لكل طاغية يوم
بدرالدين حسن قربي
جرت العادة أن تستخدم الأنظمة القمعية بعض العاملين على عربات بيع الخضار وعربات جمع القمامة والأوساخ في التجسس على شعوبها وجمع المعلومات عنهم ومراقبتهم وإحصاء أنفاسهم. كما جرت عادة هذه الأنظمة الفاسدة أيضاً أن تلاحق مخالفيها الرأي ومعارضيها في لقمة عيشهم وقوت أطفالهم والتضييق عليهم، هذا إن كانوا داخل الوطن الذي يجعل المستبدون منه سجناً كبيراً. وأما من نفد من هؤلاء المواطنين بجلدهم واستطاع الهرب خارج هالوطن فلهم من خدمات نظامهم الديكتاتوري حقهم في الرصد والمتابعة، ومستحقهم من الملاحقة والمضايقة حتى لايضيع عليهم شيء من خدمات نظامهم التعيس. وعليه، فلكثرة متابعة هذه الأنظمة لمواطنيها في بلاد المهجر والمغترب يخيل إليك بأنهم لاينامون مرتاحين حتى يطمئنوا عن كل مواطنيهم وخصوصاً المعارضين منهم في طعامهم وشرابهم وغدوهم ورواحهم وسهرهم وسمرهم ونقاشاتهم وحواراتهم. وهم من أجل ذلك يصرفون الملايين والملايين في الرصد والمتابعة ومن جهدهم وصحتهم الكثير والكثير، ويرسلون عناصرهم الاستخبارتية لتُدس في صفوف هالناس تؤدي دورها المراد وتقوم بما هو ممكن ومستطاع في التخريب والإفساد والتجسس. وإن فاتهم شيء فلا يفوتنّهم منع المستندات الرسمية والوثائق عن هذا المواطن المضطهد ومساومته على حقه ومواطنيته ولاسيما ماكان من مثل جواز السفر، التي لها قصة طويلة وطويلة جداً تعبيداً لمواطنهم وإخضاعاً له تحسباً منه وخوفاً من كل حركة له أن تكون صيحة عليهم.
ماعلينا من مثل هذا الحديث، وقد قام النظام التونسي بمثل هذه الأعمال واشتغل وماقصّر في شأن منها. منع أحزاباً وطارد قادتها وناسها، ولاحقهم في الخارج أيضاً، وأقام المحاكم الاستثنائية والقمعية، فقتل من قتل، وهجّر من هجر، ولم يفوّت حتى العاملين في منظمات إنسانية حقوقية، وسجن الآلاف من مواطنيه لرأيهم وفكرهم ومخالفتهم له، واستأثر بالسلطة والثروة مع مجموعة من الأقارب والرفاق، وأخضع الجيش والأمن ليكونوا حراساً لسلطانه العتيد وفساده العتيق وجعل من الوطن مزرعة وكأنها ميراثه عمن خلفوه حلالاً زلالاً، وعمل كل مايمكن عمله قرابة خمس وعشرين عاماً للتوطيد لحكمه فساداً واستبداداً وقمعاً وقهراً.
وإذا كان لكل طاغية يوم من مثل ماشهدناه للرئيس بن علي، فإن للطغاة والظالمين من شكله وصنفه نهايات سوداء أيضاً، وغالباً ماتكون بئيسة كئيبة، لأنهم يغفلون عن مصيرهم ويتعامَون عن نهايتهم، ولئن ذكّرتهم قالوا لك احنا غير، وجماهيرنا غير. فذات يوم قال الرئيس السوري بشار الأسد: أنا لست صدام حسين (أنا غير)، واليوم كلهم بلسان الحال يقولون: احنا مش تونس. ويتجاهلون مع كل الضجيج الإعلامي والصخب الهادر لثورة الجائعين الحديث عنها باعتبارهم مش تونس.
ولكن ياتُرى هل خطر ببال الرئيس التونسي السابق وهو من اعتاد جلد الناس كبيرهم وصغيرهم، وقهرهم وإخضاعهم بالقوة والبطش، وهو يتظاهر بالشفقة والحنان والعطف والرحمة في هيلمة إعلامية مكشوفة عندما كان يزور في المستشفى شاباً جامعياً عاطلا عن العمل يسترزق من عربة يبيع عليها بعضاً من خضار وفاكهة، قامت البلدية بمصادرتها ورفضت سلطات المحافظة قبول شكواه في حق شرطية صفعته أمام الملأ، فأحرق نفسه احتجاجاً، هل خطر ببال زين العابدين بأن مثل هذا الشاب البائس ممن لايعرفه أحد ولا يُرى عليه أثر معارضة قد أشعل ملكه، وأنه أضرم النار تحت أعمدة قصره وعتبات عرشه ومهاد طاغوته..!؟ بالتأكيد، لم يخطر بباله البتة، لأن يقينه أن الجيش والأمن والأحزاب والمعارضين والإسلاميين واليساريين يمكن أن يفعلوا ذلك ويتهددوا سلطانه وجبروته من دون الجائعين والمقهورين ففعل كل مافعل من قمع وبطش، وأخذ حذره وأقام حصونه ظناً أنها مانعته من ساعة الحساب، ولكن أوتي من حيث لم يحتسب ليكون عبرة للمستبدين والباطشين، ولكن أين المعتبرون؟
اعتاد الطغاة أن يُسخّروا عربات الخضار وبعض سائقيها في القمع والقتل ولم يظنوا يوماً أن ينقلب السحر عليهم، وذلك ظنهم الذي أرداهم، ليقهر أحد أعظم عتاولتهم في بلاد العرب من قبل صاحب عربة خضار، لم يكن يوماً ولو لثانية واحدة داخل توقع الطاغية أو احتماله لاقتلاع هذا الديكتاتور الفاسد الذي هرب وهو لا يلوي على شيء.
بالتأكيد، عرفنا أن أكبر فراعنة التاريخ وطواغيتهم مع كل حساباته واحتياطاته وكل حذره وفتكه وقتله كانت نهايته على يد طفل ألقته أمه في اليمّ أملاً أن تكتب له الحياة، فالتقطه آل فرعون وهم في غاية الفرح والسرور، وترعرع في كنفهم ليكون لهم عدواً وحزناً من حيث لم يحتسبوا.
التاريخ بين فترة وفترة، يعيد الحكاية عن الطغاة والفراعنة وقصة اقتلاعهم وجرفهم، من طفلٍ لاحول له ولا قوة يُلتقط من النهر، إلى شاب يُقهر جوعاً وتُسرق قطرات عرقه، وتُهان كرامته، فهل من مدّكر..!!؟