زَنْوَجة ساركوزية
صبحي حديدي
بعد أن فشل اقتراحه بنقل رفات الفيلسوف ألبير كامو إلى صرح البانتيون، بسبب اعتذار الأسرة عن هذا التكريم، في هذه الحقبة البائسة من تاريخ فرنسا أغلب الظنّ؛ ها هو الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يبذل محاولة ثانية لكي تقترن رئاسته بخيار دراماتيكي على صعيد نقل رفات مشاهير فرنسا إلى مقبرة العظماء هذه، فيستقرّ على اسم شاعر المارتينيك الكبير إميه سيزير (1913 ـ 2008). وهو، هنا، لا يختار عَلَماً كبيراً شهيراً فحسب، بل يتعمّد إحداث صدمة من طراز غير مألوف حين يستقرّ على شخصية من أطراف فرنسا وليس من المركز المتروبوليتاني، أسود البشرة، راديكالي الفلسفة، ظلّ حتى الرمق الأخير معارضاً ثابتاً لسياسات اليمين الفرنسي عموماً، وساركوزي نفسه بصفة خاصة.
والبانتيون، للتذكير، هو ذلك المبنى العريق العتيق الذي يقع في قلب الحيّ اللاتيني، في العاصمة باريس، ويعود تشييده إلى سنة 1764، وفي جنباته ترقد صفوة من كبار رجالات فرنسا، بالإضافة إلى أربعة إيطاليين، وامرأة واحدة (ماري كوري)، تجمعهم صفة عليا مشتركة، هي تقديم خدمات جليلة للبلد. وإلى هذا الصرح نُقلت رفات أمثال وفولتير وجان ـ جاك روسو وفكتور هيغو ولوي باستور وإميل زولا وليون غامبيتا وجان جوريس وجان مولان؛ ومنه، بسبب تقلّب أهواء السياسة وتبدّل المواقف من الأشخاص، سُحبت رفات أربع شخصيات، بينهم ميرابو ومارا من رجالات الثورة الفرنسية. وكان آخر الوافدين إلى أروقة البانتيون الروائيان أندريه مالرو وألكسندر دوماس الأب، بناء على اقتراح الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك؛ وأمّا الشخصية السوداء الوحيدة في الصرح، فهي للجنرال والحاكم فيليكس إيبويه.
والحال أنّ سيزير ليس أيقونة المارتينيك الشعرية والإنسانية الكبرى الحديثة فحسب، بل كان أحد الكبار في تلك الأحقاب ـ الحافلة، الشريفة والنبيلة والإشكالية ـ التي شهدت تحالف النصّ الأدبي والبيان السياسي، واقتران المخيّلة الفنّية الطليقة بالواقع الملموس الأسير، وما نجم عنهما من حصيلة اندماج التحرير الجمالي بالتحرّر من الإستعمار. لقد كان آخر ثلاثة لعبوا، منذ لقائهم للمرّة الأولى في باريس سنة 1931، دوراً حاسماً بالغ الحيوية والفاعلية في تنظيم المقاومة الثقافية ضدّ أنظمة العبودية ومشاريع الإستعمار في آن: الأوّل كان الشاعر والسياسيّ السنغالي ليوبولد سيدار سنغور، والثاني كان الشاعر والكاتب الغوياني ليون غونتران داماس.
ولقد استنبط هؤلاء، ثمّ طوّروا طيلة عقود، مفهوم ‘الزَنْوَجة’، المصطلح الصادم الذي تولى نحته سيزير نفسه، لكي يكون منهجاً تطبيقياً في دراسة ما أسموها ‘الكتابة السوداء’، يتيح مادّة فكرية ونقدية لمقاومة الهيمنة الثقافية الفرنسية، التي ظلّت جزءاً لا يتجزأ من سيرورة المشروع الإستعماري. ولقد كان للمفهوم ـ حين حظي بإطراء حماسي من جان ـ بول سارتر، بصفة خاصة ـ فضل كبير في تحديد الثقافة السوداء والهوية السوداء، رغم سلسلة الإشكاليات التي اكتنفته منذ البدء، والتي كان على رأسها معضلة تنميط ‘علم الجمال الأسود’ بوصفه ‘نقيض علم الجمال الأبيض’، ليس أكثر.
وكان طبيعياً أن تقترن النظرية بالممارسة، فتكون حياة سيزير السياسية حافلة بدورها: الإنتساب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1945، حين انتُخب رئيساً لبلدية العاصمة فور ـ دو ـ فرانس، ونائباً في الجمعية الوطنية الفرنسية؛ وتأسيس ‘الحزب التقدمي المارتينيكي’، بعد الإنسحاب من الشيوعي الفرنسي على قاعدة الموقف النقدي من الستالينية. آخر مواقفه السياسية كانت مناصرة مرشحة الحزب الإشتراكي الفرنسي، سيغولين رويال، في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة (والإنصاف يقتضي التذكير بأنها، قبل ساركوزي، كانت صاحبة اقتراح نقل رفات سيزير إلى البانتيون). وفي أواخر 2005، تلقى ساركوزي (وكان يومذاك وزيراً للداخلية، ورئيس الحزب الحاكم) صفعة معنوية قاسية، حين قرّر سيزير رفض استقباله في المارتينيك. كان سيزير يعلن مناهضته لقانون فرنسي جديد قضي بإجبار المدارس على تعليم ‘الجوانب الإيجابية’ في الإستعمار، وكان يقاطع أيضاً هذه الـ ‘فرنسا’ الساعية إلى تبجيل ماضيها الإستعماري.
لكنّ سيزير، قبل هذه الاعتبارات، كان شاعراً من طراز خاصّ، نجحت قصيدته في عقد مصالحات شاقة بين حداثة فرنسا وتراث المارتينيك، وبين المزاج السوريالي المنعتق والنصّ المقاوِم الملتزم، فضلاً عن انطلاق مغامرة لغوية فريــــدة نقلت إلى الفرنسية مناخات آسرة من قاموس مياه الجزر الدافئة.
وفي ‘دفتر عودة إلى البلد الأمّ’، قصيدته العظـــيمة التي أنجزها سنة 1939 ونالت مديحاً (متوقعاً) من سارتر، وآخر (غير منتظَر) من أندريه بروتون، ثمّة ذلك الشعر الحرّ في الشكل وفي المحتوى، الحداثي التجريبي، وليد حكايات الناس وحكمة الأسلاف.
ويبقى أنّ إقلاق عظام هذه الشخصية الفذّة قد لا ينتهي تماماً إلى الغرض الذي يسعى إليه ساركوزي، لأنّ وصية سيزير واضحة صريحة: أن يُدفن في بلدته فور ـ دو ـ فرانس، وأن تبقى رفاته هناك… حصرياً. ومن الغنيمة سوف يكتفي الرئيس الفرنسي بلوحة رخام تُعلّق على أحد جدران البانتيون، تحمل اسم إيميه سيزير؛ وأمّا ساركوزي المرشّح الرئاسي الآتي، فإنه لا ريب سوف يجعل من تلك اللوحة أيقونة حملاته الإنتخابية في أوساط أهل المارتينيك، ولدى معظم الناخبين السود.
زنوجة ساركوزية، حتى إذا كانت تسير رأساً على عقب!