منشطات وطنية
رزان زيتونة
لم تعد الإعلانات العربية المتلفزة تقتصر على الترويج لـ«الكوكا كولا» ومسحوق الغسيل والسيارات الفخمة، ولا على الترويج للسياحة أو لألبوم غنائي جديد أو لعدد أخير من مجلة فنية. جديد الإعلانات هو الترويج للوطنية. أحبب وطنك، ملاذك. هو عزيز عليك وإن ضاق بك. وإن كنت معرضاً فيه لرصاصة طائفية طائشة، أو عدم استقرار مزمن، أو بطالة أو «عطالة» أو استغلال، أو كانت تهواك المعتقلات بقدر ما سبق وأحببت الوطن.
مثل تلك الإعلانات تبث بغزارة في أكثر من فضائية عربية عن وطنين جريحين، هما لبنان والعراق. كن صالحاً، كن صابراً، تعالى على آلامك ومخاوفك، الوطن المتحقق قريب.
أخيراً، أطلقت الإذاعة الجزائرية حملة دعائية تهدف إلى «تقوية الروح الوطنية» كما ورد في وسائل الإعلام. مضمون الحملة يقتضي توزيع خمسة ملايين علم جزائري تحت شعار «علم في كل بيت».
مجمل أشكال هذه الدعاية الهادفة إلى إحياء «الروح الوطنية» تبعث على الأسى؛ أولاً، لأنها تضع موضع الشك طقوس الولاء للوطن جميعها، بدءاً من دروس التربية الوطنية إلى ترديد النشيد الوطني كل صباح في المدرسة إلى الأغاني والأناشيد التي تغازل الوطن وتفتديه بالروح.
ثانيا، لأنها تفترض أن علاقة المواطن بوطنه تشوبها شائبة وليست على ما يرام. وهي إلى حد بعيد ليست مخطئة في هذا الافتراض. لكنها توحي في شكلها ومضمونها، بأن المواطن هو الذي انشغل بهمومه الخاصة ولامبالاته عن محبة وطنه، مما أدى إلى تقلقل انتمائه، أو من ناحية أخرى، توحي بأن النبش في الذاكرة، استحضار التاريخ والشهداء والرموز الوطنية الخالصة، الأماكن والذكريات البريئة، من شأن ذلك أن يعيد وصل ما جرى تقطيعه طوال عقود مديدة. ولأنها تصور العلاقة مع الوطن على أنها من طرف واحد، وحيد يعاني غربة عميقة.
وأخيراً، لأنها تظهر أن ما يعانيه المواطن هو من صنع فئة صغيرة جشعة وحاقدة، ما إن تزول حتى يستحيل الوطن فردوساً. وأن المواطن الصالح، عليه أن يتعامل بحنو الوالدين وتفهمهما لهذا الظرف الطارئ على وطن الأحلام.
وهي في ذلك كله، تتوجه إلى المواطن العربي الذي عاش طويلاً في وطنه «القطري المصطنع»، بانتظار الوطن الموعود الأكبر والموحد والحقيقي. أو الذي لايزال بانتظار دولة الخلافة الإسلامية المنتظرة، التي حاول «المستغربون» فرض مفهوم الوطن بديلاً عنها. أو هو الذي فتح عينيه على صور الزعيم والقائد، بينما توارى العلم الوطني طويلاً وراء الظلال. وهو الذي طالما خبر ممارسة واجباته، ونادراً ما حظي بحق من حقوقه؛ أو هو الذي «اختبرت» وطنيته في أقبية السجون والتعذيب، أو الذي شهد ويشهد ثروات بلاده وهي تتبخر إلى جيوب فئة قليلة من مواطنيه، أو الذي انبنت وطنيته عبر أجيال على أولوية طائفته ومذهبه.
مع ذلك كله، اشتكى المواطن العربي ويشتكي ممَن أذلوه وأذلوا الوطن على السواء. لم يلعن وطنه ولا ادّعى نقص انتماء أو محبة. بل إنه اشتكى ويشتكي نقص حقوق المواطنة في وطن أراده الآخرون عابراً أو ملكية خاصة لهم.
إن كان من الصعب رصد ردود فعل الناس تجاه الإعلانات المتلفزة المعنية بوصل ما تفترض أنه انقطع من محبة وانتماء، فالخبر المكتوب يتيح رصد ردود الأفعال على نطاق واسع. ولنقرأ بعضاً من التعليقات على خبر «علم في كل بيت» من إحد المواقع الإلكترونية العربية: «نريد خمسة ملايين سكن للشباب العانس الذي يعاني مشكلة السكن»، «ميزانية كبيرة للأعلام مقابل ميزانية معدومة للتكوين، ربما المصنع الذي صنع الأعلام ملك لأحد الجنرالات»، «نريد خمسة ملايين مصحف ينفعنا في قبرنا»، «لو أعطيتم الناس حياة كريمة ووظائف وسكن محترم، لاشترى الشعب كله العلم بنفسه».
واضح؟! المواطن ليس ناقماً على وطنه كأرض ورمز وتاريخ وذكريات، ولا يحتاج إلى «منشطات» وطنية من أي نوع. هو فقط يرغب أن ينطبق عليه لفظ المواطن، كما يسمعه ويراه في بلاد أخرى بعيدة. وإن فاض به وفضل طريق المنفى أو المهجر أو الملجأ، بحثاً عن الأمان أو الحرية أو العيش الكريم، فهو غالبا ما يصطحب وطنه معه في قلبه، ويترك هناك في المكان الخاوي، أشباح الوطن.
* كاتبة سورية