بدأ مسلسل …هروب الديكتاتور…
د.نصر حسن
من يدري أن ديكتاتور تونس زين العابدين بن علي الديكتاتور الذي حكمها لعشرات السنين بالقمع والتجويع ,وظن أنه مالكا ً لها وخالدا ً فيها ,سوف ينهار ويهرب بتلك السرعة والمهانة والذل, ويسلم بريشه من ارتدادات انتفاضة شعبية هي الأولى من نوعها في العالم العربي ,فجرها الجامعي بائع الخضار محمد بو عزيزي أحد فقراء تونس الشباب في سيدي بوزيد بحرق نفسه احتجاجا ً ضد الظلم والفقر والمهانة في معقل ,,أولاد الحفيانة,, كما وصفها الرئيس التونسي الفصيح الحبيب بورقيبه ,معترفا أن تلك الضاحية التونسية هي بحق أكاديمية خرجت أبطال الاستقلال سابقا وشجعان الانتفاضة ضد الديكتاتورية لاحقا اليوم؟!.
قالها أبا القاسم الشابي :
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر
وظنها الطغاة شعرا ولغوا …ورددوها طرباً و بلاغةً بلامعنى… وظنوها صرخات غريق تتقاذفه الأمواج العاتية بلامغيث…! .
وقالها أمير الشعراء أحمد شوقي بإباء وكبرياء , بأن باب الحرية تفتحه اليد المضرجة بالدماء وخالها السلاطين وقوى الشر ثانيةً أنها هراء..!
وقالها محمود درويش ثالثة ً :
الجائع يأكل لحم مغتصبه
فحذار من جوعه ومن غضبه
سمعها الطغاة الذين تخشبت عقولهم وتلبدت ضمائرهم وتحجرت قلوبهم وانحطت شهواتهم ,ولم يفهموها على أنها صرخة وجدانية …وتحذير ثأري لإرادة مغتصبة وكرامة مهانة لكل من يهمه الأمر من الطغاة والجلادين واللصوص على اختلاف قياساتهم وأسمائهم وجبروتهم وعروشهم وأجهزتهم السرية والعلنية وشعاراتهم الكاذبة…صرخة تحذير وحلم بالحرية ووقف الظلم وانتهاك كرامة الإنسان في جغرافية عربية أصبحت اليوم رمزا ً للطغيان والهمجية والتخلف والفساد وانتهاك الكرامة الإنسانية إلى الحد المقزز والمقرف من هكذا حكام وسلاطين…
ما بين شعرية حلم أبا القاسم الشابي ,وتقريرية نفير شوقي وثورية تحذير محمود درويش ,واقع عربي مهين يقوده ديكتاتوريون لصوص متخلفون لامثيل لهم همجية ً وأمية ً ولاإنسانية ً في التاريخ البشري …فبالتصاقهم المزمن في كرسي السلطة وبذاك القدر المخيف المتسلسل من العنف والقمع وسرقة قوت الناس والتحكم بحياتهم وأنفاسهم , ونشوتهم في فصام الطغيان والقهر والعبودية وكسر الإرادة الوطنية ,حتى بات الإنسان يخاف من الحلم… ! طغاة رعاع وحثالة فشلوا بكل شيئ سوى بتعميم الذل وإنتاج الفشل والقمع وإيصال المواطن إلى حافة اليأس وتعميم حالة انسداد الأفق ,وفرض ثقافة جبرية إطاعة الديكتاتور والتسبيح بظلمه وظلامه , حارمين شعوبهم من الحرية وتقييدهم جائعين مهمشين … في عرف الطغاة الفاشلين غدى حتى مجرد التفكير في هذا الواقع المخزي اللعين جرما,, يضعف الشعور القومي وينقص من هيبة الأمة,, ويعرقل معارك التحرير اللفظية التي يصيح بها الديكتاتور وأبواقه ليل نهار ,خطابات هذيان لضعاف اننفوس ومرضى السلطة ومدمني الفشل والعجز وأذلاء الارتهان للخارج, مدججين بخطابات لفظية شكلية خشبية مخادعة أصمت آذان الشعب وأربكته وشوهت حلمه بالخبز والحرية والكرامة ,وحصرته في حالة الإعياء ومحاولةالتقاط بقايا بقايا الأنفاس !.
وقالها الشعب التونسي أخيرا…
جاء رد ه المفاجئ الشرارة من شاب جامعي فقير يبيع الخضار على بقايا عربة خشبية شبه متحركة تكثف حالة الشعب التونسي المأساوية التي يعيشها في ظل حكم ديكتاتور جبان متسلط برع في ابتزاز الشعب والخارج على أنه حامى الحمى ومخترع الدولة العصرية ومانع التطرف والصائن,, لعلمانية ,,تونس من ردة ,,ظلامية,, تحاول إطفاء نوره ووقف إنجازاته العظيمة … !.
ماحدث في تونس في الرابع عشر من كانون الثاني عام /2011/ كان مفاجأة للجميع في العالم العربي والدولي على حد سواء , سيكون بداية جديدة لعهد جديد وقيم أصيلة متجددة ودرساً بليغا لكل الطغاة ومن ساندهم وأتاح لهم الفرصة بالتمادي في انتهاك حرية وكرامة شعوبهم …
إنها ,,أكاديمية أولاد الحفيانة,, أيها الطغاة…إنها كرامة الشعب الكامنة في تاريخه …إنها إرادة الحياة الحرة المخزونة في خلايا وجدانه وضميره الفردي والجماعي …ظننتم أو شبه لكم أيها الطغاة الفاسدين أنكم مسحتم بأفعالكم الدنيئة تلك إرادة وذاكرة وأخلاقية شعوب , وغصتم في الطغيان والقمع إلى أسفل السافلين.
ماحدث في تونس هو فعلا ً تاريخيا ً ,حطم الطغبان والجبروت , وغير موازين قوى وشبه ثقافة فاسدة ماوسع الطغاة في تعميمها وجعلها قوانين ثابتة تتيح لهم الإمعان في ظلم الشعوب والاستمرار في غيهم وذلهم..ثقافة الطغاة التي ربطت التغيير والإصلاح واحترام حقوق الإنسان بالفوضى والإرهاب ! وفر لهم ماجرى في العراق مثالاً حيا ً من جهة ,وأن التغيير الوطني الديمقراطي السلمي هو حلما لايمكن أن يتم سوى بالإعتماد على الخارج من جهة أخرى…وكان الرد التونسي سريعا سلميا مدنيا ديموقراطيا ً تاريخيا ً …رداً أوضح أن إرادة الحياة الحرة أقوى من الديكتاتور وكل أسلحته ونظم حمايته ومنافقيه الداخلين والخارجيين, ردا ً هو أشبه بقانون طبيعي بسيط استعصى فهمه على الطغاة, خلاصته أن الاحتقان هو بداية الانفجار …وكلما كان الاحتقان شديدا ً ,كان الرد فعلا ً شديدا ً أيضا ً ,مساوياً له في القيمة ومعاكسا ً له في الاتجاه…كان الرد الشعبي العام على الفردية والديكتاتورية الشاملة ,إنها البداية الحقيقية لتأسيس دولة المواطنة والعدل والمساوة وحكم القانون واحترام كرامة الشعوب .
من المبكر الحكم على الثورة التونسية , لأنها خربطت الكثير من المعادلات ونسفت الكثير من أنساق التوازنات ومقاييس القوى المادية بين الحاكم والمحكوم , وفاجأت الكثير من راسمي الاستراتيجيات المحلية والدولية ولاعبي السياسة المحترفين المشاركين في لعبة الأمم هنا وهناك, وللمرة الأولى يسبق الفعل الشعبي استطلاعات المحللين والخبراء المختصين برصد حركة الشعوب, إنها مقاربة التاريخ وفعله في غياب وعي الطغاة وقصور فهمهم وغبائهم على مر التاريخ وعدم قدرتهم على سبر كنه حركة التاريخ.
إن التغيير الشعبي الذي تم في تونس وبشكله المدني السلمي وسرعته في حسم المواجهة مع واحد من أعتى النظم الديكتاتورية العربية ,هو الوصفة السحرية للتغيير الوطني الديمقراطي في عموم العالم العربي ودرسا بليغا ً أخيرا ً لكل الديكتاتوريين وفي مقدمتهم نظام دمشق الذي يفوق وصيفه المخلوع في تونس همجية وقمعا ولصوصية وفشل وطني وتفريطا بالحقوق الوطنية والقومية وكسر إرادة الشعب السوري وتجويعه وإغلاق أفق الارض والسماء أمامه وحصره بخيارات الفوضى والتطرف أو بقائه جاثما على صدر الشعب السوري بما يشبه وهم الخلود الذي بنى ديكتاتور تونس المخلوع استراتيجيته التي سقط وسقطت معه بأيام بدون دبابة وبدون عسكر وبدون مخابرات وأجهزة وبدون فوضى وبدون الخارج معتمدة على الشعب التونسي البطل وعلى تقريره بإعادة كرامته وحقه في الحياة الحرة الديمقراطية.
بقي أن نقول أن المفاجأة هي صفة الحدث التاريخي أولا والعفوية المنتظمة بقيم عامة وحقوق جامعة كانت هي العنوان العام الذي وحد شرائح المجتمع في مواجهة الديكتاتورية ثانيا , وتحييد الدبابة والعسكر باعتياره ميزان القوى التقليدي في أي تغيير والاعتماد الكلي على الشعب هو اختراعا تونسيا بامتياز ثالثا ,
وأن شرارة التغيير هي كسر حاجز الخوف ووقف مفاعيل إيقاع ثقافة الخوف والفساد كان هو موسيقى التغيير الذي ردده الجميع رابعا,وأن تجاهل النظام العربي الرسمي والتعميه على مجريات الأحداث في تونس وحياد المجتمع الدولي الغريب بعض الشيء قد وضح أصالة التغييروأبعاده وساهم بشكل كبير في توصيفه على أنه فعل داخلي شعبي ذاتي خامسا , وأن النموذج التونسي هو رياح التغيير التي هبت على العالم العربي وستصل قريبا إلى دول أخرى لامحال سابعا ً , ,أن أولى ثماره هو هذا الكرم والسخاء الغير معهود من الديكتاتوريين على شعوبهم بعد انتصارا لشعب التونسي البطل ثامنا ً , وأن ديكتاتور سورية قد أحس بالحريق سريعا وتفهم حالة البرد القارص الذي يعاني منها الشعب السوري بظل عدم توفر المازوت وإن توفر بلاقدرة شرائية للمواطن المسكين , فأصدر مرسوما تشريعا بدعم الشعب بمساعدرة قدرها عشرة دولارات شهريا دعما للمازوت وتلاه بمشروعا آخر بتشكيل صنودق المساعدة الاجتماعية وتبعه بتخفيف حجب النت في سورية وذلك بوادر أوليه للزلزال التونسي تاسعا , والغريب أن الديكتاتور السوري لم يتعظ من الماضي البعيد ولا القريب وخاصة بتعامله مع نشطاء المجتمع المدني والمعارضة السورية الوطنية الديمقراطية عندما عرضت عليه ومن داخل سورية برنامجا وطنيا سلميا للتغيير التدريجي وبمشاركة النظام نفسه , فاعتقلها وفتك برموزها زرافاتا ووحدانا عاشرا ً.
إن الفرص التي توفرت للنظام السوري لن تتكرر ,وفي حالة عجز النظام عن الاستجابة للنداء الوطني وعجزه بنيويا عن القيام بالاصلاح بحده الأدنى المطلوب وضعفه وعدم قدرته على المبادرة الوطنيةبالانفتاح على الشعب ,هو المقدمة التي أوصلت زين العابدين بن علي إلى الهرب المهين …لكن الزمن متجه إلى الأمام وتجربة الشعب التونسي درسا ًً للنظام وللشعب السوري على حد سواء… وفي استمرار النظام وإصراره على قمع الشعب وإهانته وتجويعه والتعامل معه بإطار الصدقات والهبات الموسمية لن تجدي نفعاً …الشعب له كرامة وله حقوق هل سيستطيع فهمها الطغاة..بخلاف ذلك النتيجة وحيدة ولاخيار فيها …عندها تتعذر إمكانية الهروب.
خاص – صفحات سورية –