انتفاضة الجزائر المجهضة: فتِّش عن النُخب
عثمان تزغارت *
لم تفضح حركة الاحتجاجات التي هزّت الجزائر، في الأسابيع الأخيرة، عجز الحكومة وإفلاس النظام فحسب، بل أسقطت ورقة التوت أيضاً عن النخب السياسية والثقافية والمجتمعية للبلاد.
دَعْ عنك نقد النظام المترهّل، ولا تُجهد نفسك في محاولة تقويم الأداء الحكومي. فما عساك تقول عن سلطة تمتلك، بين يديها، كنزاً من الفائض المالي المقدّر بـ150 مليار دولار، وتقف حائرة لا تعرف كيف يمكن أن تعيد إطلاق عجلة التنمية؟ لو أنّها جلست فوق هذا الكنز وحضنته كالدجاجة، لربما «باض» لها من الفوائد ما يغنيها عن رفع أسعار الخبز والزيت والحليب.
انظرْ، وأجرك على الله، إلى الحال المزرية للنخب التي يُفترض أن تمثّل طليعة المجتمع وبوْصلته ولسان حاله. اطرحْ جانباً تلك اليوتوبيا الجميلة، الموروثة عن الثورة الفرنسية، التي تحلم بـ«سلطة المثقف» ودوره الطليعي في صناعة الرأي العام. ففي ظل مدّ العولمة الزاحف، وسلطة المال التي سلّعت كل شيء، أصبح ذلك مجرد ذكرى من الماضي الجميل، حتى في بلد فولتير ذاته! اكتف بمدّ يدك إلى أقرب قاموس، للبحث عن أبسط تعريف لكلمة مثقف. خُذ مثلاً هذا التوصيف: المثقف هو من ينتج «المعنى». ما رأيك؟
إذا أسقطتَ هذا التوصيف على تجربة الانتفاضة التونسية الأخيرة، فستفهم كيف أمكن الشرارة، التي اشتعلت بإقدام الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه في حركة احتجاجية فردية ورمزية، أن تتحول إلى ثورة شعبية عارمة، انتهت بإطاحة النظام. من الذي «أنتج المعنى» هنا؟ ومن منح لهذه الحركة دلالاتها وأبعادها السياسية؟ إنّها النخب التونسية، متمثلة في النقابة العامة للشغل ورابطة حقوق الإنسان وتجمّع النساء الديموقراطيات، وغيرها من الفعاليات الاجتماعية والسياسية، على اختلاف انتماءاتها ومشاربها ومرجعياتها، بدءاً بالرعيل القديم من مناضلي اليسار الثوري، وفي مقدمتهم المناضل الطليعي الكبير حمّة الهمامي، وصولاً إلى شباب «الثورة الرقمية»، الذين احتضنوا النقمة الشعبية عبر صفحات الفايسبوك والمدوّنات وأغاني الرّاب، فأدى تكاتف كل ذلك إلى إسقاط حاجز الصمت وانتقال الخوف إلى المعسكر الآخر.
في المقابل، لماذا أُجهضت الانتفاضة الشبابية التي اندلعت في الوقت ذاته في الجزائر؟ وما موقع النخب الجزائرية من ذلك؟
حين التهبت البلاد بانتفاضة الشباب الناقم على تردّي أوضاع المعيشة وانسداد آفاق المستقبل، سمعت الدكتور سعيد سعدي، الزعيم المعارض ـــــ الحداثي ـــــ العلماني، يتحدث على «فرانس تلفزيون». لم أدر هل يجب أن أجهش بالبكاء أم أستلقي على ظهري من الضحك؟ فهو كرّر في تعليقه على الاحتجاجات الأخيرة الخطاب الراديكالي ذاته، الذي أطلقه غداة انتفاضة الشباب الأولى في تشرين الأول/ أكتوبر 1988، مستنكراً فساد النظام وتسلطه. كأن هذا «المعارض الأزلي» لم يخض حتى الركب في مستنقع الفساد والتسلط ذاته، ولم يكن على الدوام، منذ ما يقارب عشرين عاماً، طرفاً فاعلاً ومتنفّذاً في مؤامرات حبك وتزوير نتائج انتخابات الرئاسة ومجالس النواب، وفق «الكوتات» المفصّلة على هوى المؤسسة العسكرية ومقاسها.
انظرْ اليوم إلى ما آلت إليه أحوال النخب السياسية «المعارضة» في الجزائر، إسلامية كانت أو علمانية، وطنية أو أممية أو جهوية. تجدها أشبه بتلك الطيور المسكينة التي نشاهدها على شاشات التلفزيون، كلما حدث تلوّث بترولي، وقد تلطّخت أجنحتها بالنفط، فتعجز عن الحركة أو الطيران. فماكينة الفساد الجهنمية التي أطبقت على أنفاس البلاد منذ عشرين عاماً، التهمت كل ألوان الطيف السياسي، وأصبحت أشبه بالغول الأسطوري الذي تروي حكايات جدّاتنا أنّه ذو «كرش» رهيبة تعيش وتتصارع فيها كائنات من مختلف الأصناف والأجناس.
اذهبْ إلى المحميات الأمنية في الضاحية الغربية للعاصمة، إذا عثرتَ على شفيع يمنحك إذناً، «Laisser passer»، لدخولها، وقل لي بربك أليست مثل «كرش» الغول الأسطوري؟ هناك في تلك المجمّعات التي تنعم بحماية النظام، تتعايش بمنتهى الأخوّة والتناغم مختلف «النخب السياسية» للبلاد، العلمانية منها والإسلامية، المعرّبة والفرانكوفونية والأمازيغية. لا تصدِّق ما تقرأه في الصحف أو تسمعه في التجمعات السياسية أو على شاشات الفضائيات أو مقاعد البرلمان عن خلافات سياسية أو فكرية في ما بينها. لا يغرّنك الأمر، فتلك مجرد لعبة مسرحية موجهة للاستهلاك الشعبي. في نهاية المطاف، الجميع يأتمر بمرجعية عليا واحدة اسمها الريع النفطي.
إذا تركتَ الساسة جانباً، والتفتَّ إلى «القوى الحيّة» للمجتمع، فستكون صدمتك أشدّ. وحدها حفنة قليلة من الصحافيين تحاول أن تجذّف عكس التيار، وتقاتل لإسماع نبرة مغايرة. كأنّ قدر الصحافة في الجزائر أن تؤدي على الدوام دور المعارضة، وأن تحلّ محلّ الأحزاب والنقابات ورابطات حقوق الإنسان وتنظيمات المجتمع المدني.
عدا عن ذلك، هل سمعتَ عن مبادرة أطلقتها نقابةٌ أو جمعيةٌ نسوية أو شبابية أو نادى بها مثقفون أو فنانون أو أكاديميون؟ لا شيء على الإطلاق. اللهم سوى تلك الحملة التي فاحت منها رائحة الأجهزة الأمنية، والمتمثلة في علم وطني كُتبت عليه عبارة «نعم للاحتجاج، لا للتخريب»، وتحوّلت بسرعة إلى شعار تلقّفه الجميع على الإنترنت، كُتّاباً ونقابيين ورجال سياسة وناشطين اجتماعيين. حتى زعيم «جبهة الإنقاذ» المحظورة، الشيخ علي بلحاج، الذي كان في طليعة الانتفاضة الشبابية في تشرين الأول/ أكتوبر 1988، أصابته العدوى، فنزل إلى الشوارع ـــــ كما قيل ـــــ لدعوة الشباب إلى تفادي التخريب.
النخب التونسية احتضنت الحركة الاحتجاجية، وعملت على تأطيرها ودعمها، بما أدى إلى ولادة ثورة شعبية. أما نُخب الجزائر المفلسة، فلم تجد من «معنى» تمنحه لانتفاضة الشباب سوى «التخريب». عجباً لنُخب كهذه، تواطأت على مدى عشرين عاماً في نهب وتبديد خيرات البلاد وثرواتها، الطبيعية والبشرية، وأسهمت في ابتذال اللعبة السياسة، وحوّلت المنابر الثقافية والإعلامية إلى أبواق تروّج لهذا الجناح أو ذاك في النظام الاستبدادي المترهّل، وجعلت من الاقتصاد ماكينة ضخمة لا تنتج سوى الفساد والريع الحرام (هل تعلم، حفظكَ الله، أنّ مقدار الاختلاسات التي نُهبت من مشروع بناء «الطريق السريع شرق ـــــ غرب» تعادل ميزانية الدولة الموريتانية لسنة كاملة؟ وأنّ تقديرات المؤسسات المالية الدولية تشير إلى أنّ حجم السرقات التي تحصل من الخزينة العمومية الجزائرية سنوياً يعادل ميزانيات كلّ دول إفريقيا جنوبي الصحراء مجتمعة؟). ثم ها هي النخوة الوطنية تجتاح هذه النخب، فجأة، فإذا بها تنتفض رافعة شعار: نعم للاحتجاج لا للتخريب، داعية إلى حماية المنجزات وتحصين المصالح العليا للوطن.
أي وطن وأي بطيخ أحمر؟ وطن بلا كرامة، ما حاجتنا إليه؟ فليأكله الجراد.
* كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس