صفحات ثقافية

شهادات روائية تتوق للإنعتاق من قيود المحظورات واشتهاء للحرية المفقودة

null
عادل محمود: أخطاء الحرية أقل من خطايا الاستبداد!
دمشق: ‘القدس العربي’ ـ من أنور بدر: لا بد من الاعتراف أن محور ‘المحظورات في الرواية العربية’ امتلك مساحة من الجرأة ميّزت الدورة السادسة من مهرجان الرواية العربية، وسارت به مسافة بعيدا عن عموميات الخطاب النقدي السائد، وبشكل خاص في مستوى الشهادات التي قدمتها كوكبة من الروائيين والروائيات العربيات، بحكم أن الشهادة لا يمكنها الابتعاد عن الصدق في القول، وكشف ما هو ذاتي وخاص في تجربة الكتابة، أي الاشتغال على الجانب غير المنظور في العملية الإبداعية، والذي يقع خلف ما هو مكتوب.
وبين أيدينا الآن أربع عشرة شهادة استطاعت أن تشكل إدانة للمحظورات في الرواية العربية وتوق كبير لتجاوز قيودها التي فرضت من خارج العملية الإبداعية عموما، مع توق آخر أو اشتهاء لحالة الحرية التي يفتقدها الكاتب العربي، أو أنها مدار صراعاته للفوز بها، دون أن يخلو الأمر من إشارات خجولة لضبط إيقاع الكتابة على متطلبات الهوية والمجتمع أو الخصوصية، لكن عادل محمود يذكرنا بإصرار ‘إن أخطاء الحرية أقل من خطايا الاستبداد’.
عن رواية ‘إلى الأبد ويوم’ يقول عادل محمود: حاولت أن أقول تجربتي، تجربة جيلي الحالم والمهزوم، فنحن أولاد تلك الأيام التي وزّعت علينا ـ شئنا أم أبينا ـ مرتبة الحفيد الدرامي للهزيمة الكاملة.
ثم يأتي من يقول لك: هذا نصّ فضيحة لأنه يسرد خذلان السياسة للواقع، أو يمشي، مرافقاً، شاباً وشابة إلى باب غرفة النوم حيث يمارسان قبلة أكثر مما ينبغي للحرام أن يفعله.
ويتساءل الكاتب: لـماذا لدينا مشكلات من النوع البدائي، كالعسر في الحب، واليسر في الترهات؟ كالمنع والقمع ومطاردة الكلمات، لماذا لدينا في الرقابة ما ليس في البشـرية كلها، ثلاث موافقات: الأولى قبل النشر، والثانية بعده، والثالثة للسماح بالتداول، وقد تكون الرابعة من دار الإفتاء أو الرفيق محمد رمضان البوطي؟
اعتقد، أخيراً، أن فكرة الضمير، لم تُعرف جيداً… إن كاتباً قضى حياته في المعرفة والبحث عن جماليات الكتابة، ورأى وعاش، وجرّب، هو أكبر من شرطي الرقابة حتماً.
بينما القاص والروائي نصر محسن من سورية يعترف في شهادته، حتى وهو يستخدم ضمير المخاطب، بسطوة الرقيب الذي بات يسكن دواخل المبدع: لم تمسك القلم يوما وتهمّ بالكتابة إلا وكان رقيب يسكنك، ويدفعك إلى تجاوز ما هو سائد ومألوف، بل يسكنك مجتمع كامل..
وهاجس الكاتب في ورقته هاجس سياسي بالدرجة الأولى: دائما تطمح لرؤية وطن جميل، ودائما تحاول المساهمة ـ على قدر ما تستطيع ـ في بنائه، ودائما يقف المحظور في وجهك، فبناء الوطن عمل السياسي وليس عملك.
لذلك يلجأ الكاتب للتحايل على الرقيب في تمرير مقولاته: الرموز والكلمات الموحية، اللغة، أسماء الشخصيات والأماكن، البنية الغرائبية في السرد، الجملة المنافقة الحاملة لأكثر من وجه.
ونلاحظ التأكيد على العلاقة الطردية بين سطوة الرقابة وبين محاولات تجاوزها، وهو ما يشير إليه الروائي والقاص السوري أحمد مصارع حين يقول: إن شعور الكاتب بالدونية الجمعية أو الذاتية، هو بمثابة القوة الدافعة له، فشعوره بالنقص الخاص والعام، وضرورة الكمال جماليا وأخلاقيا، هو من المحركات القوية التي تبعث على الكتابة، لإظهار اللوحة الوجودية التي رافقت إحداثيات وجوده.
بيد أن الروائي والقاص الأردني جمال ناجي الذي حدثنا عن طرائق التحايل على وعي الرقيب في مقاربة المحظورات، قد اكتشف مساحات للتصالح مع ذاته أمدته بجرأة على تجاوز ما هو محظور، فسياسيا يقول: تمثلت الحالة السياسية وتماهيت فيها، إلى حد أنني عددت نفسي شريكاً في مسؤوليات تحقيق حرية الإنسان والوطن، واستقراره، وتطوره، ولقد أحسست بأن هذا الدور يختلف كثيرا عن دور المشاغب أو المناكف .
ودينيا يتابع ناجي: وفي تقديري أن من يعبد الخرافة ويروج لها لا يختلف عمن يعبد الأوثان ويدعو لها… بالنسبة لي فأنا مسلم، والإسلام جزء من هويتي الثقافية التي لا أستطيع التفريط بها أو التنكر لها.
هذا الفهم سمح لي باعتبار نفسي واحدا من المعنيين بالدين، كغيري من المسلمين، الفقهاء منهم والدعاة والأتقياء، وبالاقتراب من المحظورات الدينية بطريقة نقدية، من دون المساس المباشر والصريح بالنصوص.
أما بخصوص الجنس في تجربتي الروائية، فنتابع مع شهادة جمال ناجي: وظفت الجنس بوصفه واحداً من المثيرات النفسية والجسدية، وواحدا من المقومات الإنسانية لفاعلية الذات الإنسانية، ولكن كيف؟
هي الكيفية: التي يلجأ الروائي خلالها إلى الإيحاء اللفظي والحدثي المثير، الذي يؤجج أحاسيس المتلقي، ويدفعها إلى الانتشار والامتداد عميقاً في النفس والروح، من دون الانصياع إلى إملاءات المحظورات الجنسية.
لكن المشكلة المعاصرة برأيه: أن الألفية الجديدة قد شهدت استبدالاً للرقيب التقليدي بما يمكن تسميته (المدعي العام الروائي)، وهو المدعي المكلف أو المتطوع الذي تناط به مهام رصد ومتابعة الأعمال الروائية، وتقديم أصحابها إلى المحاكم، بأسماء ‘الحياء العام’ و’الأخلاقيات’ و’المقدس’.
هذا التحول في الرقابة ومفهوم المحظور رصده عيانيا التشكيلي السوري أيمن الناصر وهو يحدثنا عن تجربته اليتيمة في رواية ‘اللحاف’ قائلا: كنت أريد لغة أتحرر فيها أولاً من سطوة ‘التابو’الاجتماعي الذي يرى البعض أن لا حدود لسقف الحرية في اقتحامه. ويرى آخرون أن حدّ احترام معتقدات الآخرَ وتاريخه وممارساته الخاصة هو السقف الأدنى لهذه الحرية.
مع أن: كتابة السيرة الذاتية بشكلها المباشر والصريح تستوجب جرأة غير عادية من الكاتب، كما أنها تستوجب مجتمعاً يتمتع بسقف عالٍ من الحرية، يكون منفتحاً ومتمكناً من تقبل اعترافات الكاتب باعتبارها فناً رفيعاً، وليس باعتبارها صحيفة ادعاء بحقه، كما حصل معي في روايتي التي اتُّهِمتْ بأنها تجاوزت المحظور الاجتماعي، بينما مشكلتها الأساسية أنها ظهرت في مجتمع عشائري وقبلي يزدحم بخطوط حمر ورقابات ظالمة…
الروائي المصري محمد صلاح العزب يعدد أنواع المحظورات والجلادين الذين يرفضهم جميعا، لأن الرواية ترفض تماما أي قيد على الإبداع، مضيفا: القيد الوحيد المسموح به هو’الفنية’ كل ما هو فني مسموح به.
ويشير إلى تجربته الذاتية مع الرقابة الاجتماعية التي منعت صحيفة مصرية من استكمال نشر جزءين من روايته ‘سرير الرجل الإيطالي’ بقول رئيس التحرير: يمكنني أن أدخل السجن وأنا أعارض رئيس الجمهورية لأنني سأصبح بطلا، لكنني غير مستعد لدخول السجن من أجل رواية، فحينها لن أجد من يتعاطف معي.
أما روايته الثانية فقد صدرت في طبعتين مع خلاف في الغلاف الذي حمل في الطبعة الثانية صورة لشابين كما شاء مصمم الغلاف، إلا أن هذا عرضه لتحقيق النيابة العامة لإساءة استخدام صورة الشابين، والأمر ما زال منظورا أمام القضاء!
الروائي والقاص إبراهيم العلوش ينتقل بنا إلى تجل آخر للمحظور، من خلال غياب المكان فيما يُكتب، متسائلا: لماذا أهمل الكاتب السوري المكان ولم يعتن بتحديده وتسميته باسمه؟
ليجيب: لقد نشأنا نحن مواليد الستينات من القرن الماضي وسط ازدهار مفهومين، مفهوم القومية ومفهوم الاشتراكية، وكلا المفهومين يؤجل الاعتناء بالمكان الوطني! المسألة لا تتعلق بهذين التيارين فقط: فالتيارات الدينية أيضاً تحتقر الحياة الدنيا وتبشر بحياة النعيم الأبدي! والعولمة تبشر بانتصار حمى الشراء والاستهلاك على قيم التضحية والتقشف والصبر! وسوف تطرد أبطال زكريا تامر ليحل محلهم النجوم والمشاهير.
أي أن الأيديولوجيا بكل تعيناتها قد أقصت ما هو محلي وراهن، حتى أن الأمر انعكس على صعيد اللغة هروبا باتجاه اللغة القديمة: فالأكاديميات الأدبية تفرغت لنصرة اللغة العربية وإحياء اللغة اعتباراً من العصر الجاهلي كتوطئة لقدوم الوحدة العربية، بل إن العصر الجاهلي في أكاديمياتنا صارت له مكانة شبه مقدسة رغم أنه عصر وثني، وصار الكثير من أساتذة اللغة العربية يعيشون مع طرفة بن العبد وناقته، أو مع امرئ القيس وحصانه.
الروائي السوري نبيل حاتم يؤكد: أن الجنس هو ملح الرواية، ومع ذلك يعترف أنه ما زال: بعيداً عن الكسر الحقيقي للتابو الجنسي في الرواية، والذي وصل إليه أكثر كتّاب العالم وبشكل خاص في أمريكا اللاتينية أو اليابان وحديثاً في النصوص الروائية الفرنسية، الانكليزية والأمريكية والمصرية والسورية. ربما لأني ما زلت أبحث عن مخرج أرحب للحالة النفسية التي تحاصرني ضمن حالة القمع الاجتماعي الذي نعيشه بعد أن ازدادت الرقابة الدينية وسطوة الأفكار المتخلفة على الأدب وأصبحت أكثر قوةً عما كانت عليه قبل عشرين عاماً.
فيما الروائي المصري خليل الجيزاوي الذي استفاض في سرد قصة حياته الشخصية، حدثنا أنه في روايته الأولى ‘يوميات مدرس البنات’ لجأ للتحايل على الوقائع التي عرفها من تجربته الشخصية عبر تقنية الحلم، ومع ذلك رفضت الرواية في الهيئة العامة للكتاب في مصر حتى بعدما حصلت على الجائزة الأولى في مسابقة نادي القصة بالقاهرة، بل المفارقة أن الأديب يوسف الشاروني الذي منحها تسع درجات في المسابقة هو من اعترض لاحقا على نشرها قائلا: المسابقة شيء والنشر شيء آخر.
ورغم أنها نُشرت في مكتبة مدبولي لاحقا، إلا أن الحل بالنسبة للجيزاوي كان بالعثور على ناشر عربي: حتى أتخلص من هذا الصداع المزمن، ويتم نشر الرواية كاملة في طبعاتها الثانية والثالثة وحتى أعمالي الأخرى.
بالتأكيد سيكون للمحظور في الكتابة الروائية وقع مختلف لدى الكاتبات منه لدى الكتاب، فتحدثنا سوسن حسن من سورية عن: أبرز الشواغل التي كانت في حرير الظلام، هو قضية المرأة في مجتمعنا، كيف ترزح تحت سلطة أبوية تحدد لها خياراتها في الحياة.
وتحدثنا عن تجربتها الرواية، وكيف اشتغلت على المحرمات السياسية والدينية والجنسية، لتخلص: أن هناك محظوراً خفياً يواجه المرأة الكاتبة تحديداً قي خوض ميدان الأدب، فهي في هذا الميدان كمن يمشي في حقل ألغام، إما أن تقابل بالتصفيق والتهليل عند اختراقها للمحظور، الجنسي منه تحديداً، مهما تواضع المستوى الفني والقيمة الأدبية للعمل الذي تقدمه، وفي هذا السلوك تعويم لها كقيمة، وإما أن ينكر عليها البعض هذه المحاولة حتى لو كانت تحقق جمالية رفيعة، وتوصل رسالة أدبية وإنسانية، هذا إذا انتهى الأمر عند هذا الحدّ ولم تتعرض للقصاص، لكونها امرأة.
الكاتبة مي خالد من مصر لا تكاد تعترف بقيمة المحظورات طالما يمكن التحايل عليها: المحظورات الثلاثة يمكنك التغلب عليها باللغة، التي هي أداة مراوغة وطيعة في يد المبدع، الذي كلما تمكن من أدواته الأسلوبية، ازداد دهاء وتحايلا لتوصيل المعنى دون أن يمسك عليه دليل.
ففي روايتي الأخيرة مثلا، حيث التيمة الأساسية هي الموسيقى، استخدمت تقنيات وآليات العزف على آلات شتى لوصف مشاعر حسية حقيقية، بينما هي في متن النص تشرح فعل العزف نفسه، كعزف بالمعنى الحرفي، وفي رواية أخرى كانت مبادئ ركوب الخيل، وفي موضع ثالث كانت قواعد رقص التانغو، وبالمثل يمكن أن ينسحب هذا على الدين والسياسة أيضا، بحيث يكون هناك أكثر من مستوى للتلقي. والأمر الرائع انه بالرغم من أن الجبن والخوف يكونان محركي الأول لاتباع هذا الأسلوب في الكتابة، تجد القراء والنقاد يصفقون لك لأنك لم تقع في فخ المباشرة.
وتكاد تسير الكاتبة الأردنية سحر ملص بذات الاتجاه حينما تُقر: بأن الحياة ليست إلا مجموعة من القصص والروايات، وأن لكل واحد منا روايته الخاصة التي كان هو بطلها، دفع ثمنها دقائق عمره، وما نزفناه على الورق ليست إلا كلمات لونت لنا الدرب، قاصدة درب تجاوز المحظورات، لتختتم: على الأقل قلت بعضاً مما عندي، وكنت مرآة صادقة لعصري وزمني، ولم تخضع روحي لألوان التغيير الصاخبة، بل ظلت نقية، وكان قلمي حراً رسم دروباً رغم صعوبة الحياة.
الروائية المصرية هالة البدري تنطلق من مسلمة: أن قيمة الإنسان/ الكاتب هي في إيمانه الحقيقي بحريته… وتضيف أن الضغط على الكاتب يشكل تحديا يجعله يبتكر أشكالا غير مباشرة لتوصيل أفكاره للناس. ورغم أن روايتها ‘ليس الآن’ قدمت الصراع العربي الإسرائيلي وواجهت قمة المحظورات ممثلة بالمؤسسة العسكرية المصرية، إلا أن الرواية طبعت في الهيئة العامة للكتاب في مصر، لكن الرقابة الأقسى على المبدع كانت في الصمت الذي لفّ العمل: وكأنها ولدت ميتة.
وحدها الروائية السورية عبير اسبر غردت خارج هذا السرب عندما أكدت: تحرر الأديب لكنه لم يحصّل الحرية، تحرر من المحظورات، وأصبح عبدا لكسر المحظورات.
وتتابع اسبر موضحة: في لعبة الفن ربحت القضايا وخسر الفن، خسر الجمال، خسرت الذائقة في لعبة غير متكافئة مع ثقل القضايا التي كتبت فقط كي تخترق المحظورات وتكسر التابوهات، وتحكي عن المسكوت عنه، وتكون جريئة، ومختلفة، وكل تلك الصفات المهددة للسلم الفني..للجمال… للذائقة… للشفافية ورومانسية الفرح، واللعب والخفة.
وتضيف: نعم تحررنا وخسرنا الفن. لأننا كأدباء بعدما حصّلنا حريتنا تلك أصبحنا نتصرف بها ومعها كما يتصرف العبيد المحرر! دون أصالة، وبكثير من الأخطاء… خسرنا الفن لصالح حروب نخوضها ضد السلطات وضد المحظورات… لم تتغير المحظورات، لكننا شتمناها فقط… وببذاءة لم تكن فنية بما فيه الكفاية.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى