ما حدث وما يمكن أن يحدث في تونس
سلامة كيلة
تطور الوضع التونسي إلى اللحظة التي فرضت هرب الرئيس زين العابدين بن علي، ولم يفد التهديد الذي مارسه الرئيس السابق، ولا فادت الوعود التي أطلقها في لحظاته الأخيرة، ولن يفيد الحل الذي أخرج به الهرب، ويجري فيه نقل السلطة إلى رئيس الوزراء. وربما لن ينجح الحل “الدستوري” الذي أتى برئيس البرلمان كرئيس مؤقت يعمل على التحضير لانتخاب رئيس جديد خلال مدة لا تتجاوز الستين يوماً.
ما يجري العمل على أساسه هو إعادة إنتاج السلطة من خلال إبعاد الرئيس وتحميله كل وزر الماضي، واستقطاب بعض أحزاب المعارضة، وبالتالي إبقاء السيطرة الطبقية للفئات ذاتها. فالخطوات أخذت على أساس الدستور الذي صاغه زين العابدين بن علي، والذي يحدد شكل الصيغة “الديمقراطية” التي كانت تمارس، والتي تبقي الحزب الدستوري هو المحدِّد لشخص الرئيس القادم من خلال البرلمان الحالي الذي يهيمن عليه. ولتبقى أجهزة السلطة ذاتها، البوليس والبيروقراطية اللذين حكما طيلة ربع قرن في عهد بن علي، هي المقررة لنتائج الانتخابات التي ستجري.
وبالتالي يجري التركيز على الدمقرطة وحرية الأحزاب والصحافة، وإشراك المعارضة في السلطة، بينما تبقى البنية الاقتصادية كما هي، وتظل الطبقة الرأسمالية المافياوية هي ذاتها، ربما مع إبعاد مافيا العائلة، وربما لمصلحة مافيا عائلة جديدة.
هذا ما أوضحته التجربة حينما يجري “التغيير” على أرضية السلطة ذاتها، ووفق القوانين ذاتها، والأهم وفق البوليس والبيروقراطية ذاتها. ليكون هناك مرحلة انفراج ديمقراطي، وحرية سياسية، لكن دون لمس المشكلة الأساس التي قادت إلى تفجُّر الانتفاضة، وهي مشكلة النمط الاقتصادي الذي تشكل خلال العقود السابقة، والذي أفضى إلى الإفقار الشامل من جهة، والبطالة الواسعة من جهة أخرى. بالتالي تتراجع نخبة السلطة قليلاً من خلال تحقيق الانفراج “الديمقراطي”، واشراك بعض المعارضة في السلطة، وإعطاء الوعود بتحقيق كثير من المطالب، وتستغل “نخبة” من السياسيين “المعارضين” كل هذا الانفجار الاجتماعي الذي يعبّر عن مشكلات عميقة تفضي إلى الانتحار أو الموت جوعاً، من أجل القفز إلى السلطة، وإن كان ذلك يتحقق من موقع الهامش والملحق لأن البيروقراطية الحزبية القديمة (الحزب الدستوري) ستبقى هي الممسكة بمقاليد السلطة. وهي “اللعبة” التي يراد لها أن تمتص الأزمة، وترحلها إلى أمد أبعد.
إن كل هذا الانفجار الاجتماعي، ولكي يحقق أهدافه، لا بد له من أن يفضي إلى أن يتجاوز ليس الرئيس، بل كل بنية السلطة التي شكلها، بما في ذلك وأساساً الحزب الذي حُكم باسمه، والبوليس والأجهزة الأمنية اللذين تدربا لكي يخدما مصالح مافياوية لتلك الطبقة التي تحكم تونس منذ عقود، وتوثق ارتباطه بالطغم الإمبريالية. وهي التي، وانطلاقاً من هذا الارتباط، فرضت الإفقار الشامل والبطالة المفرطة، إضافة إلى الاستبداد الشامل الذي هو ضرورة، ليس من أجل ذاته بل من أجل تحقيق السيطرة الطبقية التي تسمح بالنهب وبصياغة النمط الاقتصادي. لهذا فإن تقدم الانتفاضة وانتصارها ليس ممكناً إلا من خلال فكفكة أجهزة الدولة البوليسية، وتجاوز الدستور الذي فرضته المافيا، وكذلك تجاوز كل بنية السلطة القائمة، فهذه يجب أن تنتهي، أن تهزم، وأن يجري تشكيل حكومة من القوى الأساسية التي لعبت دوراً مهماً في الانتفاضة، أي النقابات والاتحادات والأحزاب، من اتحاد العمال إلى المحامين وأحزاب اليسار التي كان لها دور بارز، إلى الهيئات واللجان التي تشكلت خلال الانتفاضة. حكومة مؤقتة تعد لانتخابات لمجلس تأسيسي يضع دستوراً جديداً يقر الحريات، ويضع سياسة اقتصادية مختلفة تخدم الطبقات الشعبية.
وهنا لا بد من أن نلحظ بأن المسألة لا تتعلق فقط بتشكيل نظام ديمقراطي، يعتمد الانتخابات والتعددية وحرية الصحافة، فهذه لا تحل مشكلات الطبقات الشعبية وستفضي إلى أزمة بعد حين تفرض انتفاضة جديدة. ولاشك في أن لعب الطبقة الرأسمالية المافياوية كان يجري على هذه المسألة، حيث يجري التنازل في المجال “الديمقراطي” وغض النظر عن كل ما يتعلق بما يتعلق بالنمط الاقتصادي وبالفروق الطبقية، وخصوصاً بوضع الطبقات المفقرة، التي هي أساس كل انتفاضة. ولسوء الحظ تقبل بعض قطاعات المعارضة بهذه اللعبة، فتنقاد خلف السلطة، وتتجاهل الوضع الطبقي الذي كانت تعتبر أنها تعبّر عنه. ويصبح همها هو “اللعبة الديمقراطية”، في وضع غير متكافئ لا يسمح لقوى تطرح بديلاً اقتصادياً أن يحقق ما يجعله يفرض برنامج يمثل الطبقات الشعبية.
وتونس تقف الآن في هذه اللحظة، هل تقبل المعارضة، واليسارية خصوصاً السير مع الحل الذي طرحه أفراد نظام بن علي (أو نظام المافيات)؟ أو تقول بأنها تسعى إلى تحسينه، لكنها تقبل في الأخير؟ أو تشكل سلطة بديلة، وتفتح الطريق لانتصار حقيقي للانتفاضة؟ فالحل من خلال آليات السلطة ذاتها سوف يوجد متنفساً مؤقتاً في المستوى السياسي، لكنه لن يحل مشكلات الفقر والبطالة، لأنه لن يغيّر من النمط الاقتصادي القائم، الذي هو كما أشرنا نمط رأسمالي مافياوي. وبالتالي سوف يعيد الصراع إلى نقطة الصفر. وهو حل يجب أن يرفض نهائياً. ومن ثم ليس غير البديل الذي يقوم على أنقاض النظام القائم، حتى لو لم ينجح الآن، لكن يجب أن يكون واضحاً بأن الأزمة العميقة التي تعيشها الطبقات الشعبية لن يحل عبر الحل السلطوي، وبالتالي حتى فيما إذا توقفت الانتفاضة الآن فإنها سوف تعود في فترة قريبة بعد أن يتوضح للعاطلين عن العمل والمفقرين بأن شيئاً لم يتحقق. وهنا يكون طرح البديل الآن من قبل اليسار هو الأفق الذي سيحكم الانتفاضة القادمة.
المسألة إذن لا تتعلق بشكل السلطة فقط، بل أساساً في طبيعة التكوين الاقتصادي الذي صيغت فيه تونس خلال العقود الماضية. ومن استطاع أن يعرف السبب الذي جعل الطبقات الشعبية تنتفض بهذه القوة عليه أن يعرف بأنه لم يعد من الممكن أن يتحقق حل شكلي تمويهي كما تريد المافيات، وأن الأمور سوف تندفع نحو تصاعد الصراع الطبقي، حتى وإن كان قد هدأ الآن. لهذا سوف يموت اليسار إذا وافق على لعبة المافيا المطروحة من خلال بيروقراطية السلطة القديمة، وبالتالي عليه أن يتبلور كبديل واضح، وأن يدفع الطبقات الشعبية لإكمال الانتفاضة لكي تنتصر حقاً.