستوكوود (ايفكس)، قبل ان تنتقل الى الاعلام الفضائي العربي مع نهوند القادري في بحثها الرصين الذي ناقش بعمق نقدي قرار وزراء الاعلام العرب حول الفضائيات، وايهاب بسيسو الذي قدّم قراءة جديدة للاعلام الفضائي الذي يحاول اقتراح تأويلات جديدة للقضية الفلسطينية، وزاهرة حرب التي قرأت الاعلام الفضائي اللبناني بعين جديدة ونقدية.
انتهى المؤتمر كي تبدأ حكاية جديدة، اسمها الدفاع عن الحرية، وهي حكاية تتجدد كل يوم. يكفي ان نمسك بالأقلام ونخلص لحبر الحرية، كي نبدأ، ونواجه هذا الظلام الزاحف، بصحافة حرة ونزيهة واخلاقية، تساهم في تأسيس اعمدة جمهورية الحقيقة.