صفحات مختارة

مسار الفشل المستدام في التنمية العربية

مسعود ضاهر
عندما نالت الدول العربية استقلالها السياسي في فترات متباعدة، كانت التنمية البشرية والاقتصادية فيها لا تزال في حدودها الدنيا. لذلك اهتم بعض المتنورين من رجال الاستقلال بتشييد البنى التحتية الضرورية للتنمية، وخاصة دوائر الدولة ومؤسساتها، وطرق المواصلات، والمدارس، والموانئ، والمطارات، والبنوك المركزية. هذا بالإضافة إلى السعي لبناء جيوش وقوى أمنية على أسس عصرية، ومنها ما استنزفت القسم الأكبر من موازنات الدولة على التسلح.
في البداية، لاقت تلك الإصلاحات تأييدا كاملا من الطبقات الشعبية والوسطى لأنها أدخلت تعديلات جذرية على بنية المجتمعات العربية، وخاصة في زمن الطفرة النفطية. وأبدت خطط التنمية العربية في الحقبة النفطية اهتماما ملحوظا بأحوال مواطنيها والوافدين إليها، وقدمت لهم الخدمات الصحية، والتربوية، والمعيشية، والبيئية، والسياسية، لكنها افتقرت إلى فهم عميق للتنمية البشرية والاقتصادية والمستدامة. وكان الإنسان ـ المواطن، وهو موضوع التنمية وغايتها، مغيباً بصورة شبه تامة. فالتنمية المستدامة في الدول المتطورة تنظر إلى الإنسان ككائن متجدد، وهي تضع أفضل الخطط الملائمة لتجدده، أي هي التنمية المستدامة التي تفترض الديمومة أو الاستمرارية لإقامة التواصل ما بين الأجيال المتعاقبة من جهة، وادخار قسم من الثروات الطبيعية التي هي حق من حقوقها المشروعة من جهة أخرى. ولا تقف التنمية المستدامة عند حدود التنمية المادية فقط بل تتعداها باستمرار إلى تلبية حاجات الإنسان الروحية والثقافية والفنية وغيرها.
كانت خطط التنمية العربية تعتمد على النفط والغاز والموارد الطبيعية دون أن تبني اقتصادا منتجا يستطيع مواجهة الأزمات الدولية التي زادت حدة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ودخول العالم كله عصر العولمة والمنافسة الدولية غير المتكافئة.
نتيجة لذلك زادت حدة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتربوية في جميع الدول العربية طوال العقدين الأخيرين، وتم التعويض جزئيا بزيادة استنزاف الموارد الطبيعية العربية، كالنفط والغاز، بأسعار متدنية جدا في أحيان كثيرة. وكان من الصعب على الدول النفطية أن تغير في سياستها الاقتصادية التي اعتمدتها زمن الطفرة النفطية والتي بنيت على أساس تقديم الحد الأقصى من الخدمات الاجتماعية مجانا أو بكلفة زهيدة. وتبين لاحقا أن الاستمرار في هذه السياسة يقود هذه الدول إلى الإفلاس بعد استنزاف القسم الأكبر من الخامات الطبيعية دون إنجاز خطط تنموية قابلة للاستمرارية. وكان عليها أن تقلص تدريجيا الخدمات السابقة، وأن تعتمد بصورة أكبر على تشجيع القطاع الخاص. وواجهت انتقادات حادة تدعوها للحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية وعدم التفريط بها لأنها ملك للأجيال العربية المتعاقبة.
تجلت سمات التدمير الخارجي والذاتي للموارد البشرية والطبيعية في الوطن العربي عبر تنمية جزئية فاشلة وما رافقها من نفقات هائلة غير مجدية، وزيادة في الخلل السكاني بين دول عربية فقيرة وكثيرة السكان ودول عربية غنية وقليلة السكان.
على جانب آخر، اعتمدت خطط التنمية في غالبية الدول العربية النفطية على العمالة الوافدة، والتي بان فشلها في جميع تلك الدول، النفطية منها وغير النفطية. وبرز نقص حاد في الموارد الغذائية إلى جانب شبح الفقر والمجاعة والتصحر والبطالة والأوبئة والأمية في الدول العربية الفقيرة، والاستغلال الخارجي البشع للموارد الطبيعية العربية، ومخاطر الانقسامات العرقية والطائفية والمذهبية واللغوية التي تهدد الاستقرار في معظم الدول العربية، وبؤر النزاعات الإقليمية المتفجرة أو القابلة للتفجير بسبب الخلاف على اقتسام مصادر المياه، أو السيطرة على أراض الغير بالقوة، أو المشاريع الدولية المعادية للعرب.
الفشل المستدام
لقد هدرت إمكانات عربية كبيرة دون جدوى اقتصادية وثقافية واجتماعية في العقود القليلة الماضية أدت إلى فشل جميع خطط التنمية التي لم تفرد لتنمية القوى البشرية العربية سوى نسبة ضئيلة من موازنات التنمية. ونتج من ذلك تخلف مريع في البحث العلمي، والإنتاج الثقافي الإبداعي، وتراجع أو ركود العلوم العصرية في جميع الدول العربية. في الوقت عينه، شهدت تلك الدول نزيفا حادا في هجرة سنوية لآلاف الأدمغة العربية التي تستقر الآن في الخارج، ومنها من يتبوأ أعلى المراكز العلمية ويحصل على جوائز عالمية.
فخطط التنمية المستدامة هي المدخل الموثوق لا بل الوحيد القادر على تطوير الوطن العربي في جميع المجالات. أما التوظيف الوحيد الجانب في الأبنية الفخمة، والعقارات، والسيارات، وصرف مليارات الدولارات على فنادق ما فوق الدرجة الأولى فلا يمكن أن يشكل قاعدة لمشاريع تنمية اقتصادية حقيقية في الوطن العربي.
ولا بد أيضا من تجاوز التصورات الضبابية لتنمية عربية تقوم على الاستهلاك المادي وتهمل بناء المواطن العربي، وتتجاهل دوره الأساسي في بناء التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة.
فيما تقوم فلسفة التنمية في دول جنوب وشرق آسيا وفي الدول الاسكندينافية وغيرها من الدول المتطورة على الإنسان الحر الواعي الذي يشكل الرأسمال الأساسي والثابت في كل حركة تنمية، وإطلاق حرياته الأساسية وطاقاته الإبداعية في مختلف المجالات.
وذلك يتطلب اعتماد نظام المساءلة والشفافية في العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم، وضرورة تحسين نوعية الأداء السياسي وإدارة الحكم ووضع ضوابط صارمة لعملية صنع القرار، وتطوير الإدارة ذات الكفاءة العلمية العالية لأنها مرآة الشعوب والحاضن الأمين للتنمية المستدامة.
الاستغلال البشع
لقد اعتمدت الدول العربية أنماطا تنموية كانت تقوم، بالدرجة الأولى، على استغلال الموارد الطبيعية العربية استغلالا بشعا بهدف تعظيم الموارد المالية التي كانت تستهلك في مشاريع غير منتجة. وفي حال عدم توفر تلك الموارد كانت الدول العربية تلجأ إلى قروض خارجية بفوائد مرتفعة صرف معظمها لخدمة الدين العام ولم تنجح في توليد تنمية مستدامة في أي مجال. فقامت التنمية السابقة على الاستغلال المكثف للموارد الطبيعية مع إهمال شبه تام للقوى البشرية، وعطلت طاقات الإنسان الإبداعية بدل تطويرها، ولم تتم الاستفادة المكثفة من المهارات البشرية العربية بل استعيض عنها بالاستغلال البشع للمواد الخام. وبرز أخيرا اتجاهان لتوصيف سيرورة التنمية العربية وآفاق تطورها ضمن نسقين متكاملين:
الأول: قياس التنمية على أساس الانتعاش المستمر في قطاعات الإنتاج الأساسية كالزراعة، والصناعة، والتجارة مع زيادة واضحة في حجم الخدمات دون التركيز الوحيد الجانب على أساس إنتاج الموارد الخام كالنفط والغاز والمعادن وغيرها.
الثاني: قياس التنمية على أساس التنمية المستديمة للموارد البشرية في جميع قطاعات الإعداد، والعمل، والإنتاج، وحجم التوظيف المكثف في قطاعات البحث العلمي، والتكنولوجيا، والعلوم العصرية.
ختاما، دلت تجارب التنمية الناجحة في جميع دول العالم على أن التعليم العصري، والإعداد أو التدريب الجيد، والإدارة الحديثة ترفع بشكل بارز في نسبة الدخل الفردي والقومي، علماً بأن تكنولوجيا المعلومات المنتجة حاليا ذات مردود مالي كبير للغاية يفوق أحيانا حجم الناتج القومي المستخرج من المواد الخام. وهذا قطاع حديث ذو
أبعاد مستقبلية مهمة للغاية. وثمة تحديات كبيرة تواجه جميع الدول العربية في عصر العولمة والشركات والبنوك العابرة للقارات. فقد دفعت مبالغ طائلة بسبب الأزمة العامة التي تعصف بالنظام الرأسمالي العالمي الذي تفلت من قيود المراقبة والمساءلة والشفافية. وبالإضافة إلى الخسائر المالية الفادحة التي منيت بها، تواجه الدول العربية نقصا حادا في التمويل بعد الانخفاض المستمر في مداخل النفط مقرونا بتزايد كبير في عدد السكان والعمالة الوافدة. وتستفحل الأزمات الراهنة على خلفية انتشار قيم الاستهلاك على نطاق واسع في العالم العربي، وضياع مليارات الدولارات التي هدرت دون جدوى، وتكديس أسلحة متطورة لم تستخدم، وهدر الطاقات في تنمية مشوهة وفاشلة. وهذا يستدعي نقدا علميا جادا لمسار التنمية العربية التي تفتقر إلى النظرية السليمة والطرق العملية الكفيلة بتحقيق تنمية بشرية واقتصادية مستدامة على امتداد العالم العربي، ورسم استراتيجية تكاملية عربية لمواجهة تحديات العولمة.
([) باحث من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى