الثورة التونسية أو دخول العرب في الحداثة السياسية
برهان غليون
بصرف النظر عن الاتجاه الذي ستأخذه في الأسابيع وربما الأيام القادمة، كتبت الانتفاضة الشعبية المستمرة في تونس منذ أسابيع الفصل الأول من تاريخ العرب الجديد، تاريخ الحداثة السياسية التي لم يعرفونها من قبل، بالرغم من مرور أكثر من قرن ونصف على دخولهم التاريخ الحديث.
لقد حقق العرب نهضة فكرية وثقافية لا شك فيها منذ القرن الماضي، وخاضوا حروب تحرر وطني عنيدة، ولا يزالون يخوضون بعضها في فلسطين وغيرها، وبنوا دولا أو بالأحرى هياكل دول حديثة لا تزال واقفة على أقدامها بالرغم مما تعرضت له من هزات عنيفة داخلية وخارجية، وشرعوا بتحولات زراعية وصناعية وعلمية لا تختلف كثيرا عما قامت به الامم الأخرى، لكنهم أخفقوا، على مستوى العالم العربي مجتمعا وأقطاره كل على حدة، في بناء أمة حديثة، أي جماعة سياسية متحدة، متفاعلة ومتضامنة، يرتبط أعضاؤها برباط المواطنية، وتجمع بينهم إرادة العيش المشترك وتأكيد الكرامة الانسانية التي لا تستقيم اليوم من غير مساواة حقيقية، وضمان الحريات الفكرية والسياسية، التي هي قاعدة المشاركة في الجماعة الوطنية والشعور بالمسؤولية وممارسة حقوق المواطنية، والطموح إلى مشاركة فعالة وايجابية بحضارة العصر وقيمه الإنسانية.
والسبب الأول لهذا الإخفاق هو مصادرة السلطة الاستبدادية لبراعم الحداثة السياسية التي لا تعني شيئا آخر سوى تحرر الشعب من الوصايات الخارجية، سواء أكانت دينية او سياسية أو ثقافية، وتحقيق سيادته الفعلية، أي حق كل فرد من أفراد الجماعة الوطنية في أن يفكر بنفسه ويشارك، على قدم المساواة ومن دون إكراه من أي نوع كان، في تقرير شؤونه والشأن أو المصير العام، وفي العمل على تحقيق ما يعتقد أنه يشكل أساس المصالح العمومية. فبروز الشعب وتكونه كفاعل رئيسي بل محور الحياة السياسية والقرارات العمومية هو جوهر الحداثة السياسية، وهو أساس تحويل السيادة الشعبية إلى مصدر السلطة السياسية، ومرجع دائم ومستمر لها، ومكان حسم الخلافات الاجتماعية. وتعني سيادة الشعب، استقلال كل فرد من أفراده وتحوله إلى سيد أمره وفكره، وهذا هو أصل الشراكة الوطنية وشرطها، كما تعني وجود الدولة الحرة والمستقلة عن أي تبعية خارجية، التي تستطيع وحدها أن تحمي سيادة الشعب وتضمن ممارستها بعيدا عن الضغوط والتدخلات الأجنبية.
والحال، ما كادت الشعوب العربية تخرج من شرنقة السلطنات التاريخية وتخطو خطواتها الأولى على طريق الحداثة السياسية حتى انقضت عليها غربان النظم الاستبدادية وردتها إلى ما قبل العصور الحديثة وفرضت عليها الخضوع والانصياع لإرادتها الخارجية التي لم تلبث حتى تحولت إلى إرادة أجنبية. ووجدت نفسها وقد تحولت من جديد إلى كتلة من القاصرين المكرهين، بالقوة أو الحيلة أو الخدعة، على الإذعان لإرادة سيد قائم عليهم، شخصا كان أم نخبة أم حزبا، يقرر في مكانهم ما يصلح لهم ويلغي إرادتهم جميعا حتى تكون إرادته، مطلقة وشاملة، لا إرادة قبلها ولا بعدها.
ومما ساعد على نجاح مصادرة السيادة والحريات الشعبية مجيئها في البداية على يد زعامات كارزمية ونخب سياسية أو اجتماعية وطنية، استخدمتها من أجل أهداف عامة مثل القضاء على الرجعية والنظم التقليدية المهترئة، وتسريع وتيرة الانتقال إلى الحداثة الاقتصادية والاجتماعية والتقنية والعلمية، أو باسم الوطنية والدفاع عن مصالح الشعب والأمة ضد القوى الأجنبية. وهكذا يكاد من الممكن القول إن الشعب قد تخلى عنها بما يشبه الطواعية. لكن في جميع الحالات انتهى التسليم للقيادات التاريخية إلى تكريس وصاية النخب الحاكمة وتحويلها، في نظر نفسها، وبدعم القوى الأجنبية، إلى نخب أرستقراطية لا ترى في الشعوب سوى جماعات من طبقة دنيا، لا وعي لديها ولا إرادة ويالتالي لا حقوق، تتلخص حياتها في تأمين لقمة العيش وخدمة أسيادها الذين يعرفون وحدهم كيف يحمونها من القوى الأجنبية ويعطوا لحياتها قيمة وطنية ومعنى.
وفي سياق النكوص إلى صيغ القرون الوسطى في علاقة الشعوب بحكامها والقائمين على أمرها، كادت المجتمعات العربية تخسر كل ما كانت قد حققته من تقدم في ميادين الحداثة الأخرى، الوطنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية. فخوف النخب المترفعة على الشعب وسعيها لاحتكار السلطة وتخليدها وتأبيدها في يدها دفعها إلى التحالف مع القوى الأجنبية على حساب السيادة والاستقلال، وأنتج أساليب حكم وممارسات وسلوكات فردية وجمعية قائمة على العنف والإكراه والاستتباع والاستزلام، وولد فسادا يكاد يتجاوز ما كانت تعرفع النظم المتفسخة القرسطوية. وأدى إعدام الذات الحرة، وانتزاع الإرادة من كل فرد، وممارسة سياسة الأرض المحروفة لتجريف الثقافة والهوية من القيم الإنسانية، إلى انعدام الشعور الجماعي بالوطنية. وتحول الاقتصاد المنتج لفرص العمل والخيرات التي لا تقوم من دونها حياة اجتماعية إلى اقتصاد مضاربة محركه الرئيسي تسريع مراكمة الثروة والمال عند النخب الممسكة بالسلطة وحلفائها من رجال المال والأعمال. وأدى القضاء على كل أشكال التواصل السياسي والتضامن الوطني إلى إحياء الروابط العشائرية والمذهبية والطائفية، وفي سياقها انتعاش القيم التقليدية المتمحورة حول العصبية الجماعية المعادية للفردية والثقافة العقلانية والحريات الفكرية والروح القانونية. وأكثر فأكثر أخذت المجتمعات العربية تدخل في مناخ من الاحباط والخوف والانغلاق على الذات نتيجة تفاقم غربتها عن العالم الحديث، وتزايد محاولات عزلها وتهميشها وإخضاعها بالقوة من قبل القوى الدولية المسيطرة فيه.
وكما أن سيادة الشعب وتحرره من الوصايات الخارجية وتحول كل فرد فيه إلى سيد مشارك على قدم المساواة في تقرير مصير الجماعة السياسية والمساهمة في رسم مستقبلها، هو الشرط الأول لتفتح الحداثة في جميع الميادين والمستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن نزع الحرية والاستقلال عن الدول والأفراد، يخلق التربة الملائمة لتخريب وإفساد نشوء أي مشروع اقتصاد حديث ويقضي على احتمال نشوء علاقات اجتماعية وطنية أساسها الرابطة الحرة بين الأفراد، أي على احتمال ولادة أي عقد اجتماعي. كما يقضي على أي أمل بتطور ثقافة حديثة أو أخلاق مدنية ترتقي بالفرد إلى ما فوق ثقافة المحاكاة والتقليد وإرضاء الغريزة والتماهي مع العصبية البدائية أو الفطرية.
لذلك كان تأكيد سيادة الشعب، وهو ما استدعى أحيانا حضور الجمهور جسديا في الشوارع والقيام بثورات دموية، جوهر الحداثة السياسية. وهذا هو أصل الثورة الديمقراطية التي لا يزال تعميمها محور التفيكر الاجتماعي الحديث في العالم أجمع. وهو أيضا الإنجاز الأعظم للثورة التونسية التي أعادت إدخال تونس، والعرب جميعا من ورائها، في التاريخ العالمي الذي جهد الكثير من القوى الأجنبية والعربية، خلال عقود عديدة متواصلة، لإخراجهم منه.