دروس ثورة الياسمين التونسية
منير شحود
إنه لمن المبكر الخوض في الاستنتاجات النهائية لثورة الياسمين التونسية، وذلك لأن مجرياتها مازالت تتحول باستمرار، بحيث يصعب التنبؤ بما ستؤول إليه، ومع ذلك يمكن الحديث عن دروس أولية تُطرح للمناقشة في السياق العام للحدث الكبير.
إن أول الدروس المستخلصة هو إن الضغط والركود سيحدثان تحولات مفاجئة تتناسب ودرجتهما، هذا قانون فيزيائي، وينطبق على المجتمعات أيضاً. ويبدو أن حالة الركود والقهر وصلت إلى مرحلة متقدمة في العالم العربي، بحيث لن يكون الأمر مقتصراً على تونس. ومن الواضح كيف وعت السلطات العربية بغريزتها خطورة الحدث على عروشها، فبادرت لمحاولة التخفيف من الاحتقان بالقيام ببعض إجراءات تحسين الأوضاع المعيشية، وكأن الناس يعيشون على المكرمات، وليس لهم حقوق ثابتة! وتتجاهل هذه السلطات أن ثمة عاملاً جديداً، هو الحرية، لن يكون بإمكانها التغاضي عنه بعد الآن.
الدرس الثاني المهم هو أننا كشعوب لم نفقد القدرة على الإحساس بحريتنا، وأنه يمكن أن نحصل عليها بالنضال السلمي المثابر، وبأقل الخسائر، بعيداً عن التدخلات الأجنبية، وبطريقة لا تختلف فيها عن أي شعب متحضر عريق. وبالتالي تسقط أهم ورقة في يد السلطات المستبدة التي تعزو المطالبة بالحرية إلى الضغوط الخارجية والارتباط بالخارج والتآمر. وإن العيش الكريم والحرية السياسية في الشروط الديمقراطية هما وجهان لعملة واحدة، في ظروف منطقتنا على الأقل، وقد فشلت كل التجارب التي حاولت بناء اقتصاد مزدهر على أنقاض الحرية وتحت نير الاستبداد.
ويتمثل الدرس الثالث بأن قمع المعارضة والتعبير والرأي الآخر، ومنع الآخرين من المشاركة بحل مشاكل المجتمع، لن يجدي نفعاً، إنما يؤجل التناقضات إلى وقت يصبح من غير الممكن السيطرة عليها، علاوة على النتائج المكلفة وطنياً.
ويتعلق الدرس الرابع بالجيش الذي يمكن أن يقوم بدوره الوطني في اللحظات الحرجة والمراحل الانتقالية، فيقف إلى جانب الشعب ضد حراس الأنظمة المستبدة والقوى التي كانت تحميها من شعوبها. وتحاول هذه القوى المحافظة على مكاسبها وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وهي رأس حربة الثورة المضادة، ويتجلى دورها اللاوطني في كل الظروف. وبهذا الصدد يمكن المقارنة مع الحالة العراقية التي تم فيها حل الجيش دون وجود بديل على الأرض، ما خلق حالة من التخبط والفوضى، والتي سمحت للقوى الإرهابية والمخابراتية بالتدخل السافر في الشأن العراقي، والقتل بالجملة، وإرباك المحتل. وربما سيكون الثمن الذي دفعه العراقيون، وما يزالون، هو الأغلى على الإطلاق في مثل هذه التحولات التاريخية المتعلقة بمنطقتنا.
والدرس الخامس هو أن النضال الوطني يقتضي توحيد الهدف بشكل واضح، وحشد أكبر عدد من القوى، والعمل دون تشتيت المعارضة، وتأجيل طرح بعض القضايا إلى حين تحقق الديمقراطية، مثل المصالح القومية أو الطائفية؛ لأن من شأن طرح هذه القضايا أن يضع سلاحاً فتاكاً في يد السلطات لتمزيق المجتمع الأهلي وبعثرة قواه. وإن عدم وجود مثل هذه التناقضات هو الذي سهَّل وصول الانتفاضة التونسية إلى أهدافها في هذه المرحلة، وبسرعة قياسية فاجأت الجميع.
أما الدرس السادس فهو مبادرة اللجان الشعبية في الأحياء للمحافظة على الأمن والاستقرار، ومساعدة الجيش في استعادة الأمن بأسرع وقت؛ لأن سلاح القوى المضادة هو نشر الفوضى والخراب، كاستمرار لحالة الفساد المنظم التي تسم البلدان الخاضعة للاستبداد… وهي بذلك تحاول أن تقول للجميع، بما فيه الخارج ، بأنها هي ضمانة الاستقرار الاجتماعي، حتى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة!
والدرس السابع هو إمكانية الاستفادة من بعض القوى التي كانت موجودة في النظام الآفل بهدف التحضير للانتقال دستورياً إلى المرحلة التالية. وتنتهي مهمة هذه القوى بعد الانتخابات العامة، وقد تتكيف مع الواقع الجديد، ولكنها يجب أن لا تفلت عن أعين من صنع هذه التحولات.
تختلف الظروف الموضوعية من بلد إلى آخر، وبالتالي فلا يمكن استنساخ الحالة التونسية في بلدان عربية أخرى. ويفترض ذلك ابتداع طرائق جديدة للتعبير والاحتجاج، قد لا تكون بالضرورة أن يحرق أحدهم نفسه.
كما أن وجود “إسرائيل” في المشرق العربي عامل من عوامل التعقيد، والذي أثَّر ويؤثر وسيؤثر على التحولات الاجتماعية والديمقراطية، وبصورة سلبية على الأرجح. وقد عبر أحد المسؤولين الإسرائيليين مؤخراً عن خشيته من انهيار حالة الاستقرار في البلدان العربية، وخاصة تلك المحيطة بدولته! إن ذلك يحتاج لبحث متأنٍ لاستخلاص العبر لخير شعوب عالمنا العربي.
كاتب وأستاذ جامعي سوري
خاص – صفحات سورية –