ثورة تونسصفحات الشباب

الدرس التونسي

جلال/ عقاب يحيى
كثيرة هي الكتابات عمّا حدث في تونس، وكثيرة أكثر التوقعات، والبحث في الخلفيات، والأسباب التي قادت إلى الانهيار السريع، ومستقبل الحالة: الانتفاضة، الثورة، التغيير.
لقد فتحت تونس العيون، والأمل، فامتشق الكثير أقلام التحليل، والمقارنة، والمقاربة، والمباعدة، والبعض طارت به الأحلام إلى تصورات تبدو اليوم مشروعة، بقدر نضج العوامل الموضوعية، في عموم الوطن العربي، لما يشبه الحالة التونسية، وربما بصورة أكثر درامية.
بعض المقارنات(مع الحالة السورية) مثلاً تشابهت، وتفارقت.
ـ أوجه التشابه كثيرة، فعلاً:
ـ إن كان لجهة الارتكاز إلى الأجهزة عموماً، والأمنية منها على وجه الخصوص، وما نجم عنها من عمليات تصفية، وملاحقة، وتفتيت، وتهجير لقوى المعارضة.
ـ أو لجهة تدجين وترويع الشعب، وإبعاده عن ممارسة السياسة، وإلهائه بلجاج مجتمعات الاستهلاك، والثراء السريع(ولو أحلاماً وأوهاماً)، والفتك بالطبقة الوسطى المنحدرة، إجبارياً، نحو الطبقات الفقيرة، والانقسام الطبقي الحاد بين القلة المالكة للمال والثروات، والقرار السياسي، وبين الأغلبية.
ـ أو لجهة الاستناد، ولو ديكوراً، إلى حزب ” تاريخي” كان له وجوده، وإسهامه في انتزاع الاستقلال، ثم ما عرفه من تحويل وتحوّلات إفراغية، مَظهرية، ليكون “الحزب الواحد، القائد”، وحظر جميع الأحزاب السياسية(إلا بعض المُعقلنة، ووفق اشتراطات قاسية)، وتضخيم الحزب بآلاف الباحثين عن الثروة، والسلطة، والوظيفة(وغير ذلك مما هو عام في جميع الأحزاب السلطوية).
وترافق ذلك مع”فلسفة” تدمير العمل النقابي، وهيئات المجتمع المدني، بتدجين، ومحاولات احتواء النقابات وتحويلها إلى هيئات تابعة، ذيلية، شأنها شأن بقية مؤسسات الدولة.
ـ أو لجهة تضخّم المافيا النهبية، ودور العائلة، والأصهار، والأقرباء في عمليات النهب، والفساد، والإفساد، وفرّض الخوة على معظم التعاملات التجارية، ونتاجها في حسابات البنوك الخارجية، وفي القصور وحياة البذخ..
ـ أو لحالة الاحتقان المتراكم، التي هي، للحق، ظاهرة عربية، تشمل شعوبنا في طول الوطن وعرضه، مع شيء من التقارب والحالة التونسية لجهة المَظهرة النفاقية، والخوف المعمم، وتقطّع الحراك الاجتماعي ومحدوديته..
أمور عديدة تجعل الحالة السورية شديدة الشبه بتونس، وإن كانت قصة (محمد بوعزيزي) تبحث عن ظرف مناسب، حتى لا تصبح حالات الحرق ظاهرة عربية بامتياز.
ـ المفارقات لا شكّ موجودة، لأنه، وخارج فلسفة الاستبداد المكين، وأفكار الوصاية على الشعوب، والاستخفاف بها وبحقوقها، وإرادتها (وهي حالة عربية أيضاً)، فإن التماثل لا وجود له، لأسباب مختلفة.
ـ لقد تناول بعض الكتّاب السوريين مفارقات الحالة السورية، واختلافها عن الأوضاع التونسية.
ـ البعض تناول الظاهرة العسكرية ودور الجيش البلدين.
إن كان لجهة تضخّمه في سورية، ومحدودية عدده في تونس، أو لجهة الدور التقليدي الذي مارسه في البلدين، حيث اتسم في سورية بدوره البارز في سلسلة الانقلابات العسكرية، والأحداث السياسية، وبعد” التبعيث”، والتجويف، والغربلة، بات أكثر قابلية للتدخّل في الحياة الداخلية، كواحد من أجهزة الفرض، والقمع، إن لزم الأمر.. بينما لم يلوّث جيش تونس، الصغير العدد، بدماء الشعب، وحين طُلب منه التدخّل لقمع الانتفاضة رفض، وكان ذلك عاملاً مهماً في النتائج الراهنة.
أو لجهة الاستخدام الداخلي.. وما زالت فترة السبعينات والثمانينات شاهداً دامغاً. وما زالت مذابح حماة (المتكررة، وصولاً إلى المذبحة الشهيرة أوائل شباط 1982) تروي بعض فصول المأساة، وزجّ الجيش في التصدي للشعب، وبما تجاوز تلك المدينة الباسلة إلى عدد من المدن والمناطق السورية.
بما يعني أن قابلية الجيش مفتوحة، وجاهزة للاستخدام الداخلي إذا ما حُشر النظام، وحوصر من قبل الشعب، وهذا عامل إضافي آخر يركب على الحالة الشعبية السورية، وما تتسم به من خوف معمم، ومن ضعف القابلية على التعاطي بالشأن العام.
ـ آخذين بالاعتبار هنا، وكما كتبنا مراراً، أن مجزرة حماة، بأحداثها، ونتائجها، ودروسها، ومآسيها، ودمائها الغزيرة.. كانت مفصلاً في تاريخ مواجهة النظام، وفي قابليات الشعب على التحرّك، حين (نجح) في تحقيق السيادة المطلقة على الشعب، وفرض منطق الموت المعمم، والدمار، والفتك بالعائلة والأقرباء، وبكل من يحاول الرفض، وإبداء المعارضة.
ـ والبعض تناول ما يعرف بهيئات المجتمع المدني، واختلاف وضعيتهما في القطرين..
حيث أن حركة المثقفين التوانسة لم تنقطع عن فعل التعبير، والتواصل مع العالم الخارجي، خاصة الرأي العام الأوربي ومؤسساته المعنية بالحرّيات العامة وحقوق الإنسان، يساعدها في ذلك القرب من أوربا، ووجود أعداد كبيرة فيها، وإتقان أساليب التخاطب، والتحريض والتوضيح.
مع الإشارة إلى العدد الكبير الذي يستخدم (الفيس بوك)، والأنترنيت والذي تجاوز الثلاثة ملايين، وخبر كثير الشباب في التحايل على قرارات الحجب، ووسائل المنع لإيصال الرأي الآخر، وتدعيمه بالصورة، وفعل الصورة في التأثير، خاصة عبر الانتفاضة.
وأن النخب التونسية، ورغم كل الذي أصابها من اضطهاد، وحجر، وتضييق، واعتقال، ظلّت قادرة على المبادرة، ونجحت في إنعاش هيئات المجتمع المدني، وإحياء التقاليد النقابية العريقة في تونس، خاصة الاتحاد التونس للشغل، وخزينه النضالي التاريخي، والمحامين، والصحفيين، والأطباء، وعديد الإطارات، والإعلاميين الذين انتصروا على الخوف، وعلى المصالح الخاصة، واصطفّوا إلى جانب الفقراء والمضطهدين، وأسهموا في ترتيب وقيادة يوميات الانتفاضة، وصولاً إلى ما وصلت إليه.
****
فوق هذا وذاك، هناك عوامل إضافية رئيسة، تناولها البعض، وأغفلها عديد الكتاب، وتخصّ:
1 ـ الحالة السورية وموقعها من “الصراع العربي ـ الصهيوني”، بكل تماوجات، ومسارات، ونتائجية هذا الصراع، وأثره على تشكيلة البنى السورية، والجيش، والنظام، وقوى المعارضة، والوعي والمزاج، وموقع سورية في أمتها، وفي محيطها العربي، والإقليمي.
ولئن كنا نعرف أن هذه الحالة شديدة التراكب، وجرى الركوب عليها وامتطائها، واستنزافها بطريقة فاحشة، فقد ولّدت جيشاً متضخّماً يلتهم جزءاً هاماً من الدخل الوطني، ويشكل قاعدة ارتكاز مهمة لنظام الاستبداد.
ـ أكثر من ذلك ، فوجود أرض سورية محتلة، بواقع صمت الجبهة السورية من جهة، وتصاعد الفاشية الصهيونية وتهديداتها، قد وفّر للنظام أوراقاً للعب والتجييش والتمرير والتغرير، وفعس القضايا الاجتماعية، وحقوق الإنسان بوهج المسألة الوطنية والقومية، إلى درجة أن رصاصة واحدة يطلقها النظام (حتى لو كانت خلّبية، أو استعراضية) على الجبهة، أو تلك الخطابات النارية.. من شأنها أن تشكّل حالة التفاف حوله، وأن تصعد إلى مرتبة أولى لا يدانيها أيّ شيء آخر.
ـ مع الإشارة إلى أن خطاب النظام المعتمد، وقصة الممانعة (والتمنّع)، بواقع بؤس، وتواطؤ، وتوسل خطاب جلّ الأنظمة العربية.. يمنح النظام هوامش مهمة لخلط الأوراق والتخوم والمفاهيم والحقوق، خصوصاً إذا ما أضفنا إليها شهادات وبيانات الإشادة وحسن السلوك والموقف من معظم الحركات والأحزاب العربية التي أدمنت الانفصام، والازدواجية، وأسهمت، وتسهم في تمييع قضايا الشعب السوري: الوطنية، والاجتماعية، وخاصة: الحريات الديمقراطية.
ـ وأيضاً، استخدام وتوظيف موقع سورية الجيوسياسي ـ عربي لتحويش الأوراق وابتزازها بمرونة مشهودة تتجاوز المقايضات إلى المراهنات، والتسويات، والصفقات الكبرى التي تتسابق إليها عديد النظم العربية والغربية.. وبما يوفّر له (طوق نجاة) للخروج من أزماته من جهة، والتشديد الداخلي من جهة أخرى.
2 ـ لا شكّ والعراق جار، والعراق ارتكاز استراتيجي، وامتداد.. أن ما جرى فيه منح نظم الاستبداد، وفي مقدمها النظام السوري أسانيداً قوية، وذرائع أقوى للمضي في أحاديته، واستبداده، ونهجه.
لقد اغتالت الإدارة الأمريكية، ومعها الصهيونية، ودول الجوار العراق. دمّرت الدولة، وأغرقته بالدماء والاقتتال الطائفي، وبمشاريع التقسيم التي تتموقع على الأرض، وتهدد بالعدوى الخطيرة.. الأمر الذي وجه طعنات نجلاء للقوى الديمقراطية الوطنية، وللحراك الاجتماعي الناهض..
لقد نجح الاستبداد في محاصرة قوى التغيير، وفزاعة العراق مُشهرة، والتخوين يجد مسوّغاته في مثال “المعارضة العراقيةّ(وإن كان يسمح لنفسه التعامل معها)، والإدارة الأمريكية تبرهن بالملموس أن حقوق الشعوب، وحرياتها الديمقراطية آخر ما تفكّر به، وأن لغة المصالح، والحقد، والتفتيت هي الأقوى، وهي النموذج، النار المجرثمة التي تسري في الجسد العربي من المحيط إلى الخليج..
الأمر الذي أدى إلى تراجع وانكماش الحراك المعارض، كما أدى إلى تراجع القابليات الشعبية على التعاطي مع مقولات، وموجبات التغيير.
3 ـ إن خط التفتيت، والتقسيم، والحروب الأهلية المتنوّعة.. هو الخط المعتمد لوطننا، والذي ترعاه، وتقوده صهيونية حاقدة، ويمين أمريكي متصهيّن، وقوى مذهبية، وقومية حاقدة تركب الدين، والمذهب، وتمضي في حفر مجرى التفتيت الذي قطع خطوات هامة، خاصة في بعض الدوائر والمجتمعات العربية.
هنا، وبغض النظر عن مدى طائفية النظام، ومدى ارتكازه إلى أبنماء طائفة معيّة، ومدى عمق علاقته الاستراتيجية مع النظام الإيراني، بل ومدى وعيه لهذه الإشكالية المغلفة بخطاب قومي كثير الثقوب والعيوب..
فإن وجود سورية في موقع مركزي، وطبيعة الشعب السوري ودوره في بلورة أفكار الحداثة، وفي تجربته الديمقراطية المبكرة، وصياغة المشروع القومي النهضوي الذي كانت بصماته فيه واضحة، وتأثير سورية في أمتها، ومحيطها، وقابليات الشعب السوري الحضارية….
كلها عوامل تضعها في مركز مخطط التفتيت، حتى إذا ما اشتعل فتيل الحراك الاجتماعي، ووصل حدّ القطاف.. سيحاول الكثيرون من مافيات السلطة، ورموز هذا المشروع التفتيتي حرف هذا الصراع عن مجرياته الصحيحة، وتوجيهه دينياً، ومذهبياً، لإحداث فتنة طائفية يمكن أن تقود إلى حرب أهلية مدمّرة.. الأمر الذي يقع في عمق وعي الذاكرة السورية، ونخبها الوطنية وهي تحاول تحديد التخوم، وفرز هذا الخطاب الجهنمي ودعاته، وهي تطرح معادلها للتغيير الديمقراطي الذي تُسهم فيه كافة مكوّنات الشعب السوري: الدينية والسياسية والمذهبية والقومية وغيرها.
****
ـ لم نتناول في المشابهات والمفارقات طبيعة المافيا وحجمها وامتدادها، وثرواتها، ومنبتها، وعلاقاتها، وما تملكه من خبرات، وأيد أخطبوطية، وتزاوجها مع أصحاب القرار السياسي.
ولا حجم، وضخامة، وخبرات الأجهزة الأمنية ونوعياتها، ومحرّكاتها، ومستوى دمويتها، أو قابلياتها على الفكفكة والانهيار.. لأن الحالة التونسية تتشابه من حيث الأصول، وتكتسي الفروق هنا طابعاً كمّياً ، مع رجحان لصالح الحالة السورية لجهة الخبرة، وقدرة الفتك، ونوعية الوسائل، ومستوى الترهيب.
****
مع ذلك، ومع الأخذ بالاعتبار مجموعة هذه العوامل، وإضافة العامل الخارجي إليها(وهو عامل متناوب السلب والإيجاب، وحصيلة مفاعلات مختلفة).. فإن الحالة السورية مرشحة، بقوة، كما عديد الساحات العربية، لحالة شبيهة بالحالة التونسية، بغض النظر عن التوقيت، والشكل، خصوصاً وأن النظام يسدّ جميع أبواب الإصلاح الحقيقي(السياسي أساساً)، وقطع، ويقطع الطريق على كل من راهن على قابليته للتفاعل والإصلاح والحوار، وهو ماض في نهجه الأحادي، الاستبدادي، بل ستشهد الفترة القادمة تشديداً ملحوظاً في الجانب الأمني، وفي ملاحقة قوى المعارضة، وأي حراك مدني يتهيّأ له أنه قد يكون الشرارة.
ـ وعلى ذلك فإن النخب السورية، قبل قوى المعارضة المًحاصرة والمأزومة ـ لألف سبب ونتيجة ـ مطالبة أن تمارس الحدّ الأدنى من واجباتها في التصدي للاستبداد، وفضحه، وفي التجرّؤ لكسر قلاع ممالك الرعب، وإحداث ثقب ممكن في هذا الجدار، واستخدام وسائل التقنية والاتصال، وهي كثيرة، ومنوّعة للتعريف بواقعنا كما هو، ولانتزاع حقوق الشعب المهدورة..
ـ وشعبنا السوري، ومهما كانت قيود الخوف، والتحسّب.. ومهما تلكّأ في البداية.. سيعرف كيف يختار طريقه ووسائله، وسيعرف أكثر كيف يصون وحدته الوطنية، وكيف يرسي أسس المساواة بين الجميع عبر التأسيس لنظام ديمقراطي شامل، يوفر الحقوق الدستورية لجميع مواطنيه بكل مفرداتهم وانتماءاتهم السياسية والعقائدية والمذهبية والقومية وغيرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى