العشوائيات العربية والزحف الهادئ للعاديين
وائل السواح *
يقول عالم الاجتماع الإيراني آصف بايات إن التغيير في الشرق الأوسط لا يحدث بتأثير المعارضة السياسية ولا الحركات المنظمة، ولكن بواسطة ما يسميه «اللاحركات» (nonmovements). وهو يعرِّف اللاحركات بأنها «الفعاليات الجمعية لفاعلين غير جمعيين»، ويقصد بذلك الفعاليات الضخمة لأفراد يتحدون السلطة في حياتهم اليومية من طريق الفعل المباشر وليس من طريق الاحتجاج، وينتظمون في شبكات غير فعالة تربطها علاقات غير عمْدية ويميزهم تجاوزهم للأيديولوجية وللقيادة وللتنظيم. وتقوم نظريته (في كتابه الأخير «الحياة باعتبارها سياسة») على أن الناس العاديين في منطقة الشرق الأوسط يقومون بالفعل تدريجياً وببطء بعملية تغيير لوجه هذه المنطقة. وهو يقصد بالناس العاديين ذلك الطيف الواسع من المهجَّرين في المدن والقادمين من الريف إلى المدينة والشباب المعَولَم والنساء والإسلام الاجتماعي.
أعتقدُ شبه جازم أن بايات، في إشارته إلى هجرة الريف إلى المدينة ههنا، إنما يشير إلى الجيل الثالث من المهاجرين. فقد شهدت دول المنطقة (وبخاصة مصر وسورية، وربما لبنان وبعض دول المغرب العربي) ثلاث موجات من الهجرة من الريف إلى المدينة. كانت الأولى هجرة المثقفين الريفيين الذين لجأوا إلى المدينة لتحصيل العلم والوظيفة والمكانة السياسية والاجتماعية. وقد استطاع أفراد هذه الموجة تحقيقَ مكانة مرموقة في عالم الثقافة والعلم والجيش والسياسة (طه حسين وجمال عبدالناصر في مصر، زكي الأرسوزي وبدوي الجبل في سورية، مثالاً.) أما الموجة الثانية فقد حدثت بعد وصول ما يسمى بحركات التحرر الوطني إلى سدة الحكم في الدول التي انتهجت المنهج الشعبي في الحكم، مثل سورية ومصر والجزائر. وكان هدف هذه الموجة هو تقديم الدعم السياسي والعسكري لحركات التحرر التي تحكَّمت في مصائر البلاد، وملْء الفراغات الواسعة التي حققتها النقلة الاقتصادية – الاجتماعية، حيث عمل الوافدون في المعامل الجديدة ووسائل الإعلام الضرورية لدعم السلطات الجديدة (من صحافة وإذاعة وتلفزيون) وفي الإدارات البيروقراطية والجيش والشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى. وقد استطاع هؤلاء المهاجرون أن يجدوا بسهولة وظائف ومساكن ووسطاً اجتماعياً مناسباً؛ وتمكنوا بطريقة أو بأخرى من الاندماج بالوسط المديني، وبخاصة بالنسبة للجيل الثاني والثالث الذي ذهب إلى المدرسة في المدينة، وارتاد المقاهي والبارات والمسارح والمراكز الثقافية. وتألق شعراء وكتاب ومفكرون، احتلوا المشهد الثقافي لأكثر من ثلاثة عقود.
على أن الفورة الاقتصادية والاجتماعية التي أحدثتها حركات التحرر الوطني انتهت، وغصت الدوائر والمؤسسات الحكومية بأعداد من «العاملين» تفوق بكثير حاجاتها وطاقاتها الاستيعابية، وامتلأت المعامل بالعمال الفائضين، وأغلق عدد كبير منها، بسبب الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها، وتمت خصخصة أعداد أخرى، ودخلت إلى الأسواق مجالات اقتصادية جديدة كالأتمتة والاتصالات والمصارف والتأمين، وهي مجالات لا تحتاج إلى العمالة العادية ولكن إلى الكفاءات الاختصاصية عالية التدريب. ولكن الموجات التالية من المهاجرين من الريف إلى المدينة إما طوعاً أو كرهاً لم تتوقف. وما زالت القاهرة ودمشق والجزائر وبيروت وطرابلس تستقبل سنوياً مئات الألوف من النازحين من قراهم وبلداتهم، إما بحثاً عن عمل أو حياة أفضل، أو هرباً من الجفاف.
هؤلاء جميعاً يشكلون ما يمكن تسميته الموجة الثالثة من المهاجرين من الريف إلى المدينة الذين، من خلال بحثهم عن حياة أفضل لهم ولعائلاتهم، يشرعون في حملة ثابتة وشاقة تقوم على احتلال «غير مشروع» للأرض والمأوى، مع ما يلحق ذلك من محاولات لتأمين المرافق الرئيسية من مياه شرب وكهرباء ومجارٍ للصرف وشبكات هاتف وطرق. ولتحصيل معاشهم يتخذ هؤلاء المهاجرون الرصيف وبعض الأماكن العامة الأخرى المفضَّلة لبيع بضاعتهم ورفع اللائحات التي تدعو لشراء ما لديهم. ولا يمارس الإسلام السياسي تأثيراً كبيراً على هذه الجماعات بقدر التأثير الذي تمارسه السياسات البراغماتية التي تلامس قضاياهم اليومية، والتي يعبرون عنها من خلال لاحركتهم المستمرة.
في مصر، بلغ عدد العشوائيات 1221 منطقة عشوائية، وفق بيانات المكتب المركزي للإحصاء. واستهلكت العشوائيات 400 ألف فدان من الأراضي الزراعية، وباتت تشكل 30 في المئة من المناطق السكنية في مصر. وفي الجزائر يتهم سكان العشوائيات الحكومة بإهمالهم والإخلال بوعودها لنقلهم إلى مساكن جديدة. ووقعت في الأشهر الأخيرة مواجهات عدة في حي النخيل العشوائي وبلوزداد الشعب، وهددت عشرات العائلات في حي ديار الشمس بالانتحار الجماعي إذا رفضت السلطات الاستجابة لمطالبها في توزيع عادل للشقق التي سترحل إليها. وفي تونس، أدى إقدام خريج جامعي عاطل من العمل على إحراق نفسه، مطلع هذا العام، إثر تعرّضه للضرب على يد شرطيّ بسبب بيعه خضروات على عربة مجرورة من دون حمل ترخيص من البلدية، إلى اندلاع صدامات اتسعت في ما بعد لتشمل مدناً تونسية عدة. وقد واجهتها أجهزة الأمن باستخدام القوة. وفي سورية، أدَّى الإهمال الحكومي لأزمة السكن المواطنين النازحين من الريف إلى المدن إلى تدمير مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية والغابات والأحراج المحيطة بالمدن الكبيرة لصالح توسيع الضواحي بصورة غير منظمة وعشوائية. وقدّر باحث سوري عدد سكان دمشق وريفها الذين يشغلون مناطق السكن العشوائي المخالف بأكثر من 40 في المئة من السكان. وتقدر عدد الأسر التي هربت من بيوتها في الجزيرة السورية إلى منطقة دمشق وريفها بنحو ستين ألف عائلة، تعيش جميعها في مخيمات غير نظامية، وفق ما تقدره جماعة «الجزيرة السورية» التي تعمل على تقديم الدعم المادي والمعنوي لهؤلاء المهجرين.
ويقوم سكان العشوائيات بصناعة دولة موازية داخل الدولة التي أهملتهم، وهم يقومون بتخطيط أحيائهم وإمدادها بالمرافق وتنظيم شؤونهم بأنفسهم، فينشئون اقتصادات شارعية موازية، وبنى اجتماعية جديدة، مؤكدين بذلك ما يسميه بايات «حقهم في المدينة». وغالباً ما يتم تجاهل قوانين الدولة ومؤسساتها داخل التجمعات العشوائية، ويتم تطبيق قوانين خاصة بها. في فيلم وثائقي رائع للمخرجة الفرنسية إيمانويل ديموريس عن عشوائية «المفروزة» في الإسكندرية، نجد أن سكان هذه المنطقة يعيشون حياة مستقلة عن الدولة المصرية، في أفراحهم وأتراحهم ويحلون خلافاتهم بينهم من دون الرجوع إلى المحاكم المصرية. وفي منطقة «المزة 86» العشوائية في دمشق يقوم السكان ببيع وشراء شققهم بواسطة عقود خاصة ليس لها أية قيمة قانونية في المحاكم السورية، لأن الأرض التي تقوم عليها الشقق هي بالأساس أراضٍ مغتصبة، ولأن الشقق غير مسجلة طبعاً في السجلات العقارية.
وباختصار عندما تفشل السلطات في تأمين السكن اللائق وفرص العمل لمواطنيها، وعندما تفشل الحركات السياسية المعارضة وجماعات الضغط ومؤسسات المجتمع المدني في مساعدة الأفراد في ذلك، فإن الفقراء سوف يلجأون إلى إيجاد الحلول بأنفسهم، فيتحركون ببطء وهدوء ليحتلوا الفضاء العام في ضواحي المدن، والأسطحة والمقابر. وهم يبتكرون اقتصادات هامشية جديدة. فإضافة إلى المهن القديمة كبيع اليانصيب ومسح الأحذية، يبدع الفقراء الجدد أشكالاً جديدة للعمل الهامشي. وأحد أفضل الأمثلة على ذلك مهنة ركن السيارات التي ابتدعها عاطلون من العمل في القاهرة واسطنبول ودمشق. حيث يقوم شبان بوضع يدهم على بعض الساحات المهملة فيحولونها إلى مرائب مأجورة، ويأخذون من أصحاب السيارات مفاتيح السيارات ليركنوها لهم. ولعل الجديد هنا هو انضمام فئات واسعة من الطبقة الوسطى الكلاسيكية إلى طبقة الفقراء الجدد. وتضم هذه الفئات مدرسين وموظفين عموميين وحتى محامين في بعض الأحيان.
يطلق بايات على لاحركة الفقراء المهجرين والنازحين عبارة «الزحف الهادئ للعاديين»، وهو يرى أن هؤلاء الأفراد – إضافة إلى دور المرأة والشباب – يقومون عملياً بتغيير منطقة الشرق الأوسط برمتها، ولكنهم في ذلك لا يقومون بنشاطات سياسية وإنما بأفعال اعتيادية يومية لا تتعدى بناء الفقراء المهجرين لبيوتهم على أراضٍ مخالفة، أو بيعهم بضائعهم في أماكن غير مسموح البيع فيها، أو محاولات النساء الذهاب إلى الجامعة أو اختيار الرياضة التي يفضلن أو تقرير شروط زواجهن، أو إصرار الشباب على الظهور بالشكل الذي يريدون وسماعهم الموسيقى التي يفضلون أو التسكع حيث يرغبون. فهل تغيّر اللاحركات وجه المنطقة من دون التلاقي مع حركة المجتمع المدني الناشئة هناك؟
* كاتب سوري
الحياة