الحرية هي الطريق الوحيد للمستقبل
رشيد الحاج صالح
هناك ثلاثة نماذج يمكن أن تختصر شكل النظام السياسي في العالم العربي. النموذج الأول يجمع بين الانفتاح الاقتصادي والاستثماري مع بقاء الانغلاق السياسي على حاله، وتمثل هذا النموذج تونس ومصر. أما النموذج الثاني فهو الذي يقوم على الانغلاق الاقتصادي والسياسي مع التزامه بالدفاع عن الهوية والتصدي للأعداء، وتمثل هذا النموذج ليبيا والسودان. في حين يجمع النموذج الثالث بين الانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي والدفاع عن الهوية في الوقت نفسه، وتمثل هذا النموذج السعودية.
وتعود مشكلة هذه النماذج الثلاثة إلى أنها تتجاهل مسألة الحرية، وتحاول أن تلتف عليها بأشكال وطرق مختلفة، الأمر الذي جعلها تعاني من عدم قدرتها على كسب ثقة شعوبها وعدم تمكنها من إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والمعاشية لشعوبها، ناهيك عن فشلها في الدفاع عن حقوق الأمة.
ومشكلة النموذج الأول أنه راهن على التنمية والاستثمارات في ظل غياب الحريات، وهذه معادلة مزيفة لأنه “لا تنمية بلا حرية”، فالحرية على حد تعبير عالم الاقتصاد الهندي الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد أمارتيا صن، هي عماد التنمية الأول والعمود الفقري لها.
فالتنمية بدون حرية لن تنجو من الفساد الإداري والسياسي، وستغرق في بحور من الترهل والامتيازات الخاصة، وباختصار فإن التنمية الاقتصادية في ظل الانغلاق السياسي هي المسؤولة عن تركز ثروات الشعوب بيد فئات محدودة تسيطر على الاقتصاد والاستثمارات.
وهذا واضح من الحالة التونسية التي أخذت في الانفجار السريع. فما كان يسمى بـ”المعجزة التونسية”، أي الانفتاح الاقتصادي المثمر في ظل الانغلاق السياسي، تبين أنه مجرد أوهام أو كلام فارغ، ليس له من أساس اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي.
فاليوم انكشف كل شيء واتضح أن الفقر والبطالة والحرمان وتراجع نوعية الحياة، هي ما دفع التونسيين إلى طلب التغيير والقيام بانتفاضتهم التي أسقطت النظام السياسي وكشفت عن واحدة من أكبر الخرافات المعششة في ذهن القادة العرب.
فالتنمية تتماهى مع الحريات، لأن الحرية هي جوهر التنمية، ولا معنى للحديث عن التنمية بدون حرية، حتى إن التنمية بدون حرية تتحول إلى أداة للهيمنة، حيث يذهب مردودها إلى جيوب مديري المعامل ورؤساء المؤسسات الاقتصادية والاستثمارية، لدرجة أن هذه المؤسسات سرعان ما تتحول إلى أداة بيد المتنفذين الذين أخذوا يستغلونها لجلب المزيد من المنافع وإذلال الناس للحصول على فرص العمل.
ويبدو أن هذا النموذج مؤهل للسقوط أكثر من غيره، والسبب في ذلك أنه ضرب عرض الحائط بحاجات الناس المادية والمعنوية على حدٍّ سواء. فهو لم يحقق مطالب الناس المادية في الرفاهية الاقتصادية وتأمين مطالبهم المادية في العيش الرغد، وذلك بسبب فشل برامج التنمية وعدم ربطها بالحريات السياسية والقضائية وضمان حرية المحاسبة والمساواة أمام القانون. كما أنه من جهة أخرى لم يلبِّ الدوافع المعنوية للناس، التي تعتز بهويتهم ودينهم وقوميتهم، لأنه لم يحترم تعلق الناس الوجداني بحضارتهم وقيم تراثهم.
فهذا النموذج تغريبي حاول استنساخ العلمانية الغربية مع إفراغها من مضمونها الديمقراطي، ورفض تشذيبها بغية توطينها والاستفادة من إيجابياتها. فبدت العلمانية عندنا وكأنها كابوس يجثم على صدور الأحرار، أو سيف يسلط على كل من يختلف مع الأنظمة العلمانية في التوجهات السياسية.
أما النموذج الثاني الذي يقوم على الانغلاق الاقتصادي والسياسي مع التزامه بالدفاع عن الهوية والتصدي لأعداء الأمة، فيعاني من صعوبات مختلفة، على الرغم من أنه يواجه أخطارا أقل من تلك التي يواجهها النموذج الأول.
والسبب في ذلك أن هذا النموذج على الرغم من فشله في رفع المستوى الاقتصادي للناس وانتشار البطالة والفقر في كل مكان، وقيامه بإغلاق مجال الحريات السياسية بشكل كامل، فإنه كثيرًا ما يدغدغ العواطف الإسلامية والقومية للناس، ويسمح لهم بنسج أحلام سياسية تلهب نزعة التمسك بالهوية وتضخم من خطر الأعداء الذين يحيطون بنا من كل حدب وصوب، الأمر الذي يشبع الدوافع المعنوية للناس ويعيد الاستقرار الوجداني عندهم إلى حالة التوازن. بحيث تصبح الشعوب أكثر قابلية لتحمل مشاق الحياة الاقتصادية وصعوباتها، طالما أن هناك من يحترم هويتها ويدافع عن الأمة ضد أعدائها.
والجدير بالملاحظة بالنسبة للنموذجين السابقين، أن نتائج الانفتاح الاقتصادي في النموذج الأول شبيهة بنتائج الانغلاق الاقتصادي في النموذج الثاني. وتعليل هذه النتيجة أن الانفتاح الاقتصادي يساوي الانغلاق الاقتصادي عندما تغيب الحرية وأدواتها العملية من مؤسسات تراقب المؤسسات وتحاسب الفاسدين وتضمن العدالة للجميع.
وهذا يعني أن النموذج الثاني قادر على القيام بلعبة “الشعبوية” واستمالة قلوب الناس وتعاطفهم أكثر من النموذج الأول، وهذا ما يجعل وضع النموذج الثاني أقل تعرضًا لخطر الثورات والانتفاضات الشعبية من النموذج الأول، لا سيما أن مكانة الدوافع المعنوية داخل وعي الناس ترتفع بشكل كبير ومبالغ فيه، عندما يعاني هؤلاء من الأمية وغياب الحريات وارتفاع الضغوط الاقتصادية، وهي أمور يسعى النموذج الثاني لتحقيقها بشكل مكثف.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن النموذج الثاني سيواجه مصيرا شبيها بالنموذج الأول، إذا لم يتنبه لمخاطر عدم ربط التنمية بالحرية، لأن هذا الربط هو الذي يضمن العدالة ورفع المستوى الاقتصادي للناس، وبناء الهوية بطريقة صحيحة بعيدة عن التعصب والتوترات الطائفية.
أما بالنسبة للنموذج الثالث الذي يجمع بين الانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي وتبنيه الهوية والدفاع عن الأمة، فإنه يشترك مع النموذج الأول في مسألة الانفتاح الاقتصادي، ومع النموذج الثاني في مسألة الدفاع عن الهوية، غير أنه يشترك مع النموذجين معًا في مسألة الانغلاق السياسي.
وهذا يعني أن مسألة انفتاح الاقتصاد أو انغلاقه، ومسألة التمسك بالهوية أو التخلي عنها، مسائل ليست جوهرية بالنسبة للنماذج الثلاثة، بقدر ما هي خيارات تكتيكية وأسلوب في الحكم. أما الخيار الإستراتيجي المشترك بين كل تلك النماذج الذي يجعل منها نماذج متشابهة يمكن دمجها في نموذج واحد، فهو خيار الانغلاق السياسي والغياب شبه الكامل للحريات. وهذه هي السمة الجوهرية للنماذج الثلاثة.
وهذا ما يعلل نجاح واستمرار النموذج التركي الذي يختلف عن النماذج الثلاثة في اعتماده على الانفتاح السياسي المترافق مع الانفتاح الاقتصادي. فالديمقراطية وتقوية دور القانون والسلطات التشريعية والقضائية، هي الكفيلة بتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي. أما غياب الحياة السياسية ومصادرة الحريات فيؤدي إلى الظلم، والظلم -عند ابن خلدون- مؤذن بالخراب.
وهذا يعني أنه لا بديل عن اعتماد الحرية أساسًا للتنمية والخروج من المشاكل الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة للناس، وأساسًا للدفاع عن الهويات ورفع مكانة الأمة والتصدي للأعداء، وأساسًا للمصالحة بين الأنظمة السياسية وشعوبها، ووسيلةً لابدَّ من اللجوء إليها لتجنب الانتفاضات الشعبية التي لن تكون انتفاضة الشعب التونسي آخرها.
الجزيرة نت