عن جذور الثورة الإسلامية في إيران: عندما يتحول الإسلام إلى إيديولوجيا قومية
عمر قدّور
قليلة هي الدراسات العربية، أو المعرّبة، عن الثورة الخمينية في إيران، أو حتى عن الصيرورة السياسية التي أوصلت إليها. وبالعودة إلى عام 1979 فقد بدا الانقلاب على الشاه محطّ إعجاب من قبل قسم من الشارع العربي، الذي أخذ على الشاه تبعيته للولايات المتحدة الأمريكية وصداقته لإسرائيل،
كما كان مصدر خوف وتوجس لقسم آخر تحسَّبَ من تصدير الثورة الخمينية إلى دول الجوار. وباستثناء ما تروّجه الماكينة الإعلامية للحكم الإسلامي الحالي بقيت إيران غير معروفة جيداً، سواء نُظر إليها كتهديد للمنطقة، أو كصديق من قبل البعض، مع أن معرفة إيران أضحت شأناً ضرورياً في الدوائر السياسية الغربية بعدما فاجأت ثورة الخميني تلك الدوائر، وفاجأت خاصة أولئك الذين أخطأوا في تقدير حجم الإسلام الإيراني وفعاليته.
يرى سبهر ذبيح في كتابه “جذور الثورة الإسلامية في إيران” أن دراسة الثورة تستدعي دراسة دقيقة ومتأنية لتجربة محمد مصدّق. ومع أن حامل عهد مصدّق تجلى في العصبية القومية المناهضة للغرب “بريطانيا حينئذ”، بينما حملت ثورة الخميني عصبية إسلامية مناهضة للغرب أيضاً “الولايات المتحدة”، لكن العداء للغرب ليس نقطة الالتقاء الوحيدة، كما أن الأصول الفكرية المختلفة للتجربتين لا تؤدي إلى دلالات مطلقة، فتجربة الحكم تفرض شروطها الموضوعية على الإيديولوجيا الحاكمة. بالطبع لا يمكن استبعاد تأثير العوامل الخارجية في تجربة مصدّق، أو في التجربة الإيرانية الراهنة، لكن المؤلف يرى أن معاينة الواقع الإيراني خلال النصف الثاني من القرن العشرين هي الأكثر دلالة لناحية توزع المصالح الداخلية، ولناحية مستقبل التجربة الإيرانية الراهنة، بعدما تجاوزت مرحلة الثورة وإن احتفظت بشعاراتها. ولعل أهم التيارات التي يعنينا دورها، بدءاً من تجربة مصدق وانتهاء بالتجربة الخمينية، هما التياران الإسلامي والقومي، خصوصاً بعد القضاء على التنظيمات اليسارية في مستهل عهد الخميني، بالإضافة إلى انحسار دور اليسار على الصعيد العالمي. وبناء على ذلك نستطيع القول إن الساحة الإسلامية الإيرانية الحالية يتقاسمها الإسلاميون، والقوميون بالدرجة الثانية، على اختلاف تنظيمات هذين التيارين، وحتى تقاطعهما أحياناً، وإذا بدت قوة الإسلام السياسي مفاجئة مع انقلاب عام 1979 فإن هذا يتطلب العودة إلى الجذور، وتفحّص دور آيات الله خلال حكم الشاه والمصالح التي عبّر عنها هؤلاء.
توضّح تفاصيل الأحداث التي أعقبت وزارة مصدّق الأولى طبيعة الحراك السياسي الإيراني، فبعد تنحية مصدّق تمت تسمية أحمد قوام بدلاً منه، ومن أخطر النقاط التي جاءت في البيان الحكومي للأخير هي الإشارة إلى المفهوم الليبرالي لفصل الدين عن الدولة، وبدا اقتراح طلاق السياسة من الدين وكأنه إنذار على وجه الخصوص للجماعات القومية في البازار، والطبقة الوسطى الميالة إلى الدين، واللتين حرّضهما قادتهما على اعتبار الصراع ضد بريطانيا مهمة دينية مقدسة. وبالفعل، وبحلول ذلك الوقت، تلبست الحركة القومية هذه الطبيعة الدينية السياسية، حتى بات من المستحيل فصل عوامل الصراع المختلفة، أو إرجاع جهود إيران في مواجهتها مع بريطانيا بشأن تأميم النفط إلى اتجاه قومي محض. وقد كلّف هذا الخطأ حكومة أحمد قوام غالياً عندما أسرع آية الله قاشاني، زعيم التيار الإسلامي حينها، إلى استغلال ذلك لإشعال نار العداء ضد الحكومة، وجهر علناً بأنه يدرس إمكانية تصفية رئيس الوزراء الجديد، وأن هذا واجب مقدس يقع على عاتق كل مسلم مخلص، كما وصف فكرة فصل الدين عن السياسة بالخيانة العظمى. من المعروف أن مصدّق كان يتزعم الجبهة القومية حينها، لكن ما لا يتم تداوله كثيراً هو الدور الحاسم لآية الله قاشاني في إعادة مصدّق إلى رئاسة الحكومة، عقب ما عُرف بانتفاضة تموز عام 1952، فقد اتخذ الأول أكثر ردة فعل ثورية يمكن أن يتخذها قائد شيعي في مرتبته، إذ أصدر فتوى لعناصر القوات المسلحة تطلب منهم الانضمام إلى الجماهير في صراعها ضد الحكومة. وقد كان آيات الله يصدرون مثل هذه الفتاوى فقط عندما يتعلق الأمر بمواجهة الجيوش الأجنبية، أو دفاعاً عن الدين عندما يهدده الملحدون. لكنها كانت المرة الأولى التي يكون فيها أحد آيات الله مسيَّساً إلى الحد الذي شجّع فيه قاشاني تمرداً مسلحاً، لكي يُجبر الشاه والبرلمان على التخلص من رئيس وزراء عُيّن بشكل قانوني، إذ كانت الفتوى تدعو حرفياً إلى العصيان العسكري بوصفه واجباً دينياً مُلزماً، ما دفع الشاه إلى سحب الجيش من الشوارع والإذعان لمطالب الجماهير بتسمية الدكتور مصدّق رئيساً للوزراء.
بعد تقاسم النصر بين مصدّق وآية الله قاشاني، حيث عُيّن الأخير ناطقاً باسم البرلمان، أخذت التباينات تظهر إلى العلن، عندما باشر مصدّق حملة من الإصلاحات الراديكالية بالنسبة للسياسة الإيرانية على الصعيدين الخارجي والداخلي. وكانت معارضة الشاه للإصلاحات متوقعة لأنها تنتقص من سلطاته الدستورية وتدخلاته غير الدستورية، بالإضافة إلى معارضة طيف واسع من النخبة السياسية التقليدية، لكن المعارضة الأهم أتت من التيار الإسلامي بقيادة قاشاني، وربما يصحّ وصف مرحلة حكومة مصدّق الثانية بأنها مرحلة التنازع في النفوذ بين التيارين القومي والإسلامي، مع عدائهما لليسار الذي مثّله آنذاك حزب توده وتنظيماته الطليعية. لم تكن ديكتاتورية الشاه المدعومة بالجيش قادرة على مواجهة القوميين والإسلاميين معاً، وكان الشاه أقرب إلى قبول القوميين والإسلاميين من أن يرى تعاظماً لنفوذ اليسار. وكما كان انضمام قاشاني إلى مصدّق حاسماً في عودة الأخير إلى السلطة، فقد كان انشقاقه عنه حاسماً في سقوط تجربة مصدّق، وهذا الدور لم تتم دراسته جيداً من قبل الشاه، أو القوى الدولية الداعمة له، فتوجهت المعركة ضد الجبهة القومية وحزب توده، وكأن عودة قاشاني إلى التحالف مع الشاه أقنعته وحلفاءه بأن الإسلاميين عادوا إلى ممارسة دورهم التقليدي المحافظ في السياسة الإيرانية.
لقد أساء الشاه تقدير فعالية آيات الله خلال تجربة مصدّق، فانصبت جهوده البوليسية على سحق اليسار والانتقام من الحركة القومية. وفي الواقع قدّم أداء الشاه خدمة جليلة لآيات الله، إذ أزاح من أمامهم المنافس السياسي الوحيد الذي يُعتدّ به. إن أهمية ما حدث توضحها طبيعة المصالح الاجتماعية المتباينة، فمن المتوقع طبعاً أن يستقطب حزب توده فئات الفقراء والكادحين، بينما يستقطب الشاه كبار التجار المستفيدين من العلاقة بالغرب، أما الطبقة الوسطى من الموظفين وتجار البازار وغيرهم فكانت الحامل الاجتماعي للحركة القومية والإسلامية، ومن الواضح أن شعارات فك التبعية والعداء للغرب لا تسبب الأذى لهذه الشريحة بقدر ما تروق لها. وإذا أشرنا سابقاً إلى الصبغة الدينية للحركة القومية فلأن القومية الإيرانية لم تعد منفصلة عن الإسلام منذ ذلك الوقت، فتحوّلَ الإسلام الشيعي الإيراني إلى نوع من إيديولوجيا قومية، أو ما يمكن أن نطلق عليها إيديولوجيا تحرر وطني. وعلى سبيل المقارنة كانت القومية العربية مسوغاً للانفصال عن السلطنة العثمانية، حيث كان الدين جامعاً، بينما كان الإسلام الباكستاني مسوّغاً للانفصال عن الهند، أما في التجربة الإيرانية فقد التبس الإسلام الشيعي بالنزعة الفارسية إلى حدّ مهيمن. ومن ناحية أخرى تمتاز المرجعية الدينية الشيعية بقوة تأثيرها على أتباعها، وهذا ما يُكسبها ثقلاً كبيراً عندما تقرر هذه المرجعية الاشتغال بالسياسة، ومع تضافر هذه العوامل سيكون مفهوماً ذلك الانقلاب الساحق الذي قام به آيات الله على حكم الشاه.
قد تتقاطع تجربة الشاه مع تجارب أنظمة أخرى في المنطقة، من حيث أن التفرغ لمحاربة اليسار والقوى الليبرالية قد أفسح المجال أمام الحركات الإسلامية، كما أن انحسار المدّ القومي سوّى الأرض أمام تلك الحركات. لكن الاستثناء الإيراني تجلى في قدرة آيات الله على استثمار الإرث الوطني لتجربة مصدّق، والترويج الساحق لعصبية عمادها الدين. وبوسعنا القول إن تجربة الشاه في تحديث إيران لم تلامس شرائح واسعة من المجتمع الإيراني، وفيما عدا الماكينة العسكرية والبوليسية اقتصرت قاعدة النظام على بعض المستفيدين من الريع النفطي، وبعض التحالفات العشائرية، والتجار الكبار الذين لم يشكلوا نواة رأسمالية تشتبك بالاقتصاد العالمي، في الوقت الذي كان فيه التجار الصغار، وما يمكن أن نسميه رأسمالية صغيرة، يتطلعون إلى احتلال مواقع متقدمة في الاقتصاد الإيراني، ولهذا كانت طبقة تجار البازار في طليعة المستفيدين من ثورة الخميني، ولم تكن بالتأكيد متضررة من نشوء رأسمالية دولة دينية، مع أن نسبة كبيرة من هؤلاء لم يخوضوا صراعاً ضد الشاه من أجل استبداله بجمهورية ثيوقراطية إسلامية. وإذا استبعدنا التدخلات الخارجية الدراماتيكية فقد يكون مستقبل الجمهورية الإسلامية رهناً بالتحولات الاقتصادية، وتطور الاقتصاد الإيراني بحيث يصبح الاندماج بالاقتصاد العالمي حاجة ملحة.
يُسجّل لقادة الجمهورية الإسلامية أنهم تحاشوا الأسباب التي أودت بتجربة مصدّق، وإذا عبّرت ثورة عام 1979 في البداية عن ائتلاف واسع من اليسار والقوميين والقادة الدينيين فقد استطاع رجال الدين إقصاء التيارات الأخرى مبكراً، مستغلين تفككها وانشقاقاتها في المقابل من وجود قيادات ديناميكية مثل آية الله خميني وشريعتمداري وطالقاني. ومع هذا لا يعدّ تراجع الحركة القومية نهائياً، فقد شهدت السنوات الأخيرة عودتها بعد أن تخلت عن جزء من ليبراليتها انسجاماً مع مبادىء الجمهورية الإسلامية، وعاد بعض القوميين إلى التحالف مع السلطة القائمة. لكننا لا نستطيع وصف الوضع الإيراني الداخلي بالمستقر تماماً، فقد شهد القرن الماضي دورة من الاضطرابات الثورية التي وصلت إلى ذروتها في عام 1979، وليس ثمة تأكيد على أن ثورة الخميني هي نهاية هذه الدورة. ففي إيران، كما في العديد من الدول النامية، لا شيء يمنع حدوث انفجارات ثورية دورية سوى المأسسة الناجحة لتوازن السلطة بين كل المطالبين بها