الظاهرة البوعزيزية.. و جنة عرضها وطن
حمزة رستناوي
(1)
سيثبت مدوّنات التاريخ أن المناضل التونسي محمد البوعزيزي , أقدم على حرق نفسه في فعل احتجاجيّ ,أدى لانطلاق شرارة الثورة التونسية 2011.
و سيحتفل التونسيون و غيرهم بتاريخ 17- ديسمبر ك1 تخليدا لذكرى البوعزيزي, و على النقيض من ذلك سيثبت مدوّن التاريخ أن زين العابدين بن علي الرئيس الثاني للجمهورية التونسية بعد الاستقلال قد تم خلعه من قبل شعبة, و فرّ هاربا خوفا على نفسه, بالتأكيد لن يحتفل أحد بتاريخ هروب بن علي خارج تونس, و لن يستبدل أحد صورته على الفيسبوك بصورة زين العابدين .
علّق و سيعلّق التونسيون و كثير من العرب صور البوعزيزي في منازلهم و سيجعلونها خلفية لشاشة الكومبيوتر أو الموبايل محبّة لتونس ,و بالمقابل كذلك نزع التونسيون صور زين العابدين بن علي محبة كذلك منهم لتونس, و لعلّها مقارنة غير متكافئة بين زين العابدين بن علي و بين محمد البوعزيزي , مقارنة غير متكافئة و لكن لصالح البوعزيزي هذه المرة.
(2)
الحركات و الظواهر الثورية في البلاد العربية بعد الاستقلال تفتقد بصورة عميقة للرمز, الرمز كوظيفة اجتماعية و ثقافية جامعة و محرّضة, كقدوة ذات رأس مال رمزي. و سأحاول تلمّس العوامل التي ساعدت على ذلك تعزيز رمزية البوعزيزي:
*الشباب : أي أنه يملك إمكانية فرص أخرى في المستقبل لتحسين وضعه, و مع ذلك قرر وضع حدا لهذه الإمكانيات, إنّه يقدم على التضحية في ريعان الشباب.
*الانتحار حرقا ً: بما للحرق من دلالة رمزية, إنه من أقسى أنواع السلوك العنفي, القسوة هنا دليل المعاناة و الصدق في التعبير عن هذه المعاناة.
*الصدق و المعاناة: حيث أقدم محمد البوعزيزي على الانتحار احتجاجا على الظلم, ظلم قابل للتصديق و المشاركة , محسوس و مُعَايَش , و ليس ظلم في مكان آخر يذهب ضحيّته أناس آخرين, ظلم قد يتم إعادة تصنيعه و توظيفه و أدلجته,في سياقات تفقده البريق الإنساني و قوة البداهة.
*المشهديّة : فثمة مشهد علني لموت واقعي ,رسالة فجّة صادمة للمُشاهد تستهدف شريحة واسعة و بالتالي تأثير أكبر , و ليس موت في الخفاء و خلف الجدران أو في الأقبية,فهنا تبرز قوة الصورة -الفرجة – مقابل الضعف النسبي لقوة القول و الكتابة.
(3)
سأقوم بمحاولة أوّلية لتفهم سياقات التشكّل المختلفة للظاهرة البوعزيزيّة :
1- الزمان: هذا الحدث مرتبط بعصر المعلومات و ثورة الاتصالات: فضائيات, فيسبوك, جوالات , تسريبات موقع ويكيليكس , نقص سيطرة السلطات على تدفق المعلومات , فلو وقع هذا الحدث قبل ربع قرن في ظل سيطرة الدولة على الإعلام و تحكّمها به, كان يمكن أن توقّع سيناريو مختلف.
2- المكان: تونس و ليس مكان آخر : فثمة طبيعة محدّدة للمجتمع ولنمط الاستبداد التونسي أتاحت هامش حرية يسمح بنمو تناقضات أفقية في المجتمع أي تناقض: سلطة مستبدة/ شعب , و ليس تناقضات تسمح بانقسام المجتمع عاموديا و الدخول في صراعات فئوية و أثنية تهدد وحدة التراب الوطنية.
3- العقيدة: ثمة تعاطف مع ظاهرة الانتحار حرقا ,و تفهّم لها , و تفاعل معها من قبل التونسيين , و هذا التعاطف و التفهم قد يكون غائبا أو أقل في مجتمعات أكثر تشددا ً وأكثر محافظة في فهمها و معايشتها للتجربة الدينية, بل قد يكون ذات الفعل و في مكان آخر مثار استنكار و نبذ اجتماعي , حيث يتم توظيف نصوص مقدّسة للحكم عليه بالسجن المؤبد في نار جهنم , و للإطلاع يمكن قراءة تعليقات القراء في النت:
و سأسوق أحد تعليقات القراء في “الجزيرة نت” كمثال:
تعليق لملقب” مجاهد جزائري”
“قاتل النفس في جهنم مخلدا فيها . و لا يعذب بالنار إلا رب النار
الله من يرزق العباد و ليس الدولة ,ضعيف الإيمان . ينسى فضل الله
عليه . ”
وكذلك لو كان محمد البوعزيزي يعايش التجربة الدينية بشكلها آخر
,لأقدم على سبيل المثال على الالتحاق بتنظيم القاعدة و تفجير نفسه
في مخفر للدرك التونسي, أو لكان تحلّى بالصبر و الدعاء..الخ.
و السياق الذي أعرضه هنا سياق تحليل و تفهّم و ليس سياق تأييد
أو إدانة.
4-الإدارة: قام محمد البوعزيزي بإدارة للصراع مع ممثلي السلطة في مدينة سيدي بو زيد بطريقة معيّنة انتهت بحادثة الانتحار المشهدي حرقا , لنفترض سيناريو آخر حيث دخل في عراك مع الشرطة و تم اعتقاله مثلا , أو أنه أقدم على الانتحار شنقا في المنزل,أو سعى للهجرة إلى فرنسا,أو تحول لعصابات الجريمة, أو التحق بصفوف القاعدة: كلها سيناريوهات ممكنة الحدوث, و يبرز عامل الإدارة كذلك حاسما في إدارة مظاهرات الاحتجاج ضد السلطة التونسية ,فقد استخدمتْ تكتيكا لاعنفيّا و بإرادة تصميم و شجاعة.
(4)
الظاهرة البوعزيزية : جاءت ضمن سياق اجتماعي سياسي اقتصادي زمني مكاني مختلف عن ظواهر انتحار عربية حرقا خلال الأسبوعين الأخيرين و لذلك أثمرت و نضج أوانها.
هي ظاهرة مفاجئة غير متوقعة ,ثمة مزيج انفجاري سابق على الحادثة كان شرارته محمد بو عزيز.
حيث نجد عدة حوادث من الانتحار حرقا احتجاجا على الظلم الاجتماعي و السياسي جرت في الجزائر و مصر, بالتأكيد قد أحرجت الحكومات المصرية و الجزائرية , و تسارع المسئولون فيهما – و في بقية بلاد العرب – لتأكيد خصوصية الحالة التونسية, فحوادث الانتحار حرقا كشفت المستور, فضحت حال القهر و الفقر و الظلم الاجتماعي , و كان من ثمارها مكاسب آنية في أكثر من بلد عربي تتعلق بالوضع الاقتصادي, حسنا هذا أمر ايجابي. و لكن لم تنجح الظاهرة البوعزيزية إلا في تونس!
ما جرى في تونس: مؤشر أوّلي قابل لشتى الاحتمالات بما فيها الانتشار و المراوحة و النكوص.
و أخيرا ً:
هل محمد البوعزيزي في الجنة أم في النار أم …: لا أعلم!
و لكن الذي أعلمه أن محمد البوعزيزي فتح أفقا لجنَّة دنيويّة عَرْضُها وطن , و طولها إنسان.