الثورة التونسية والتحديات المركبة
بدر الدين شنن
لاغلو بالقول ، أن الثورة التونسية ، ، التي ماتزال تداعياتها السياسية مفتوحة على احتمالات أكثر جذرية ، لم تسقط ديكتاتوراً عريقاً بالقمع واللصوصية والفساد وحسب ، وإنما هزت أنظمة عربية عديدة ، لايتميز أحدها عن الآخر ، إلاّ بشدة قمعه الشعب واستغلاله وسرقته ، وهزت ارتداداتها المنظومة الرأسمالية ، التي تتخبط منذ سنوات في أزمتها العامة ، والتي كانت وماتزال تراهن على نجاعة استخدام أنظمة البلدان المهمشة ، التي تدار معظمها من قبل ديكتاتوريات متعفنة ، حلقات ربط وترقيع في شبكة اقتصاد السوق العولمي . ولأن النظام الديكتاتوري التونسي شكل حلقة لافتة ، سياسياً واقتصادياً وقمعياً ، في فضاء هذه الشبكة ، عولت عليه ليكون أنموذجاً تحتذي به بلدان أخرى .
وعلى هذه المستويات الثلاث ، تواجه الثورة صعوباتها وخصوماتها . فالثورة بعد أن اكتسح سيلها العارم الشارع ، ولجأ الديكتاتور إلى الهرب مع المقربين منه ، حاملاً ما ا ستطاع في عجلة الذعر من أموال الشعب ، صارت بمواجهة المؤسسات التي كانت تشكل دعائم المؤسسة الديكتاتورية ( الحكومة .. الأجهزة الأمنية .. حزب التجمع الدستوري الحاكم .. الأحزاب ” المعارضة المرخصة ” .. المافيات الطبقية الاقتصادية ) وبمواجهة ” لـغــز ” الجيش الذي أثاره ” الغنوشي ” بخبث مهدداً به ، خلال مشاورات تشكيل الوزارة الجديدة برئلسته مع الأحزاب التي دعاها للاشتراك بهذه الوزارة . وذلك بطرحه بكل وضوح وإصرار ” إمـا أنـا وإمـا الجـيـش ” . الأمر الذي لايمكن تجاوزه ، بل التوقف عنده والإحاطة به من أوجه متعددة . نعم الجيش وقف محايداً بين الثورة الشعبية والديكتاتور .. بل دفع حياده الديكتاتور إلى الهرب والسقوط ، لكن حسب بنية هذا الجيش وخلفياته الاجتماعية السياسية ، التي كانت على الدوام تحت مراقبة الديكتاتور ، هل يمكن الاطمئنان إلى أنه سيكون أيضاً محايداً ، عندما يتطلب الأمر حسم ممن ستتشكل الحكومة التي ستكلف بتحقيق أهداف الثورة الاجتماعية السياسية ، ولمصلحة أي من الطبقات الاجتماعية بالتحديد ينبغي أن تعمل الحكومة ، خاصة وأن الأوضاع الاجتماعية المتردية ، وتدهور المستويات المعيشية ، والبطالة الواسعة ، كانت الدوافع المباشرة لتفجير الثورة . بدلالة تشبث ” الغنوشي ” بقيادة نظام ما بعد ” بن علي ” . مرة بتولية نفسه رئاسة الدولة ، ومرة ثانية بتولي رئاسة الحكومة الجديدة بتكليف من رئيس برلمان الديكتاتور ، حكومة جلها من قاعدة الديكتاتور السياسية ، مدعوماً على المكشوف بقوى وزارة الداخلية ذاتها ، التي كانت ذراع ” بن علي ” الأمنية وواجهت الثورة بالرصاص الحي ، دون أي إجراء معوق لذلك من قبل الجيش .
أما حزب الديكتاتور ” حزب التجمع الدستوري ” ، فهو ليس حزباً عادياً يقوم على أسس قانونية أسوة ببقية الأحزاب .. ولايتحرك كأي حزب سياسي عادي . إنه حسب مصطلحات السياسة المفوتة في البلدان التي يملكها الحاكم ” الحزب الحاكم ” وله أقران في سوريا ومصر والسودان واليمن .. ومن الصعب التمييز بينه وبين الدولة .. إذ أن منهما متماه بالآخر . فكوادره تتمركز في كل مفاصل وإدارات ومؤسسات الدولة ، لاسيما السلطوية والأمنية . ويهيمن قادته من المستوى الأول وكوادره الأساسية على الاقتصاد ، وهم يمثلون أقوى وأبرز المافيات الاقتصادية . ولديه ( 15000 ) عضواً من المتفرغين على حساب الدولة . وله علاقاته وصلاته المافيوية الاقتصادية والسياسية مع الخارج . وهو مازال يجثم كا لكابوس على كيان الدولة .. ويجثم الآن خطره على صدر الثورة .
ويدخل في هذا السياق المافيات الاقتصادية ” الطبقية ” قاعدة النظام الديكتاتوري . فهي ، عدا عن أن كبار رموزها من أقرباء ” بن علي ” ، قد هربوا مليارات الدولارات نقداً وذهباً ، فإنها ماتزال تقبض على السوق ، لاسيما الاستيراد والتصدير والتسهيلات المصرفية مع الخارج ، وهي تلعب الآن دوراً قذراً في عرقلة حصول المواطنين على المواد المعيشية ، وبإمكانها أن تلعب دوراً أكثر قذارة في تخريب الاقتصاد ، إذا تمكنت الثورة من الاستقرار والرسو على الضفاف الشعبية .
وعلى مستوى الأنظمة العربية ، فقد اتسمت ردود فعلها المتدرجة ، منذ الأيام الأولى للثورة ، بالاندهاش أولاً من مشهد جسد ” محمد بوعزيزي ” المشتعل ، الذي صار الصاعق الذي فجر الثورة . ثم الاستهجان لبسالة الشباب التونسي الثائر بتحدي القمع والرصاص الحي . ثم التواطؤ مع الديكتاتور علناً ، كما القذافي ، أو بالصمت الرسمي والتنويس الإعلامي .. والتعتيم على القوى السياسية والنقابية الشجاعة ، التي انطلقت جموع الثورة وأبطالها ، من رحم تضحياتها ، في السجون ، والمنافي ، والعزل ، والسرية التي يكتنفها الحرمان والخوف والبؤس ، والتقية الهادرة للمكانة والمصالح والكرامة . بل وراحت هذه الأنظمة تتغابى وتتكاذب مدعية ، أن الثورة التي ضمت الملايين في مختلف المدن التونسية هي عفوية .. لم تنظم ديناميتها أية قوى .. ولاتوجد أية قوى تقودها . وكل من يعرف ألف باء السياسة ، يعرف أن الواقع الموضوعي الذي يتأى عن الآلام الاجتماعية والقهر الأمني والظلم بمختلف أشكاله ، لايكفي وحده دون التنظيم والقيادة للتمرد ولانطلاقة الثورة .
غير أن هذا التغابي والتكاذب لم يصدر عن تلك الجهات عبثاً ، وإنما صدر عن الرعب من الثورة ، وعلى خلفية رغبات وتوجهات تواطؤية ، لوأد الانتفاضة ، والحفاظ على جوهر وأسس الننظام الديكتاتوري ، وذلك من خلال تسليط الضوء على قوى النظام السياسية السابقة وحلفائها ، على أنها وحدها هي الموجودة في الساحة السياسية التونسية ، وهي المؤهلة ، وينبغي ، أن يؤول إليها الحكم ” الجديد ” بعد الديكتاتور .
اللافت على الصعيد الدولي ، إسراع ” أوباما ” إلى إعلان أن من حق الشعب التونسي اختيار حكامه ، وكذلك موقف فرنسا ، لاسيما تصريحات وزيرة الخارجية ، التي عملت على بقاء ” بن علي ” في الحكم . بل وصرحت بعد سقوطه ، أنها كانت على اتصال معه لتقديم المساعدة الأمنية الفرنسية ضد الثورة ، لكن بعد فوات الأوان ، فقد سبقتها الثورة على حسم مصير ” بن علي ” ، فكانت مساعدتها على تأمين رحيله هارباً تحت الحراسة الفرنسية .. ثم بعد تصدر ” الغنوشي ” و ” المبزع ” وجه السلطة الجديدة ، تم الإعلان عن موقف فرنسي مؤيد للعهد ” الغنوشي ـ المبزعي ” الجديد .
ما يلفت أكثر على هذا الصعيد ، هو موقف الخارجية الأميركية و” أوباما ” شخصياً من الحدث التونسي . وهو ما يضع إشارة استفهام حول ، ماذا لدى أميركا في تونس يطمئنها إلى أن الثورة ، ستفضي إلى مآلات تخدم مصالحها ؟ وأين يكمن هذا الخاص الأميركي في الحدث التونسي ؟
وليس بقليل الأهمية تهديد ” الغنوشي ” لمن يطالبه بوزارة إنقاذ وطني لاتوافق مخططاته الاجتماعية والسياسية بقوله ” إما أنا وإما الجيش ” واسماً نفسه أمام محاوريه ، أنه الأكثر نفعاً وديمقراطية من الجيش ، بمعنى أنه وإن مثل بعضاً أو كماً من ديكتاتورية مضت ، بصيغة ” ديمقراطية ” نسبية ، يبقى أفضل من تدخل الجيش ، الذي يعني عودة الديكتاتورية بصيغة عسكرية غير معنية بالديمقراطية . وهذا يطرح السؤال ، هل يعد ” الغنوشي ” وحزب النظام انقلاباً عسكرياً لاستعادة وتكريس ديكتاتورية ” بن علي ” بصيغة جديدة ؟ .
وكما كل الثورات ، سوف تتعرض ثورة الشعب التونسي البطلة ، إلى الكثير من التدخلات والمؤامرات والصعوبات ، من قوى الديكتاتورية الأمنية والسياسية والاجتماعية ، التي زعزعت الثورة نظامها وهددت مصالها المافيوية بالانهيار ، وكذلك من الأنظمة العربية ، لاسيما النظام الليبي . فالأنظمة العربية عموماً هي الآن بصدد اتخاذ إجراءات استباقية ، إعلامية وأمنية وسياسية ومعيشية ، لحصار ثورة الشعب التونسي وتقويضها ، وحتى لاتشكل حافزاً للثورة الشعبية في بلدانها المقموعة ، وذلك بدعم مخلفات ” بن علي ” الديكتاتورية السياسية والاجتماعية من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، تقديم بعض المساعدات لفقراء شعوبها . الحكومة الكويتية منحت كل مواطن كويتي مبلغ ألف دينار كويتي ، أي مايعادل أكثر من ( 3000 ) دولار . النظام السوري رفع معونة محروقات التدفئة المنزلية ( 72 % ) . النظام المصري جمد زيادات جديدة في الضرائب والأسعار وعين ( 786 ) مهندس بترول عاطلين عن العمل ، إثر تظاهرهم أمام وزارة البترل . النظام الأردني أعلن عن تخفيض أسعار وضرائب فرضها قبل الثورة التونسية ، وكذلك الأمر في الجزائر والمغرب ..
وستتعرض الثورة إلى تدخلات ومؤامرات أمريكية ودولية وصهيونية سياسية ودموية لتقويضها . فأميركا والدول الاستعمارية الرأسمالية الأخرى لايسرها ، بل يزعجها تحررالشعوب من عملائها ومأجوريها وشركائها ، وبناء أنظمة ديمقراطية حقاً ، تنحو منحى اجتماعياً يلبي حاجتها المعيشية الكريمة ، بعيداً عن إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، التي تتطلب الخصخصة للملكيات العامة الانتاجية والخدمية ، وإطلاق العنان لاقتصاد السوق الليبرالي ، والخضوع لشروط منظمة التجارة العالمية ، أي بعيداً عن شروط والتزامات عولمة السوق والرأسمال . لكن ما تقوم به هذه الأنظمة ليس إلاّ ترقيعات في النظام الأمني والنظام الاقتصادي ، لن توفر الاستقرار والاستدامة لها . مامعناه ، أنها لن تتمكن من إغلاق مسارات التاريخ ، الذي يتطلب الخلاص منها ، وبناء مجتمعات جديدة متحررة من عبودية الرأسمال والاستغلال والاستبداد . فهذه الأنظمة ، فضلاً عن أنها تتخلف دونياً عن قيم الانسانية الحضارية ، بفرض العبودية الأمنية والسياسية والاقتصادية على شعوبها ، فإنها لم يعد لها بمقاييس الثقافة والمعرفة والحضارة الإنسانية الكونية ، لم يعد لها مكاناً في لوائح الدول ، بل باتت تتموضع في لوائح العصابات والمافيات ، واستهلكت منذ زمن بعيد مسوغاتها وشعاراتها السياسية الاجتماعية ، التي كانت تتلطى خلفها لتمارس عكس مضامينها وقيمها ..
وبدأت ومضات اشتعال الثورة تبرق في فضاء المجتمعات العربية ، التي يتوفر فيها واقع موضوعي اجتماعي سياسي ناضج للتمرد .. لاسيما في مصر والأردن وسوريا واليمن والسودان .
إن كل الشعوب العربية .. التي تكابد قهر وإفقار واستغلال الديكتاتوريات الجمهورية والملكية وما بينمها ، تنظر بفخر واعتزاز إلى التحول الثوري الذي يجري الآن في تونس . يحدوها الأمل ، أن تتكلل الثورة التونسية بالنصر التام على النظام الديكتاتوري ومخلفاته والمتعاطفين معه ، وبناء تونس جديدة .. أبية .. ديمقراطية .. يسودها القانون والعدالة .
على أنه ، مع وافر القناعة ، أن قيادات الثورة التونسية البطلة تستحق بجدارة مكانة الريادة في النضال الجماهيري العربي ، من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، إلاّ أنه من موقع الشريك الأخوي في الثورة ، ومن موقع الحرص على مآلاتها الواعدة ، نقول ، حذار من مخلفات الديكتاتورية وقنابلها الموقوتة على كل الأصعدة .. ومن أميركا وإسرائيل . وأن نقول ، إن المهام والتحديات المركبة التي تواجهها الثورة .. هي كبيرة جداً .. وشاقة جداً .. وهي تستدعي وحدة كل القوى الثورية في تونس .. ووحدة رؤاها لاستحقاقات الحاضر والمستقبل .. من أجل تذليل جميع الصعوبات .. ومواجهة كل التحديات ..