الحدود

اسكندر حبش
لا نستطيع أن نخفي اليوم، ما تتعرض له بعض الأعمال الأدبية (والفنيّة بشكل عام) من رقابة ومنع ومحاكمة، أكان عبر «محاكم التفتيش الجديدة» التي عادت ونشرتها بعض الأصوليات الدينية (وعلى اختلاف مشاربها ومذاهبها، إذ لا فرق بينها في العمق، لأنها تجتمع كلّها في «جهل أبدي» لا تريد مغادرته) أم كان عبر المحاكم المدنية، التي نراها تنصاع في كثير من الأحيان، إلى الأحكام الدينية.
لن أقول إنها سمة من سمات عصرنا الحديث، فتاريخ الأدب والفن عرف، منذ سيطرت الديانات التوحيدية على الأرض، «هذا العنف» تجاه كلّ محاولة للتفكير، تحاول أن تبتعد عن «النسق» الذي فُرض علينا. أقول العنف وببالي قول الكاتب اليوناني فاسيلي أليكساكيس بأن «فكرة الإله الواحد تشمل بالضرورة العنف. فبدءاً من اللحظة التي نؤمن فيها بإله واحد، مهما كان عليه هذا الإله، فإننا نعلن آلياً الحرب على الديانات الأخرى». والمقصود عند الكاتب اليوناني بالديانات الأخرى «الديانات الوثنية» إذا جاز التعبير، من هنا لم يشذّ الأدب، بكونه، ربما، «ديانة وثنية»، من كلّ ما تعرض له.
لكن هل معنى ذلك أن يتوقف الكاتب عن الكتابة؟ بالتأكيد لا، إذ ربما كان من واجب الأدب والفن اليوم أن يذهبا أكثر إلى فكرة هذا الصراع مع المقدس، أيّ أن لا يترك له الساحة ويتخلى عن دوره في إثارة وعي ما، مخالف لكلّ هذه التعاليم السائدة، وإلا ما نفع الأدب، إذا أراد أن يستعيد هذه النغمة وأن يقع سجيناً لهذا «التعليب» وشرطه.
لا حق لأحد أن يطلب من الكاتب أن لا يكتب ما يريد وأن لا يمزج بين الأفكار، حتى وإن كنّا نجد أنه «أخطأ». فـ«الخطأ» المفترض ليس سوى فكرتنا نحن، الذين نقرأ، أما هو، فيكون خالقاً لبنائه الخاص ولمنطقه الخاص، وعلينا أن ننظر إلى عمله من هذه الزاوية وأن نتقبلها.
ما من حدود للأدب. ومن يضع هذا الشرط، يكون يزيل مسبقاً كلّ جوهر الأدب والفن، بكونهما صنوين لحرية مشتهاة. إذ لا تقييد في الكتابة، بل هي الذهاب إلى الحرية القصوى حتى وإن لم يعجب البعض ذلك. علينا أن نكتب الحرية المطلقة، وإن كان ذلك في عالم «غير حر»، إذ لربما في ذلك نستطيع فك هذه القيود شيئاً فشيئاً.
يكفي القيود المتنـوعة التي نعيش فيها. لذلك على الأدب أن يعتق من كل ما يحد رؤيته، ومنا يدفـعه إلى «الخوف» من التعبير عما يراه مناسباً، أكان ذاك من السياســي أو الديني أو أي سلطة أخرى، فلا سلطة فوق سلطته.
لا حدود للأدب. ومكانـه بالتأكيد ليست هذه المحاكم الجديدة المتفشية. إنه «هجوم ضد الحدود»، على قول كافكا، والحدود هنا تشــمل كـلّ شيء، حتى تلك غير المرئية. بل على العكس، يمكن أن نضــيف، إن من واجب الأدب والفن أن يحطما كلّ هذه الحدود.
السفير