الفيل الأبيض
صبحي حديدي
بدا واضحاً من المداخلات والأسئلة والتعقيبات علي أوراق ندوة قصيدة النثر، أسئلة الهوية ورهانات المستقبل ـ التي أقامتها مؤخراً هيئة أبوظبي للثقافة والتراث وشارك فيها عباس بيضون وحاتم الصكر وسعد البازعي وكاتب هذه السطور، صحبة قصائد خالد البدور وعلاء خالد ونجوم الغانم وعائشة البصري ـ أنّ قسطاً كبيراً من هموم استقبال قصيدة النثر يتمحور حول مسألتين: هويّة الشكل، أو التباس التسمية علي نحو أدقّ؛ وطبائع تلقّي هذه القصيدة وإشكاليات استقبالها، في ميادين القراءة كما في أشغال النقد الأدبي.
وليس في هذا أيّ جديد، ما خلا أنّ الحياة تقوم بتثبيت حضور هذه القصيدة كلّ يوم، دون أن تفلح القصيدة ذاتها في ردّ القسط الأعظم من الشكوك التي تكتنف شرعيتها بالقياس إلي سواها من أشكال الكتابة الشعرية العربية، وفي جانب واحد محدّد هو تسويغ غياب الوزن عنها، أو التفلسف الذرائعي حول وجود موسيقي بديلة (الإيقاع الداخلي، إيقاع الجملة، إيقاع التجربة، إلخ…). ما هو مدعاة للقلق، فضلاً عن هذا، إنما يتجلي في حقيقة أنّ ميول الصدّ التلقائية التي تبديها الذائقة العربية، المتكئة علي تراث عروضي عريق جبّار يسند الذائقة، المتجبّرة غريزياً كحال كلّ ذائقة، لا تنقلب إلي نوايا حسنة لالتماس جماليات قصيدة النثر في ذاتها، ودونما إحالة تعسفية إلي الوزن بوصفه مرجعية الجنس الشعري الأولي.
والحال أنّ موقف الإلتباس إنما يبدأ من التسمية ذاتها، أي سعي هذا الشكل في الكتابة الشعرية إلي خلق مقولة ثالثة تتوسط بين، أو أحياناً تتنازع وظائف، المقولتَين الرئيسيتين الراسختين في خطاب التعبير الأدبي: مقولة الشعر، التي تحيل إلي الوزن علي اختلاف أنماطه، وبصرف النظر عن قيوده وحرّياته؛ ومقولة النثر، التي تحيل في المنطق البسيط إلي كلّ ما لا يُصنّف في عداد الشعر، أو الذي يُكتب باستخدام لغات غير شعرية إذا جاز التعبير، تعتمد غالباً الإيعاز الملموس والتصريح المباشر والتقرير والتوثيق والسرد، وما إلي ذلك من تقنيات القول.
هذا هو السبب الأبرز، دون أن يكون الأوحد، في أنّ تسمية قصيدة النثر ليست مستقرّة تماماً، والإجماع عليها خضع ويخضع لأخذ وردّ، ودرجات متباينة من الحيرة والإرتباك وانعدام الدقة: الشعر المنثور ، و النثر الشعري ، و النثر المشعور ، و النثيرة ، و الخاطرة الشعرية . الأرجح أنّ هذا، أيضاً، هو السبب في لجوء البعض إلي تسميات تخلط الجدّ بالهزل (كما في رأي الناقد المصري د. أحمد درويش، الذي اقترح تسمية عصيدة النثر لأنّ قصيدة النثر في نظره تقوم علي خلائط شتي)، أو أخري تذهب إلي مرجعية التصنيف الجنسي (كما في تسمية الجنس الثالث أو اصطلاح الكتابة الخنثي الذي اقترحه الشاعر الفلسطيني عزّ الدين المناصرة).
وبالطبع، يظلّ أبرز الأسئلة ـ علي ضفة التشكيك وضفة القبول، سواء بسواء ـ ذاك الذي يخصّ خطل أو صواب القول بتوفّر إيقاع خاصّ في قصيدة النثر، أو موسيقي داخلية تعوّضها عن الإيقاع الخارجي؛ وما إذا كان صحيحاً الجزم بأنّ قاريء اليوم لم يعد يجد نفسه في هذه الزلزلة السطحية الخداعة لطبلة أذنه ، كما اعتبر أنسي الحاج؛ أو أنّ بديل إيقاع الوزن الطاغي يمكن أن تؤمّنه موسيقي الإستجابة لإيقاع تجاربنا المتجددة في كلّ لحظة كما ساجل أدونيس. بيد أنّ تطوير مقترحات إيقاعية نابعة من شعريات النثر ذاته، بوصفه الوسيط الخطابي في الكتابة الشعرية، تعثّر منذ التجارب الأبكر في قصيدة النثر العربية، ثمّ أخذ يتباطأ تدريجياً، أو صار هاجساً هامشياً بالقياس إلي التركيز الشديد علي اعتبارات شكلية أخري توجّب ترقيتها إلي مصافّ البصمات الأسلوبية الكبري التي ينبغي أن تميّز هذه القصيدة!
كان الأمر، ويظلّ، مؤسفاً وباعثاً بدوره علي قلق عميق إزاء الإخلال بحقوق التعاقد مع قاريء عربي أثبت أنه يَقْبل، ويُقْبل علي، الجديد والطليعي والحداثي في الشعر كما في الفنون الأخري، لكنه لا يمكن أن يُمسخ إلي فأر تجارب إبداعية مفتوحة متواصلة، سيّما وأنها غالباً تجري في حال من تضادّ عنيف مع المنطق الجمالي ـ الإجتماعي السائد. ومع استثناءات قليلة، لكنها حاضرة بقوّة لحسن الحظّ، استقال معظم الشعراء من همّ الإجتهاد في جَسْر الهوّة بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وتركوا المهمّة لمحاولات التنظير النقدية المحدودة: نقاش البُنية الكمّية في العروض العربي (بالمقارنة مع البُنية النبرية في الشعر الأنغلو ـ ساكسوني، والبُنية المقطعية في الشعر الفرنسي)؛ وتوسّل آفاق إيقاعية جديدة بوسيلة مصالحة نظام التفعيلة ونظام النبر (جهود محمد النويهي، التي كانت تستكمل ريادة محمد مندور لهذا النقاش)؛ والمحاولات اللاحقة للإستعاضة عن مصطلحات تقنية صرفة، مثل السبب والوتد والتفعيلة والبحر، بمصطلحات وصفية إنشائية مثل النواة الإيقاعية والوحدة الإيقاعية والتشكّل الإيقاعي (كمال أبو ديب)…
وإذا كانت إحدي التسميات الأمريكية لقصيدة النثر قد اختارت لها صفة الفيل الأبيض ، فإنّ الشاعر البريطاني الكبير و. هـ. أودن اختار لشاعرها صفة… روبنسون كروزو في الجزيرة المنقطعة عن العالم، حيث توجّب أن يعتمد علي نفسه في كلّ شيء، من القنص والزراعة إلي الطبخ وجلي الآنية! والطبيعيّ أنّ لا يحسب شاعر قصيدة النثر العربية المعاصرة أنه في وضع أفضل، وأن لا يري مشروعه الإبداعي أقلّ مشقة.
القدس العربي