عن حق تقرير المصير من الخرطوم إلى بغداد
سلامة كيلة *
نشهد عودة للمطالبة بحق تقرير المصير، الذي يحدَّد مسبقاً بتحقيق الاستقلال. فجنوب السودان أجرى استفتاء يوم 9/1/2011 لتقرير المصير، ومسعود البارزاني أشار في مؤتمر حزبه إلى ضرورة مناقشة مسألة حق تقرير المصير، وربما نشهد هذا العام مطالبات أخرى.
وفي الوطن العربي يتداخل أكثر من مستوى حول الموضوع، ليبدو مبدأ حق تقرير المصير هو حق التفكك والتفتيت. فأولاً لا بد من تحديد معنى حق تقرير المصير، وهو مميّع إلى أبعد مدى، وربما كان اختصار المبدأ إلى حق تقرير المصير فقط يشير إلى ذلك، حيث إن هذا الحق أعطي للأمم، سواء وفق المبدأ الذي طرحه الرئيس الأميركي ويلسون بعيد الحرب العالمية الأولى، أو وفق شرعة الأمم المتحدة التي أخذت بتصور ويلسون، وكذلك وفق التصور الماركسي الذي يقول بمبدأ «حق تقرير المصير للأمم» وليس لأي كان. ولا شك في أن شطب كلمة أمم من هذا الحق كان يفتح على فوضى، واستشراء نوازع ذاتية، لأنه يصبح من حق أي مجموعة كانت، سواء قبيلة أو منطقة، أو طائفة، أو مجموعة صغيرة مميزة، أن تطالب بـ «حق تقرير المصير»، حيث يغلب هنا النزوع الذاتي لهذه المجموعة أو تلك، ولا تعود المسألة متعلقة بتطور تاريخي، وبتبلور تكوين مجتمعي متميز من زاوية الطابع القومي في سياق صيرورة تطور على مدى تاريخ طويل. هنا لا يعود للتاريخ معنى، بل يصبح كل المعنى للنزوع الذاتي.
وفق هذه النظرة تصبح المسألة هي مسألة تقرير المصير على حساب الأمة وفي سياق تفكيكها، وليس من أجل أن تقرر مصيرها. فقد شطبت الأمة أصلاً، ليصبح تقرير المصير هو منزع ذاتي كما أشرنا، وهو منزع ذاتي في الأمة، ومن بنيتها. ولهذا سنلمس أن كل دعوات تقرير المصير تقوم على «جثة» الأمة في الوطن العربي، سواء لمصلحة الدولة القطرية أو لمصلحة الطوائف والقبائل، أو لمصلحة الأقليات القومية… الأمر الذي جعل كل دعوة إلى الوحدة العربية شوفينية، وكل رفض للدولة القطرية تجاوزاً لمنطق التاريخ. وأصبح حق تقرير المصير لا يعني سوى التحلل من التشكل القومي العربي.
إن التزام مبدأ حق تقرير المصير، إذاً، يعني حق الأمم في استقلالها ووحدتها، وهذا ما ينطبق على العرب، ويجب أن يكون واضحاً أنه الحق في تجاوز الدولة القطرية نحو تشكيل الدولة/ الأمة. فهذا هو منطق «العصر الرأسمالي»، ومنطق التكوين العالمي الذي أوجدته الرأسمالية، فلا إمكانية لحداثة وتطور من دون أن يكون هذا الحق في صلب كل ذلك. لأنه هنا يمكن تجاوز البنى التقليدية القائمة على أساس القبيلة والمناطقية والدين والطائفة نحو وعي حداثي يقوم على أساس قومي. وهنا يمكن تجاوز التكوين الإمبراطوري السابق للرأسمالية نحو تشكيل الدولة/ الأمة.
إذاً، لا بد من أن تعاد صياغة مبدأ حق تقرير المصير على أساس أنه يتعلق بالأمم وليس بالنزوع الذاتي لأي مجموعة. حق تقرير المصير يخص الأمم وليس الأقليات القومية أو الدينية أو المناطقية. ولهذا حين طرح هذا المبدأ في الوطن العربي لا بد من أن يكون واضحاً أنه يخص العرب كما يخص القوميات الأخرى.
وبالتالي لا بد من أن يعاد التركيز على هذا الموضوع على ضوء مسار التفكك والتفتيت الذي بات يتهدد الوطن العربي. بات يتهدد الدولة القطرية ذاتها، التي لا تبدو أنها تشكل، أو استطاعت أن تشكل، بديلاً من النزوعات ما قبل قومية (الدينية والطائفية والقبلية والمناطقية)، أو من الأمة ذاتها. فـ «شرعيتها» لا تعدو أن تكون نابعة من «ذاتها»، أي ليس من التاريخ، من التطور التاريخي. وقد نُظر إليها على أنها فعل «خارجي» مناقض لتشكل تاريخي.
لكن، حين يتعلق الأمر بالأكراد في العراق أو في ما يتعلق بجنوب السودان، فسيكون الوضع مختلفاً. والمشكل هنا يتمثل في أن هاتين الحالتين يجرى خلطهما بأشكال أخرى لا تمتلك الأسس ذاتها، على رغم أنهما يتحولان إلى «مثال» لطائفة من المجموعات التي توضع تحت الحالة ذاتها، بمعنى تأكيد الحق في الاستقلال.
فالأكراد في شمال العراق هم جزء من أمة تتوزع بين العراق وإيران وتركيا، وبالتالي لا شك في حقهم في الاستقلال والتوحد. وجنوب السودان يمثل شعباً آخر، على رغم أنه لم يتحدد في تكوين خاص وظل مندمجاً في دولة السودان، لهذا لا يزال يبحث عن إسم لدولته الجديدة. وهنا لا شك في ضرورة التشديد على حق تقرير المصير، وبالتالي على الحق في الاستقلال.
وكان يجب على الحركة التحررية التي اجتاحت الوطن العربي منذ خمسينات القرن العشرين أن تعالج هاتين المسألتين انطلاقاً من مبدأ حق تقرير المصير، لكن النظم التي نشأت حينها سارت نحو الدمج، وعدم الاعتراف بحق هذه المجموعات، وأكثر ما تحقق هو «الحكم الذاتي» في العراق في نظام كان يلغي أصلاً كل حق لكل المواطنين.
وهو الأمر الذي دفع نحو التورط في حرب مديدة. وقد نشأ الميل الاستقلالي لجنوب السودان نتيجة طبيعة السلطة التي شكلتها قوة أصولية حكمت على أثر انقلاب قامت به عام 1989، وسعت إلى «أسلمة» المجتمع، لكنها فرضت وضع السودان على أبواب التفكك. فقد دمرت اقتصاد السودان بفعل النهب الذي مارسته، ودمرت القوى الحداثية التي كانت عماد اللحمة في المجتمع بفعل تخلفها الأصولي، وفتحت معارك من كل قطاعات الشعب.
وبالتالي إذا كانت عملية النهوض التحرري لم تحمل الأمل لهاتين القوميتين، فقد بات الأمل ممكناً في لحظة سيادة موجة التفكك والتفتيت التي يتعرض لها الوطن العربي. وهنا بدت وكأنها جزء من هذه الموجة، فتراجع حقها الطبيعي لمصلحة مشروع أشمل، هو مشروع التفكيك والتفتيت. وهو الأمر الذي يوجد ردود الفعل المتشنجة ضد طموحاتها، خصوصاً أن قياداتها تنجرف بعيداً في استغلال الوضع، وتبدو أنها جزء من مشروع التفكيك والتفتيت.
حقها في الاستقلال لا شك فيه، لكن عليها أيضاً أن تقرّ بحق العرب في الاستقلال والوحدة، فنحن في كل الأحوال نعيش المنطقة ذاتها، وهناك تاريخ طويل من الترابط الذي سيبقى قائماً. أما الاستغلال «الخارجي» فسينتهي لأن الأمم لا تندثر، وطموحها لتحقيق الاستقلال والوحدة لا يتوقف.
* كاتب سوري