زمن الدكتاتوريين المرعوبين
جان كورد
عندما يكونون في السلطة، فإنهم يلمعون كالدمى في واجهات الحوانيت الشهيرة، ولكنهم يرهبون كالفراعنة شعوبهم، فلا يتوانون عن التقتيل والتعذيب والسلب والنهب ، وتاريخ حكمهم تاريخ للفساد في الأرض، ولكن بمجرّد أن تهتز عروشهم تحت أقدامهم نتيجة زلزال شعبي، فإنهم ينقلبون إلى فئران أو جرذان، لايستطيعون الصمود في مواقعهم والدفاع عنها سويعات قلائل…
في شرقنا الأوسط أمثلة عديدة عن هؤلاء المرعوبين، منهم شاه ايران الذي كان يحلو له تسمية نفسه ب”ملك الملوك – شاهنشاه”، ولكن على الأقل فإنه خرج من البلاد غير متدّثر بثياب امرأة، وانما راح جنرالاته يقبلون يديه، ومنهم من قبّل حذاءه توديعاً له في آخر لقاء مهيب بينه وبين أعوانه… نعم، ذهب الشاه ولم يعد ثانية إلى عرشه.. وكأنهم لم يكن.
أما “حامي البوابة الشرقية للأمة العربية”، صدام حسين الذي كان يتزّين بأهم وأثمن النياشين العسكرية، ويحمل لقب “القائد العام للجيش والقوات المسلّحة، فقد ملأ الدنيا رعباً منذ أن قام بتصفية معظم رفاقه القدامى وأبعد رؤساءه وصار عوضاً عنهم حاكماً مطلقاً للعراق، يسفك الدماء ويعذّب من يشاء ويسلب الأموال كيفما يشاء، إلاّ أنه لم يقاوم محتلّي بلاده، بل هرب من قيادته العسكرية والسياسية ليخفي نفسه دون أتباع أو أولاد في مخبأ تحت الأرض بموطنه، بعيدأ عن مقر السلطان وهيئة الأركان، ولم يتجرأ حتى على استخدام سلاحه الشخصي الذي كان بحوزته يوم جرّوه من ذلك الجحر الوضيع الكريه الرائحة، ليفتشوا عن القمل والنمل بين خصلات شعره المنفوش كشعر بدوي ضاربٍ في الصحراء لم ير حلاّقاً منذ زمن طويل، وليتأكدوا بأنه لايخفي في فمه كبسولة سم زعاف ، ظناً منهم أنه سيفعل ما فعله أدولف هتلر، فإنهم فتشوا فمه الفاغر وهو في هدوء واسترخاء واستسلام، هذا الحمل الرضيع كان يحمل مسدساً ذي قبضة ذهبية أيضاً…ومع الأسف فقد كافأه “الأعراب” باعلانه شهيداً ومجاهداً وقائداً تاريخياً، وكأنه كان عظيم الروم الذي يخوض المعارك واحدة بعد الأخرى، وليس كهارب من خندق القتال، وقد يجعلونه مع الأيام في مرتبة خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص أو عنترة بن شداد…
ومثالنا الأخير هو زين العابدين بن علي، الرئيس التونسي الهارب من نقمة وثورة شعبه الأبي، هذا الذي خدم في الجيش وقيادة الأركان، وتولى مسؤوليات عديدة في الأجهزة القمعية ووزارة الداخلية، وتسنّم مناصب عليا في الدولة، إلى أن صار رئيساً للجمهورية الخضراء، تصفّق له الملايين وتعلّق صوره في الساحات العامة، وكأنه بطل من أبطال القادسية واليرموك وحطين وميسلون… لقد تصرّف في بلاده تصرّف الحاكم المستبد الطائش، تاركاً لزوجته وأهلها وأتباعه أن يسرقوا من الشعب قوته ويهدروا دم أبنائه وبناته ويحولوا حياته إلى جحيم لايطاق، فامتلأت السجون بالوطنيين الأحرار، وامتلأت الشوارع بعملاء النظام وعيونه الذين قضوا على كل أمل في الأمن والاستقرار…وهاهو يفّر كثعلب سرق دجاجة، ليتبع امرأته التي خطفت قبله ذهب التونسيين وأموالهم وهربت لتعيش في دولة ثرية بعيداً عن متناول القضاء التونسي…
إنها الدكتاتوريات المرعوبة في كل مكان، تشبه الأفاعي في أذاها وهيبتها عندما تكون في السلطة، ولكنها تنزلق بسرعة إلى الجحور، دون مقاومة عندما تشعر بالخطر المحدّق بها…إنها تختلف في الأسماء ولكنها ترسم ذات الخطوط البيانية في سياساتها: الفساد الإداري، تجاوز القانون، الاستفراد بالسلطة، نهب الأموال بحيث تزداد البطالة، وممارسة أشنع أساليب القمع اللاإنساني واللاأخلاقي ضد المعارضين…وانتاج شريحة واسعة من المرتشين الطفيليين على الشعب الكادح…
هذه الدكتاتوريات، أياً كانت أسماؤها ومواطنها، قد تختلف في الجغرافيا والأزمنة، ولكنها تتفق في الصعود على الأكتاف عن طريق سفك الدماء واغتنام الفرص بانتهازية عجيبة أو الوصول إلى الأعلى عن طريق وراثي، كما تتشابه كلها في السقوط المهين، إمّا هرباً تحت جنح الظلام، أو اختفاءً في برقع امرأة بسيطة أو أنهم يلقون مصيراً تعيساً على أيدي الشعب في الشوارع مثلما حدث لدكتاتور رومانيا تشاوتشيسكو وزوجته، أو يقدمون إلى محاكمات بسبب جرائمهم ضد الإنسانية كما حدث لبول بوت في كمبوديا أو بينوشيت في تشيلي أو ميلوزوفيتش الصربي أو صدام حسين العراقي…
وقلة هم الذين يستفيدون من التجارب فيعيدون النظر في سلوكياتهم السياسية والقمعية ويتفادون الانهيار والنهاية المؤسفة…إذ يبدو أن معظمهم لايخاف فحسب، بل لايملك أدنى مستوىً من الفهم الصحيح للأوضاع التي يعيشونها ويظنون بأنهم باستمرارهم في طغيانهم سيقضون على الشعب المتذمّر…فتكون النتجية دائماً بعكس ما يحلم به الدكتاتوريون….
فهل في تونس اليوم عبرة لمن يعتبر من أمثال زين العابدين بن علي ومن على شاكلته؟ أم أنهم صم بكم عمي فهم لايفقهون؟
ترى من الذي جاء دوره الآن ليقذفه به الشعب من النافذة؟