ثورة تونسصفحات الشباب

«خرافات» عربية تتبدد أمام المشهد التونسي

غالية قباني *
لم تكن الصور الحيّة القادمة من تونس المنتفضة هي الجاذب الوحيد للعرب المتسمرين أمام شاشات التلفزيون في أكبر نسبة مشاهدة تحظى بها الفضائيات الإخبارية منذ الحرب على العراق. لم يبحث هؤلاء عن أخبار تشبه برامج الواقع تسمح بمتابعة الأحداث لحظة بلحظة. ولم تكن «التسلية السياسية» هي ما جمّدهم أمام الشاشات وأنساهم برامج أخرى أكثر ترفيهاً واسترخاءً، بل هي الحقائق الجديدة التي كانت تتجلى أمامهم وتلغي مصطلح «المستحيلات» في كل فرص التغيير، بعد أن تم اقناعهم بأن البديل هو تدخل قوى خارجية تثير الفوضى ومجيء قوى أصولية تعيد المجتمع الى الوراء. لقد قدم المثال التونسي درساً في السياسة والاجتماع، فحواه ان «غير المتوقع» جاهز دوماً ليطل برأسه من رحم المستحيل نفسه، وإن إبقاء المجتمع في حالة اختناق دائم هي خرافة مثل خرافات أخرى هجست بها شعوب محبطة من إمكانية تحريك مياه آسنة في مجتمعاتها.
لنتأمل لماذا اختلفت ردة فعل شعوب المنطقة حيال التغيير الذي تم في العراق في الحرب الأخيرة. المتابعة الأولى كانت مدججة باليأس والألم أمام انهيار نظام عربي ديكتاتوري من خلال قصف طائرات أميركية، لا من خلال تغيير داخلي. كانت الصور تترى حيّة لتحرك الدبابات الغازية وهي تفتح طريقها بسلاسة نحو العاصمة بغداد. الرئيس كان مختبئاً وقواته تلاشت كأنها لم تكن في الاساس، والبلاد في أيدي الغزاة، ولم تكن الأغلبية العربية عاشقة للطاغية – بحسب ما أشيع وقتها كخرافة -، بل رافضة للتدخل الأجنبي في بلد عربي بحجة التغيير وإرساء الديموقراطية. وهذا ما أكدته الآن البهجة العارمة التي وسمت ردة فعل شعوب المنطقة حيال الانتفاضة الشعبية في تونس، التي يمكن تتبعها عبر المواقع الإلكترونية وعبر البرامج التلفزيونية، مبتهجة لرحيل نظام وانهيار النخبة المستفيدة منه، فالتغيير هذه المرة من الداخل، لا يـأس ولا قنوت أو خوف من فوضى عارمة.
ولكن علينا أن ننتبه ونحن نشعر بالارتياح أمام التجربة العربية الجديدة المتحضرة، إلى حقيقة أن المجتمع التونسي كان سباقاً بين بلدان المنطقة الى تكوين منظمات المجتمع المدني، فيه تأسست أول منظمة حقوق انسان في المجتمعات العربية وفي افريقيا ككل، من خلال «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان»، اضافة الى تراث متراكم للتوانسة ان يفخروا به في حركة النقابات المهنية والأحزاب المعارضة. هذه كانت جاهزة لتسلم بعض المسـؤوليات المدنية في أعقاب سقوط النظم وجاهزة للمساعدة في إدارة المجتمع، بعيداً عن الفوضى والعشوائية واللـجوء الى مكونات أولية متخلفة، فلا رؤساء عشائر هنا ولا مشايخ طوائف، كما حدث في العراق برغبة وسوء نية واضحتين من قوات الاحتلال.
ومما أضفى على الثورة التونسية الخضراء ارتياحاً اضافياً، حقيقة بقاء الجيش التونسي محايداً ملتزماً بمهنيته في الحفاظ على أمن البلاد واستقراره. لم يدس بأنفه في شؤون السياسة ولا طالب بحصة في الإدارة المدنية، فانتفى بذلك «بعبع» الانقلاب العسكري وسيطرة العسكر على البلاد. لقد ساد البلدَ المنهار نظامه للتو حوار متحضر واجتهادات حول الدستور ومواده، كأفضل فترة ترد فيها الإشارة الى الدستور ومرجعيته في تاريخ تونس.
الدستور، هذا المرجع التشريعي المنسي عند الطغاة الا عند التجديد لبقائهم في السلطة. وها هي كل مكونات المجتمع المدني التونسي تشارك في العملية السياسية بعد سقوط النظام، فتبدد معها خرافة سياسية أخرى تقول ان التغيير في المجتمعات العربية يعني بالضرورة صعود الأصوليات الى سدة الحكم. وبدل الخرافة، ستسود بين شعوب المنطقة الآن قناعة أكبر بأن سيادة التقاليد الديموقراطية هي الأهم من كل الاعتبارات الأخرى الافتراضية، لأنه من خلال تلك التقاليد يتحرك المجتمع نحو الحداثة والتجديد، ويلحق بحركة العالم السريعة على ساقين سليمتين.
أخيراً، وبعد أن تخلصت الشعوب من خرافات سياسية فرضت عليها بسبب اليأس التام من أي فرصة للتغيير، يبقى على الأنظمة نفسها ان تتخلص هي أيضاً من خرافاتها الخاصة، فتدرك أن قيادة المجتمع بمشاركة شعبية هي التي ستحميها وتحمي المجتمع في آن. ولن ينفع عشرات الآلاف من المخبرين ورجال الأمن ان أزفت ساعة الانفجار، ولن تنفع مساندة أنظمة كبرى تتعامل مع الحكام كموظفين تنتهي مهماتهم بمجرد أن لا يعودوا قادرين على خدمة مصالحها. لقد قدمت التجربة التونسية دليلاً عملياً على استحالة المضي في تشديد الخناق على الشعب وتركه في حالة اختناق دائم، فعندما تصل الأمور الى حدودها القصوى في الاحتمال لن يقف أمام وجه الانفجار لا حجب مواقع إلكترونية ولا منع دخول صحف ولا تكميم الأفواه. محمد بو عزيزية عندما شعر بإهانة التجويع وانسداد كل أفق لفرص حياة كريمة، لم ينتظر حتى تتم مناقشة حالته على مدونة إلكترونية، بل أشعل النار بنفسه ورمى بالشرر الى من حوله لتشعل ثورة شعبية. هذا الاحتمال الكامن الذي لم يكن يخطر ببال سلطة مدججة بالأمن، وصلت شرارته الى عصبة الفساد ممن حفروا قبورهم بأيديهم في كل تجاوز أقدموا عليه بحق الشعب والبلد. وها هم وقد احترقوا، واحترقت معهم كل الخرافات التي ظنوا أنهم قادرين على حكم البلاد بسببها، الى أبد الآبدين.
* كاتبة سورية
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى