في المقاهي جيل غاضب يزحف من الهامش إلى المتن
محمد الكفراوي
حياة بأكملها يمكن للمرء أن يعيشها خلال يوم واحد في منطقة وسط البلد بالقاهرة، ما بين مقاهي المثقفين والجاليريات الفنية والمسارح والمراكز الثقافية المستقلة والأجنبية ودور النشر والمكتبات. لقد أصبحت هذه المنطقة التي تمتد من شارع رمسيس شمالاً إلى شارع المبتديان جنوباً، ومن ميدان الأوبرا شرقاً إلى نهاية حي الزمالك غرباً بمثابة مجتمع ثقافي متكامل، يتمتع بفضاء مفتوح على شتى التيارات والأفكار والرؤى الفنية والأدبية.
منطقة وسط البلد أشبه بالكائن الحي الذي يمر بتغيرات فسيولوجية ونفسية وفق قوانين وتقلبات الطبيعة وأيضا بفعل الزمن. ففي منتصف القرن الماضي كانت هذه المنطقة تلعب الدور نفسه، لكن ليس بنفس الزخم، حيث كانت الأنشطة الثقافية تقتصر على جلسات بين المثقفين في مقاه محدودة، مثل مقهى «ريش» و«ايزافيتش». وكان ثمة بائع جرائد واحد يمتلك مكتبة صغيرة، وما زال هذا الرجل ـ محمد مدبولي ـ موجوداً بعد ان اتسعت مكتبته، إلا أنه لم يعد الوحيد، فقد ظهرت عشرات دور النشر والمكتبات كما أن المقهيين اللذين كانا مشهورين لدى الانتليجنسيا، اختفيا أو تغير نشاطهما، وظهرت مقاهٍ أخرى مثل:«الحرية» و«سوق الحميدية» و«الندوة الثقافية»، والبعض الآخر كان موجوداً وبدأ يكتسب سمة الثقافي في عقدي الثمانينات والتسعينات مثل:«زهرة البستان» و«ليبتون» الشهيرة بالتكعيبة و«البورصة» و«شامبليون» و«روميسا» و«افتر ايت» و«المنظر الجميل». هذه المقاهي تلعب اليوم، دورا ثقافيا غير رسمي كان مقتصرا في السبعينات والثمانينات على «أتيليه القاهرة» و«حزب التجمع» و«مقهى ريش»، وهو الدور المتمثل في تمجيد ثقافة الهامش مقابل ثقافة المتن التي ترعاها المؤسسة الرسمية. وفي الفترة الأخيرة أصبحت المقاهي والمؤسسات الثقافية المستقلة مثل «التاون هاوس» و«مسرح روابط» و«ساقية الصاوي» تشكل ما يشبه المؤسسات البديلة، فتستضيف مهرجانات وندوات وأنشطة فنية وأدبية تكاد تكون منبوذة أو مرفوضة من قبل المؤسسة الرسمية دون قطيعة كاملة. وهو ما ظهر جلياً في استضافة «مسرح روابط» المستقل لمهرجان المسرح الذي كان مقرراً انعقاده في «مسرح الهناجر» التابع لوزارة الثقافة بسبب الترميمات التي تجرى فيه، مما يعني وجود صيغة للتفاهم والتعاون بينهما. في حين أن مؤسسات أخرى أو جمعيات أهلية مثل «اتيليه القاهرة» أو أحزاب مثل «حزب التجمع» استضافت مهرجان الشعر البديل، في رد شديد اللهجة على مهرجان للشعر أقامته وزارة الثقافة ولم تدع إليه عدداً كبيراً من الشعراء المميزين، كما استبعدت معظم شعراء قصيدة النثر، خاصة أبناء الجيل التسعيني.
وعلى أجندة وسط البلد ثمة، دائماً، ندوات ومسرحيات وأفلام ذات طابع خاص، وعدد كبير من دور النشر والمكتبات بالإضافة إلى المقاهي التي تعج بالأدباء والراغبين في دخول مجال التمثيل أو الغناء، ناهيك عن خليط من المصريين والعرب والأجانب ومعظمهم لهم علاقة بالأدب أو الفن، مما يجعل المنطقة بمقاهيها الشعبية تشكل، في رأي البعض، زخماً ثقافياً له طابعه الخاص. في حين يرى البعض الآخر، ومنهم الناقد فاروق عبد القادر أن وسط البلد، في الستينات والسبعينات، كان أكثر تميزاً، فكل تجمعات المثقفين كانت تتمركز حول ميدان سليمان باشا «طلعت حرب» وكنا ـ والكلام لعبد القادر ـ إذا دخلنا إلى مكان في تلك المنطقة نجد شخصاً يعرفنا ويعرف أعمالنا، أما الآن فأي منطقة يتجمع فيها أشخاص معنيون بالكتاب وما إلى ذلك سواء في المهندسين أو مدينة نصر يمكن أن نطلق عليها وسط البلد. وأضاف:«وسط البلد ليس مميزاً في حد ذاته، وإنما يعود تميزه لتاريخه العريق. أما من يجلسون في «زهرة البستان» فلا يمثلون ظاهرة ولا يذهب إليهم إلا من يعرفهم. وأنا أتعجب من الناس الذين يقضون معظم حياتهم في المقاهي ثم يدّعون أن لديهم رؤية ثقافية، ولا أعرف من أين لهم الوقت لتكوين تلك الرؤية، متى يقرأون أو يكتبون؟ كنا في الماضي نجلس في المقهى لساعة أو ساعتين، ونسأل بعضنا بعضا: ما رأيك في رواية فلان أو الكتاب الفلاني باعتبار أننا جميعا قرأنا هذا الكتاب. أما السؤال الذي يطرحونه الآن هل قرأت الكتاب الفلاني لأنهم لا يمتلكون الوقت الكافي للقراءة، فما بالك بالإبداع». ويخلص عبد القادر إلى أنه ليس ضد هذه التجمعات، أو الندوات التي تقام في مؤسسات مستقلة، لكن جدواها يتوقف على موضوعها وضيوفها، وهو ينأى بنفسه عن المشاركة فيها لموقف شخصي.
لكن «التنوع الثقافي الذي يمثله وسط البلد باحتوائه لكل التيارات الأدبية والسياسية والفنية بالإضافة لوجود جميع الجنسيات يقربنا من فكرة «الكزموبوليتية» كما تجلت في إسكندرية القرن الماضي»، هذا ما أكده الروائي مكاوي سعيد. وأوضح «أن السنوات القليلة الأخيرة، شهدت تغيرات جذرية في البنية الثقافية لوسط البلد فلم يعد يمر أسبوع إلا وبه حدث ثقافي يستحق المتابعة. هناك على الدوام عروض ندوات ومسرحيات وأفلام ومعارض تشكيلية. إنه باختصار المناخ الملائم ليعرض كل مبدع فنه كما يريد دون أن يملي عليه أحد الشروط التي يجب أن يلتزم بها».
من جهته قال عبد المنعم تليمة، أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة:«أعرف وسط البلد منذ الأربعينات، كان يموج بالفنانين والمثقفين والسياسيين من أبناء الطبقة الوسطى التي قادت حركة النهضة والاستنارة. لكن في منتصف القرن الماضي بدأت هذه المنطقة تتردى سواء على المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو حتى العمراني. أما في السنوات القليلة الماضية، فقد شهدت المنطقة حراكاً عاماً، وبدأنا نشهد فيها تظاهرات وتجمعات ديمقراطية، وإحياء لدور العرض السينمائية والمسرحية، كما بدأنا نرى مكتبات عصرية وأندية ومقرات لأنشطة حزبية ونقابية، مما يدعم الدور الايجابي لتلك المنطقة في صنع الحراك العام».
الأدباء الشباب هم أكثر الفئات التي تعتبر وسط البلد بيئة طبيعية وصحية مناسبة لهم، يلتقون في المقاهي، ويتبادلون القصص والآراء حول يوم عملهم في المؤسسات الثقافية أو الصحافية حتى يصل الحديث إلى إبداعهم أو إبداع الآخرين الذي أثار ضجة، ولقي قبولا واسعا في الوسط الأدبي المصري أو العالمي.
الروائي الشاب طارق إمام أكد أن وسط البلد لم يعد مجرد مكان لالتقاء المثقفين، بل أصبح صانعاً للحدث الثقافي مثل «مهرجان السينما المستقلة» الذي أقيم بديلا عن «مهرجان القاهرة السينمائي» بعد استبعاد تجارب العديد من الشباب. وهذا المؤتمر البديل تم تنظيمه ووضعت الخطوط الرئيسية له داخل مقهى، كما أن هناك الكثير من دور النشر التي ظهرت اخيراً وليس لها مكان محدد، وإنما يتم التعامل مع المسؤولين عنها من خلال المقاهي سواء دار «ملامح» أو غيرها. أضاف طارق: هناك عمل حقيقي حتى أن مقهى مثل «التكعيبة» تقام فيه ندوات. وانتشار الأجانب الدائم في مقاهي وسط البلد جعل الكثير من المهتمين بالترجمة منهم يتعاملون مع المكان باعتباره يضم أدباء ومبدعين يفكرون بشكل مختلف ويحملون فكراً جديداً. وأشار طارق إمام إلى أن وسط البلد استطاع أن ينتج منظومة ثقافية متكاملة سواء في الأدب أو السينما أو الغناء، وأصبحت هناك أماكن كثيرة، وخيارات جمة أمام المبدعين الذين لم يكن أمامهم في التسعينات سوى «آتيليه القاهرة» باعتباره مكاناً أوحد للمثقفين.
«اشعر تجاه وسط البلد بمشاعر متناقضة ما بين المكان الذي أجد فيه أشباهي من الناس لتبادل الحوار وما بين المستنقع الذي يأكل عمر الناس». هذا ما بدأ به الشاعر والسيناريست الشاب رامي يحيى كلامه، مشيراً إلى أن الادعاء موجود بكثرة في وسط البلد فكل أربعة أو خمسة أشخاص يكونون شلة ثم يطلقون على أنفسهم جماعة أدبية. تجد في وسط البلد أناسا عجبا، وتسمع كلاما أعجب، بينما الإبداع الحقيقي يتوارى ويحتجب لأنه ببساطة شديدة خارج السياق أو ضد المألوف». إلا أن رامي يحيى يؤكد على وجود أماكن تقدم فنونا مختلفة بعض الشيء، مثل «التاون هاوس» و«روابط» اللذين يسميهما بالتوأم الملتصق بالكراج، نظرا لوجود كراجين متجاورين يقدمان فيهما أنشطتهما. فهذان المكانان بحسب رامي يطرحان مساحة للاختلاف، بينما هناك مراكز ثقافية أخرى تتعامل مع الثقافة باعتبارها مشروعاً استثمارياً. وتظل الأماكن التي يمكن التحرك فيها مفرزة بحسب الاختصاص، فمحبو الموسيقى والغناء يجلسون في هذا المقهى، ومحبو الأدب في ذاك، ومحبو المسرح والسينما في مقهى آخر، إنها تقسيمة قديمة خرجنا فوجدناها كذلك، ولا نستطيع أن نغيرها.
الروائي الشاب نائل الطوخي يرى أن سر انجذاب شباب المبدعين لمنطقة وسط البلد هو تلك الهالة التي تحيط بالمنطقة، بدءا من نمطها المعماري المميز، وليس انتهاء بما تبثه من حنين رومانسي نظرا لكونها في قلب المدينة ومجالا لالتقاء من يسكنون شرق القاهرة ومن يأتون من غربها. لكن ما هو أكيد ان ما ينتعش وسط البلد هو حالة ثقافية خاصة فرضت نفسها بقوة على الواقع الثقافي المصري.
نشر في المنتدى الثقافي، جريدة الشرق الأوسط في 26/6/2008