في تونس ثورة… مفتوحة الآفاق
ياسين الحاج صالح
لا تعود الصفة الثورية المستحقة للانتفاضة التونسية إلى نجاحها في الإطاحة بنظام الرئيس بن علي، بل إلى نطاقها الاجتماعي والوطني الواسع، ووسائلها الشعبية وغير النخبوية في الاحتجاج العام (غير مسلح، وغير موجه دينيا أو إيديولوجيا)، وفي استمرارها الشجاع شهرا إلى حين الإطاحة بنظام بن علي، وأكثر من ذلك في صنعها واقعا سياسيا واجتماعيا ونفسيا جديدا ما كان يمكن تخيله قبل أسبوعين فحسب.
تسارع التاريخ في تونس يحكم باستحالة توقع مآلات الثورة التونسية، أو حتى التمكن من وصفها بصورة شافية. لكن ظاهر منذ الآن أن آفاق التطور السياسي والاجتماعي والمؤسسي في البلاد مشرعة الأبواب، وأن معنويات الشعب التونسي (ولقد صنع نفسه أو أعاد صنعها عبر ثورته الشجاعة) مرتفعة، وإن مازجها شيء من القلق.
ولقد تصرفت القوى المرتبطة عضويا بالنظام بالصورة المتوقعة منها: بادرت إلى الاعتداء على مؤسسات عامة وأملاك خاصة، وظهرت على حقيقتها كقوى “إرهابية” على ما وصفها بالفعل مثقفون تونسيون، قوى لا تطرح على التونسيين غير واحد من خيارين: إما نحن أو الفوضى، أي نحن أو لا أحد. لكن ظهر بالمقابل أن الجيش التونسي ليس منزوع الصفة الوطنية مثل الأجهزة الأمنية، واستطاع إبطال مسعى تلك الأجهزة العدمي. ولقد ظهر أن في تونس مؤسسة وطنية أخرى فعالة هي الاتحاد التونسي العام للشغل الذي انضم إلى الاحتجاجات بعد حين من انطلاقها، ثم سحب وزراء مقريين منه من حكومة محمد الغنوشي يوم 18/1. أما الحزب الحاكم، ويبلغ عدد أعضائه نحو مليونين (فوق 15% من سكان البلاد)، فقد انخرطت أطراف منه في خطة الفوضى، فيما تخلى رئيس الوزراء ورئيس البرلمان عن عضويتهما فيه، في سياق جرى فيه أيضا حلّ خلايا الحزب الحاكم داخل المؤسسات العامة، واسترجاع أملاك الدولة من الحزب وإنهاء تفريغ كوادره. ولعلها إجراءات تندرج في إطار الفصل بين الحزب الحاكم والدولة الذي دعا إليه مثقفون تونسيون كبار (عياض بن عاشور وعبد المجيد الشرفي وآخرين) والاتحاد العام للشغل. وبينما قد يكون فصل الحزب عن الدولة مفضلا على اجتثاثه، فإن من شأن بقاء دستوريين (ولو “سابقين”) مثل الغنوشي والمفزع في مواقع سياسية نافذة أن يفتح بابا للالتفاف على الانتفاضة ويحد من جذريتها. لكن اللافت أن أصوات مثقفين تونسيين معارضين تفهمت بقاءهما من باب تهدئة الأوضاع، وتجنب مخاطر الفوضى الأمنية، وسحب الذرائع من قوى خارجية قد تلعب دورا تخريبيا، وكذلك للحيلولة دون أن ينفرد الجيش بإدارة البلاد. غير أن أصواتا أخرى تدعو إلى حل الحزب وعدم الاكتفاء بفضله عن الدولة.
وفي المجمل تعكس التراكيب السياسية التونسية القائمة والمرشحة للقيام توازن القوى الاجتماعي والسياسي بين جمهور الاحتجاجات الاجتماعية المتنوع وبين جهات من النظام القديم قد تكون أقل تلوثا، وتسوغ نفسها باستمرارية الدولة. أما الأحزاب والمنظمات السياسية المعارضة فلا يبدو أنها استطاعت فرض وقائع على الأرض أو التأثير الإيجابي على تطور الأوضاع، الأمر الذي ينذر بأن يكون دورها في النظام الجديد شكليا. ولعلها تتمايز منذ الآن إلى أحزاب “شرعية” معترف بها، شاركت بوزراء في حكومة الغنوشي، وأحزاب “معارضة” مثل حزب العمال الشيوعي التونسي وحركة “النهضة” الإسلامية.
تبقى التوازنات التونسية متحركة ورجراجة، ولا يحتمل أن تتخذ صورتها النهائية في وقت قريب.
يعزز من ذلك أن هناك جهات أخرى مؤثرة في محصلتها العامة. من هذه التحركات الغربية حول تونس مثل زيارة مسؤول أمني أميركي كبير للجزائر. لكن من أخطرها ما قد يأتي من ليبيا من مخاطر أمنية. كان حاكم ليبيا هو الوحيد في العالم كله الذي آسف على الرئيس المخلوع ولام التونسيين على ثورتهم على نظامه. ولا تستبعد تقديرات مناضلين ومثقفين تونسيين أن يتسبب نظامه بمشكلات أمنية، مشجعا المتضررين من التغير التونسي في الداخل، ومحركا موازين القوى القلقة في البلاد لمصلحة العسكريين والأمنيين. وفي الوقت نفسه ضامنا رعاية المراكز الغربية لمن يقرر توريثه من أبنائه.
لا يبعد أيضا أن هناك تحركات لا نعلمها حول تونس ومن الجهات الدولية الأكثر نفوذا، الأوربيين والفرنسيين بخاصة. كان موقف الأخيرين مخزيا أثناء الانتفاضة التونسية، وحتى قبل أسبوع واحد من فرار بن علي استطاعت وزيرة الخارجية الفرنسية أن تعرض على الحكومة التونسية مساعدات أمنية من أجل استعادة السيطرة. وبعد حين كرر الفرنسيون وراء الأميركيين اللازمة المكرورة المتحفظة عن الاستخدام المفرط للقوة ضد المحتجين. والحال أن ما يظهر أكثر من أي شيء آخر العمق المرائي لهذا التحفظ هو أنه مأخوذ في الأصل من نظرية الحرب العادلة. وهذه تحيل إلى مواجهات بين دول وجيوش، وليس بين حكومات ومحتجين من مواطنيها. هذا إلا إذا كانت القوى الغربية تعتبر عموم التونسيين إرهابيين معتدين على نظامهم.
تطور الأوضاع في تونس رهن بمحصلة هذه القوى وليست بوعود كلامية من نوع تلك التي أعلنها الوزير الأول محمد الغنوشي من أنه “سيتم الترخيص لكل الأحزاب السياسية التي تطلب ذلك، بما في ذلك الأحزاب المحظورة”. وفي حين اعتبر ذلك إشارة قوية إلى إمكان رفع الحظر المفروض على حركة «النهضة» الإسلامية، فإن الرجل نفسه لم يلبث أن قال إن عودة راشد الغنوشي رهن بعفو تشريعي لكون زعيم “النهضة” محكوم بالإعدام. ويبدو على كل حال أن وضع الإسلاميين ضمن الوضع الجديد هو إحدى العقد التي ستواجهه قريبا، وستكون موضع انشغال الحكومات العربية والقوى الغربية على حد سواء. وبينما لا يستقيم الكلام على حكم ديمقراطي في تونس مع استبعاد الإسلاميين، سيمتحن الإدماج المحتمل للإسلاميين في النظام الجديد خطاب الغنوشي المنفتح في شأن المواطنة والدولة الوطنية والحكم الدستوري المدني والمساواة بين الجنسين والحفاظ على مكاسب النساء التونسيات في مجال الأحوال الشخصية والزواج والميراث. ولقد كان لافتا، بالمناسبة، الصمت المدوي لحداثويي تونس المطلقين وفرانكوفونييها ممن يتمحور تفكيرهم العام حول مواجهة “الأصولية”. لعل الصمت مخرج من تعذر الدفاع العلني عن نظام بن علي، ومن عدم الاطمئنان إلى التحركات الاجتماعية الديمقراطية الراهنة.
يبقى أن فرص الديمقراطية التونسية مرهونة بقدرة الجمهور التونسي العام على فرض حضوره ومطالبه الاجتماعية والاقتصادية في المجال السياسي الجديد، وعدم تركه للسياسيين المحترفين وقيادات الأحزاب. ولعل تجربة اللجان الشعبية التي دافعت عن أحياء وأملاك خاصة، وكذلك الاحتجاجات المستمرة في المدن التونسية هي أقوى ما يعول عليه في هذا الشأن